قضايا

سمير البكفاني: آباء الكلام.. يوسف زيدان واللاهوت العربي مرةً ثانية

لعبت منطقة الهلال الخصيب، ومحيطها الجغرافي، المُمْتَد شمالاً، من الشام إلى العراق؛ وصولاً إلى عُمق الجزيرة العربية، جنوباً. تلك الجغرافيا، التي تَكَوَّنَت أفكار ساكنيها، وثقافتها، ودياناتها القديمة، في فلك الثقافة العربية التي كانت سائدة، قبل المسيحية، بقرون طويلة من الزمان. والتي كان لها، حضاراتها، وممالكها، التي لَعِبَت أدواراً مهمة، في تاريخ المنطقة، والعالم.

تلك المنطقة؛ التي أطلق عليها مفكرنا الكبير د. يوسف زيدان تسمية (اللاهوت العربي) هذا المصطلح الذي يستخدم للمرة الأولى في مثل هذه الدراسات والأبحاث؛ هي منطقة (العروبة) التي توسطت، وتداخلت مع دائرتي، الانتشار المسيحي، والانتشار الإسلامي، الذي ظهر فيها من بعد. والتي وصفها د. زيدان بأنها، الدائرة المشتركة التي عاشت زمانين، الأول مطمور والآخر مشهور. وأعني بالمطمور يقول د. زيدان: الزمنَ السابق على ظهور الإسلام، وهو الزمن المسمى اتفاقاً بالزمن (الجاهلي) مع أنه كان زمناً عربياً مديداً، مجيداً. غير أن مجد العرب الممتد في الزمن (الإسلامي) كان من السطوع في وعينا، بحيث حَجَبَ المرحلة السابقة على الإسلام من حياة العرب، وتركها حالكةً في ناظرينا، بل مهملةً مظلمةً.

شهد قلبُ الشآم الكبير، والعراق، هرطقاتٍ متوالية التوالد يصعب تحديد زمن ظهورها الأول. وهذه الاجتهادات الهرطوقية العربية، الساعية إلى تأسيس لاهوت مسيحي، مضاد للكريستولوجيا الأرثوذكسية وهيمنة المؤسسة الكنسية؛ ظهرت كلها في محيطٍ جغرافيٍّ محدد، وبين جماعة بعينها من الناس. فكان ذلك المحيط الجغرافي وكانت تلك الجماعة، هما بذاتهما المجال الذي ظهر فيه، بعد ظهور الإسلام، ما سوف يسمى بعلم الكلام..

ظهرت بواكير علم الكلام، في النصف الثاني من القرن الأول الهجري. وذلك عقب انتشار الإسلام في البلاد المحيطة بجزيرة العرب، واستقراره فيها. كانت هناك بدايات (تراجيدية) انطلق منها علم الكلام ذاته، في منطقة الشآم الكبير والعراق. فقد ظهر هناك، قبل المعتزلة والأشاعرة، جماعةٌ من أوائل المتكلمين، كانوا بمنزلة (آباء الكلام) إذا ما استعرنا من التراث المسيحي السابق عليهم تعبير: آباء الكنيسة.. هؤلاء الآباء المسلمين، الذين استكملوا الطريق الذي سار فيه أسلافهم المسيحيون العرب، فظهر معهم، وبهم (علم الكلام).. وكان هناك، أربعة من أوائل المتكلمين، هم مَنْ حازوا على لَقْب، آباء الكلام، وهم:

مَعْبَدُ الجُهني: كان الجهني، عربياً من قبيلة جهينة، وقد عاش في البصرة، وتم وصفه (بنزيل البصرة) أي أنه كان يعيش بالمحيط الثقافي العربي، الذي عاصر المسيحية قروناً. وكان مَعْبَد معدوداً من (علماء) القرن الأول الهجري.. وقد دارت آراؤه الكلامية، أو بدعته (هرطقته) حول نقطةٍ وحيدة، هي نفي الَقدَر.. التي تَجَلت، برفضه، ومناقضته؛ للمذهب الجبريَّ الذي حرص الأمويون على تعميمه بين الناس، لقبول الحكم الأموي باعتباره من الله، وأن الإنسان عموماً ليس بيده شيء، لأنه لا يملك دفعاً للمقادير الإلهية. لأن الله له مشيئة واحدة، لابد أن تتحقق! وقد صيغ، في مقابله، المذهب (القدري) صياغته الأولى، في عبارة مشهورة تقول: لا قَدَرَ والأمرُ أُنُف. وهو ما يُفهم منه أن الأمر، أو السلطان، مفروضٌ بسطوة الحكام رغم أنف المعارضين؛ ولا شأن لذلك بالقضاء والقدر (الإلهيين) فالمفروض على الناس، فرًضَهُ أُناسٌ آخرون، لهم مصلحة بذلك.

