قضايا

سناء أبو شرار: العلاقة بين الأدب والواقع الإجتماعي

يمكن للأدب أن يكون صورة عن الواقع الإجتماعي بأبعاده النفسية والفكرية والشعورية والمادية، بل قد يكون الأدب الضوء الذي يتم تسليطه على معاناة معينة ويتم لفت نظر المجتمع لهذه المعاناة وبالتالي إيجاد حلول جذرية لها، أي أن الأدب يمكن أن يكون مرآة لكل ما يدور في المجتمع وبقدر جديته وتركيزه على القضايا الانسانية يكون نجاحه بأن يتحول لجزء من الواقع الإجتماعي وليس مجرد إنعكاس له، فكم من الروايات غيرت مجرى حياة الكثير من الناس بل غيرت مفاهيم متجذرة في المجتمع . ولكن الأدب أيضاً له وجه آخر وهو الوجه الخيالي، أن يتمكن الأديب من نقل القاريء العادي إلى عوالم من الخيال الذي لا يمكنه أن يتخيله كشخص عادي، أن تتحول الرواية الخيالية إلى رحلة إلى مجهول آخر جميل ومثير ومحرك للذكاء والفضول، يعلم القاريء والكاتب أنهما يبحران في عوالم خيالية ولكنهما قُبِلا ومنذ البداية على الذهاب في تلك الرحلة عبر الخيال والخيال فقط، فيطلق كل منهما العنان لمشاعره وأفكاره بالإبحار لتلك العولم الخيالية بلا قيود ولا حدود لزمان أو لمكان، بل قد يبدو أن هذا الأدب الخيالي من أجمل ما يعتري النفس البشرية بتحرريها من كل ما هو واقعي، وهذا الخيال يمنحها بعداً آخر للواقع الذي تعيشه، فهي تخرج من قيودها عبر الأدب الخيالي وترحل معه بعيداً عن الواقع وحين تعود لواقعها تعود محملة بكل تلك الصور الخيالية، فيحصل المزج ليس بين الصور الخيالية والواقعية بل يحصل المزج في عالمين من الشعور لأن الشعور لا يفرق بين ما هو خيالي وما هو واقعي، لذلك يحلق الشعور بالقاريء إلى فضاءات أخرى حتى ولو كانت أفكاره متجذرة في العالم الواقعي. وحين يكون الأدب صورة عن الواقع لابد أن يكون شديد النقاء وشديد الدقة في نقل تلك الصورة الواقعية، لأن الخيال يسمح بالإلتفاف حول الأفكار ولكن الواقع لا يسمح بذلك ولا يسامح على ذلك الإلتفاف، حين يكون الأدب واقعياً لابد أن يكون حزيناً حين يكون الواقع حزين، لابد أن يكون غاضباً حين يكون الواقع غاضب، لابد أن يكون مملاً حين يكون الواقع ممل، الأدب الواقعي عالم جدي جداُ ولابد أن يكون الأديب على درجة من المسؤولية والإدراك حين يكتب عنه لأنه لا ينقل صور فقط بل يرسم حياة بأكملها على الأوراق ولا يُسمح له بتزوير ما هو واقعي .

إذا كان الواقع خارج ذواتنا ثابت ولكنه بأعماقنا ليس ثابت، فنحن نرى الواقع بمنظار المشاعر والأفكار ونحاول أن نفهم الواقع عبر ما يدور بأعماقنا، فيكون دور الكاتب رؤية الواقع واستقراء ما يدور بداخل الأشخاص من حوله، أي أنه راصد للواقع وبذات الوقت يحل شيفرة الذات الداخلية لانسان، لأن الحياة ليست الواقع فقط، بل هناك عوالم أخرى تمتد لأبعد من الواقع الذي نحياه وعالم الفيزياء يؤكد هذه الحقيقة بجميع ابحاثه العلمية، ويبلغ إبداع الكاتب أقصى حدوده بمقدار تجاوزه لحدود هذا الواقع وبمقدر سبره للأعماق الدفينة لما يدور في الذات البشرية وإستشعاره لتلك العوالم الأخرى خارج حدود الواقع وأبعد من حدود النفس البشرية.

ولكن ما الذي يبحث عنه الكاتب حين يكتب عن الواقع؟ هل يبحث عن الحقيقة، الإثارة، أم أن يجعل كتابه أكثر مبيعا حتى ولو كتب عن كل أنواع الشذوذ الأخلاقي والنفسي مقابل شهرة دائمة أو مؤقتة؟  الكاتب الباحث عن الشهرة وتألق الأسم مهما كان الواقع الذي يكتب عنه، يبقى كاتب ولكنه لا يلبي المطلب الانساني والأدبي الأول وهو البحث عن الحقيقة، لأنه لم يبحث عن الحقيقة ولكنه بحث عن النجاح عبر ما لفظه المجتمع وأحتقره من تصرفات أو أفكار، لا يمكن أن يكون أديب ولكنه ناقل للغرابة للإثارة وبأي ثمن، القاريء حين يقرأ كتابته لا يقرأ له فعلياً ولكن يقرأ عن الغرابة والشذوذ وما خرج عن المألوف، أما الأديب الحقيقي فهو من جذب القاريء لكتابته عبر الأبعاد الانسانية المتجذرة في الذات البشرية، فمهما ابتعدت هذه الذات عن قيمها الانسانية تشعر دائماً بالحنين لهذه القيم وحين تجدها في أدب لم يتجاهلها تستعيد اطمئنانها بأنها لم تفقدها تماماً بل قد يُعيد الأدب لها الرغبة بأن تعود من جديد لهذه القيمة لأنه بدونها أصبح انسان آخر أقل انسانية . الأديب الحقيقي هو من حافظ على ملامحه الانسانية في كل المواقف وفي كل السطور والصفحات، لم يحافظ على هذه الانسانية ليبدو أجمل ولكن لأنه و ببساطة لا يستطيع أن يعيش بدونها لا يستطيع أن يكتب بدونها، لذا يبدو أن أكثر الدباء العالميين شهرة هم أكثرهم انسانية ورقة وشفافية .