وقد صار معبد الجهني، هذا الأب المؤسِّس، الذي تتلمذ للنصارى، لرجلٍ اسمه سوسن، أستاذاً لواحد من مشاهير آباء المتكلِّمين، هو غيلان الدمشقي.

غَيلانُ الِّدمشقي: عاش (غَيلان) في القرن الأول الهجري، في مدينة دمشق الذي نُسِب إليها. وكان يقيم في زقاقٍ فقير قرب أحد أبواب دمشق، اسمه: باب الفراديس. ومعروفٌ أن دمشق واحدةٌ من معاقل (العروبة) في المسيحية والإسلام. وكان غيلان على صلة بالخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز (خامس الخلفاء الأمويين) وقد عهد إليه الخليفة بتصفية أموال الظالمين من أقاربه، فأخذ غيلان ينادي لبيعها للناس في المدينة، صائحاً: تعالوا إلى متاع الظلمة، تعالوا إلى متاع الخونة.

ومذهب غيلان الكلاميُّ، أو بدعته، أنه قَرَّر ما يوافق مَعْبَداً القائل بالحرية الإنسانية، فصار يخالف في الوقت ذاته ما كان الأمويون يؤكِّدونه من الجبرية، ومن تقريرهم، أن كل ما كان، وما هو كائن، وما سوف يكون، إنما هو أمر الله وقَدَرُه.. غير أن غيلان ناقضهم في ذلك حين قرر ضمناً، أي من دون تصريح، أن الإنسان مختارٌ وأنه سوف يُحاسب على اختياره. وقد رفض الخليفة عمر بن عبد العزيز (صديق غيلان) كلامه وآراؤه، وشدد عليه في عدم مناداته بالحرية الإنسانية. ثم قتله الخليفة هشام بن عبد الملك، بسبب هذه الأقوال (القدرية) وبسبب الذين شَّهر بهم من بني أمية، والذي وصفهم بالظالمين والخونة.

الجعدُ بن دِرهم: هو ثالث (الآباء) المؤسسين لعلم الكلام، عاش بالشام وفي دمشق تحديداً، وكان مؤدِّباً لأبناء الخلفاء. وهو مؤدِّب الخليفة مروان بن محمد، آخر ملوك بني أمية، الذي سُمِّي (مروان الجعدي) نسبةً لأستاذه. ويتلخص مذهب الجعد بن درهم الكلامي، في أنه كان يقرِّر أن الله مُنزَّهٌ عن صفات الحدوث، وكان ينكر بعض الصفات الإلهية القديمة، ومنها صفة الكلام. مما يعني أنه يرفض، بالتالي، القول (القرآني) بأن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وأنه تعالى كلَّم موسى تكليماً. لأن ذلك فيما يرى الجعد بن درهم، لا يمكن أن يجوز حقيقةً على الله. ولم يتوسَّع المؤرِّخون في بيان (المعتقد) الذي قال به الجعد بن درهم، وإنما اكتفوا بتلك الإشارات الواردة أعلاه، وعَدُّوها دليلاً على زندقته (هرطقته)..

الجهم بن صفوان: هو صاحب أول (كلام) متماسك، وآخر آباء الكلام، وأخطرهم جميعاً حسبما رأى معاصروه الذين فتكوا به، وفقهاء الإسلام اللاحقون الذين شنَّعوا به ووصموه بأبشع التهم.. وُلد أبو محرز الراسبي، المعروف بالجهم بن صفوان سنة (80هجرية) وانتهت حياته نهايةً مريعة سنة (128 هجرية). وفي ترجمة موجزة، (للذهبي) عرَّف بها الجهمَ قائلاً: جهمُ بن صفوان، الكاتبُ المتكلِّمُ، أسُّ الضلالة ورأس الجهمية. كان صاحب ذكاء وجدال، كتب للأمير حارث بن سريج التميمي. وكان ينكر الصفات، وينزِّه الباري (الله) عنها..، ويقول بخلق القرآن، ويقول إن الله في الأمكنة كلها.

وقد أخرج علماءُ الاسلام (الجهميةَ)، جملةً، من دائرة الإسلام. وهو ما يظهر من (فتوى) الإمام ابن تيمية الحاسمة التي نصُّها: اتفق سلفُ الأمة، وأئمتها، على أن الجهمية من شَرِّ طوائف أهل البدع، حتى أخرجهم كثيرٌ (من العلماء) عن الاثنتين والسبعين فرقةً (الإسلامية)...

وقد لقي آباءُ الكلام مصائرَ مفزعةً تذكِّرنا بعصر الشهداء، ومعاناة آباء الكنيسة الأوائل. فالجهم بن صفوان قتله الأمير (سَلْم بن أحوز) بأصبهان، مع أن الجهم كان لديه عهد أمان من الأمير، أبن القاتل! ولما ذكر له الجهم ذلك، رد عليه سًلْم بقوله: ما كان ينبغي له أن يفعل، ولو فعل ما أمَّنتك، ولو ملأتَ هذه الملاءة كواكب (دنانير) وأبرأك إليَّ عيسى ابن مريم، ما نجوتَ. والله لو كنت في بطني، لشققتُ بطني حتى أقتلك.. وقتله.

وقُتل الجعد بن درهم قتلةً أشد فظاعة مما لقيه تلميذه الجهم، فقد قتله الأمير خالد بن عبد الله القسري، بجامع واسط بالعراق. وقع هذا الأمرُ الشنيعُ صبيحةَ عيد الأضحى. كان الجعد مسجوناً في سجن الأمير، فأخرجوه مُقيَّداً بأغلاله، فَجْرَ يوم العيد، وجاءوا به إلى المسجد الجامع فأجلسوه أمام الناس، تحت المنبر. وفوق المنبر راح الأمير خالد القسري يلقي خطبة العيد، التي انتهى منها بقوله للحاضرين: "ارجعوا فاضحُّوا، تقبًّل الله منكم، فأني مضحٍّ بالجعد ابن درهم".. ونزل فاستلَّ سكيناً وذبح الجعد، تحت المنبر، وسط المصلِّين، والناسُ ينظرون.

وقُتل غيلان الدمشقي بأشنع مما سبق. قتله الخليفةُ هشام بن عبد الملك في مجلس الخلافة. روى ابن عساكر في تاريخه ما ملخَّصه أن الخليفة الحانق على غيلان من قبلها بسنين، زعق فيه: "مُدَ يدك". فمدَّها غيلان، فضربها الخليفةُ بالسيف فقطها. ثم قال: "مُدًّ رجلك". فقطعها الخليفة بالسيف الباتر... وبعد أيام مَرَّ رجلٌ بغيلان، وهو موضوعٌ أمام بيته بالحيِّ الدمشقي الفقير، والذبابُ يقع بكثرة على يده (المقطوعة) فقال الرجل ساخراً: يا غيلان، هذا قضاءٌ وقدرٌ! فَردَ عليه: كذبتَ، ما هذا قضاءٌ ولا قَدَر.. فلما سمع الخلفة بذلك، بعث إلى غيلان مَنْ حملوه من بيته، وصَلَبه على أحد أبوب دمشق.

ومات مَعْبَد الجهني مصلوباً أيضاً، بعدما أُهينَ إهانات مريرةً.. يقول الذهبي: كان الحجاج بن يوسف الثقفي يعذِّب معبداً الجهني بأصناف العذاب، ولا يجزع.. وقال سعيد بن عُفير: في سنة 80 (هجرية) صلب عبد الملك بن مروان (الخليفة)، معبداً الجهني، بدمشق.

وعلى هذا النحو، دفع آباءُ الكلام ثمناً باهضاُ لهذه (الأفكار) التي طرحوها على الناس في زمانهم، فنظر إليها معاصروهم على أنها كُفْرٌ (هرطقة) ورأى فيها الحكامُ وبعضُ علماء السُّنَّة المسلمين (الأرثوذكس) المتشددين، خروجاً عن الدين. خاصةً أن كلام الآباء الأربعة المذكورين، ارتبط بالتطبيق الواقعي للمعتقدات الخاصة بالحرية الإنسانية ونفي الصفات الإلهية التي تأوَّلها الحكام، بحيث تجعل أفعالهم قضاءً وقدراً، على اعتبار أن هناك إرادةً ومشيئةً إلهية واحدة (مونوثولية) لا مجال فيها لاختيار الإنسان.

وفي الختام: أرى، أن تلك الارهاصات المبكرة، والاجتهادات (الكلامية) اللاهوتية؛ التي ظهرت من خلال، المتكلمون الإسلاميون، عامةً، والآباء المؤسسين لعلم الكلام، بشكلٍ خاص؛ كانت تُبَشِّر، وتَعَد، بتأسيس فلسفة (لاهوتية عربية) تُنتِج ثقافة، وفكر عربي وإسلاميّ، قوامه، العقل والمنطق. لذلك، تم قمعها في مهدها، مبكراً، بعنفٍ ودموية قلَّ نظيرها؛ عندما استشعر الحكام خطرها، على ممالكهم. وهكذا، سادت سياسة العُنف والتكفير، وتكرَّست، إلى يومنا هذا!

إلى اللقاء..

***

سمير البكفاني – كاتب سوري

في المثقف اليوم