قد يكتب الكاتب عن الواقع  ولكن مهمته الأساسية هو أن يكشف ما يقبع خلف الواقع من مشاعر، مشاعر قد تكون نبيلة وقد تكون وضيعة، قد تكون مثالية وقد تكون مادية ولكنها المحرك لكل التصرفات الانسانية، قد تنحرف بسبب الطمع والحقد، وقد تتخذ المسار الصحيح بسبب الحب والنزاهه، جميع الأعمال الأدبية تحمل ذلك الوجه الواقعي للعمل الروائي ثم تحمل ذلك الوجه الخفي لما يدور في الذات البشرية وما يدور في الذات البشرية يبدو أكثر تعقيداً مما يدور في الواقع الحسي، لأنه بداخل هذه النفس تكمن جميع المشاعر، جميع الرغبات، جميع التطلعات وايضاً آخر محطات اليأس والانسحاب غير المعلن.

ولكن هل الأدب يأخذ دور المصور الفوتوغرافي للواقع؟ إذا أكتفى الكاتب بأن يأخذ دور المصور فهو فعلاً يكون مصور فوتوغرافي ليس بالكاميرا الخاصة به بل بالكلمات والحروف والجمل، وهو بذلك لا يُضفي شيء جديد للقاريء، كل ما يفعله هو أن يزود القاريء بالصورة ونجاحه لا يكمن إلا بمقدار صفاء الصورة، وهو لا يفعل سوى اعطاء القاريء فرصة رؤية الواقع مرتين ليس إلا . ولكن العمل الأدبي الفني لا يكتفي بأن يأخذ دور الكاميرا بل يمنح للواقع صور أو حتى عدة صور مختلفة الألوان والحركة والتفاعل، يضع رؤية جديدة لكل تفاصيل الصورة، لأنه يرى الأحداث من منظار متعدد الأبعاد والزوايا وليس من منظار الكاميرا المحدود، الأديب الفنان يرى الواقع من عدة أبعاد وليس من بعد واحد، يكتب عما هو بسيط بلغة عميقة، ويكتب عما هو معقد بلغة بسيطة لأنه يفكك الواقع ويعيد تشكيله برؤية الانسان الأديب وبمقدار وعيه الانساني والثقافي تأخذ هذه الصورة الواقعية أبعاد أوسع، ولهذا يبدو أن الأديب الحقيقي له دور غير دور الكتابة الأدبية، له دور إيجاد الحلول أيضاً لمشاكل انسانية لأنه يرى العالم بمنظار متعدد الأبعاد .

من ناحية أخرى، لابد أن نتعلم كيفية قراءة الأدب، خصوصاً لمن قرأ الكثير من الأعمال الأدبية، لابد أن تتوفر مهارة رؤية كل عمل أدبي بنظرة جديدة ودون افكار مسبقة تقارنها أو تشبهها بعمل آخر، فمهما تشابهت الأعمال الأدبية خصوصاً حين تتحدث عن الواقع فإن روح كل كاتب تختلف عن الآخر، وعملية الكتابة عملية روحية بالدرجة الأولى رغم كونها تتصل بجميع العلوم الأخرى، ولكن العلاقة الأصلية والأساسية بين الكاتب وما يكتب هو صلة روحية مع ما يكتب، ما دفعه للكتابة ليس الألم أو الفرح وإلا يمكن لكل انسان يتألم أو يفرح أن يكتب، ما دفعه للكتابة هو نداء الروح بأن تتسلل الكلمات بهدوء دون هدف ودون غاية لتبدأ بنسج تلك العلاقة الأدبية بين الكاتب وأوراقه، هذه العلاقة الروحية تنشأ حين يكتب أول سطر ولا يدركها في البداية ولكنه مع استمراره في الكتابة يستشعر هذه العلاقة بقوة أكبر، لا يستطيع وصفها لأنها خارج حدود الوصف، ولكن كل ما كتبه يحمل طيف هذه الروح الشفافة الخفية .

وأخيراً، لكي نستمتع حقاً بالأدب لابد أن نتخلى عن جميع أفكارنا حول الموضوع الذي نقرأ عنه أن نقرأ وكأننا لا نعلم، أن نقرأ وكأننا نشعر لأول مره، أن نقرأ وكأننا برحلة اكتشاف الحياة، وحين ننتهي من القراءة يمكن لنا أن نستعيد أفكارنا المسبقة ونكتشف إن كنا قد اضفنا شيء أجمل أرفع أنقى لأفكارنا أم أننا اضعنا الوقت والجهد بقراءة ما لا يستحق القراءة . قراءة الأدب لا يجب أن تخضع للنقد خلال القراءة ولكنها تقدم نفسها طواعية للنقد بعد القراءة خصوصا حين يكون هذا الأدب يتحدث عن الواقع.

***

د. سناء أبو شرار

في المثقف اليوم