قضايا

سامي البدري: رصاصة جيب التاريخ الأخيرة

مع بداية كل حرب تخوضها الدول الكبيرة، اقتصادياً وعسكرياً، يجري الحديث عن نهاية التأريخ أو أن تكون، تلك الحرب، الرصاصة الأخيرة في جيب التاريخ التي ستوقف عجلته، أي عجلة الحياة التي يسجل حركتها وأوجه تطورها التاريخ.

نظرة سريعة واقعية لمسيرة الحياة على هذا الكوكب المظلوم (بنا وبتاريخنا)، ومسيرة تطورها من عصور الكهوف والحياة البدائية، تخبرنا أن لا الحياة ولا مسيرة التأريخ قد بدأت بأمر جميل، من مثل اكتشاف العجلة أو البنسلين أو علم الجراحة، بل تخبرنا أن ما نطلق عليه التاريخ، كفاعل حركي، سياسي وتطوري، رسم مصير البشرية وأوجه تطورها المدني والحضاري، إنما قد بدأ بحرب، ولدت حروباً، تتابعت، وعلى ما يبدو فإنها لا تريد أن تتوقف إلا بتوقف الانسان (عن الحياة) أو نهايته بصورة نهائية، وبالتالي نهاية تاريخه.

يفترض، ومن الناحية الحضارية والمعرفية/ الثقافية، أن الحربين الكونيتين، واللتين جرتا على أرض القارة الأكثر تحضراً وتطوراً، معرفياً وعلمياً، أن لا تحدثا أبداً، ولكنهما حدثتا، وحدثت الحرب الكونية بالذات بعد اكتشاف البنسلين وغيره من المنجزات العلمية الكثيرة.

هل أعدد للقارئ عدد الحروب التي قامت بها دول العالم المتقدم بالذات، التي تلت نهاية الحرب الكونية الثانية، وصولاً إلى يومنا هذا من نهاية الربع الأول من الألفية الثالثة، والتي بدأت آخرها بحرب روسيا الاتحادية على جمهورية أوكرانيا، في الرابع والعشرين من شهر فبراير من عام 2022، أي والبشرية في قمة تطورها الحضاري والمعرفي والعلمي والتكنولوجي والثقافي؟

ما الدوافع لشن الولايات المتحدة الأمريكية لحربين لاحتلال بلدين (أفغانستان والعراق) في مطلع الألفية الثالثة؟ هل كانت كلا الحربين كحتمية لمسيرة التاريخ ومتطلبات سيرورته، أم كانتا حربين لتناحر ومتطلبات صيرورة بين ايديولوجيتين، تحاول كل منهما إزاحة الأخرى وفرض فكرها ومسيرتها، كونه الأصح والأكثر تطوراً وتحضراً، وبالتالي كونها الأحق في قيادة عجلة التاريخ وحتمية مسيرته؟

الحقيقة لا هذا ولا ذاك، رغم أن الكثير من التنظيرات التي أنتجتها دوائر ومراكز دراسات وبحوث الولايات المتحدة، قد سعت لصبغ أحداث 11 سبتمبر من عام 2001 بصبغة أيديولوجية، ببساطة وفي حساب منطق التاريخ ومتطلباته وشروطه، لأن تلك الهجمات لم تصدر عن تخطيط دولة لها دور يكافئ الفعل التاريخي (السياسي) للولايات المتحدة، بل صدرت عن مجموعة هامشية لا قيمة لها، لا في ميزان حركة التاريخ ولا أمام التطور العلمي والتكنلوجي والحضاري الذي تتوفر عليه الولايات المتحدة، بل ولا مجال للمقارنة الأيديولوجية وهيمنتهما فيما بينهما وفي أثرها التاريخي؛ وعليه يمكننا أن نقول أن سبب احتلال الولايات المتحدة لأفغانستان والعراق لم يزد في حجمه (في الحساب السياسي والايديولوجي) على سبب اندلاع الحرب الكونية الأولى، وهو، في وزنه التاريخي، اغتيال ولي عهد النمسا.

هل كان من الضروري لمسيرة التاريخ وحتمية تطوره أن تدمر قارة أوربا نفسها وتخسر أكثر من عشرة ملايين من رجالها من أجل ولي عهد النمسا، علماً أن النمسا تخلت عن كل النظام الملكي وعرش ذلك الولي فيما بعد؟ بقيت وتطورت النمسا، على مختلف الصعد، بعد اغتيال ولي عهدها، وبطريقة ربما لم تكن لتتاح لها تحت حكم ولي عهدها، فيما لو بقي على قيد الحياة وحكمها بنفسه.

حرب يجب أن تكون أيديولوجية:

الغزو الروسي لأوكرانيا، وهو غزو بشع بكل المقاييس والصور، لم يفسره الغرب الاوربي – الأمريكي إلا في الإطار الأيديولوجي: دولة شرقية (رغم أن جمهورية روسيا الاتحادية تغطي كامل القارة الأوربية من الأعلى) متخلفة حضارياً وثقافياً وايديولوجياً، تغزو المدنية والتحضر والانفتاح الليبرالي واقتصاد السوق الغربي. فروسيا، وبعد ثلاثة عقود من انهيار الحكم الشيوعي، مازالت في عيون الغرب دولة شيوعية مغلقة على ايديولوجيتها المعادية لليبرالية والانفتاح والديمقراطية وحقوق الانسان الغربية. روسيا ورغم تمدد مساحتها على كامل مساحة قارة أوربا من الأعلى، فالغرب لا يعتبرها أوربية، وروسيا (وهذا أحد جوانب التمييز الأيديولوجي الذي لا يرفع الغرب صوته في ترديده لكنه معروف ومفهوم ضمناً) ورغم أنها مسيحية، فهي ليست مسيحية الرؤية الغربية المتسامحة والمتمدنة والعصرية والمتحضرة، لأن مسيحية روسيا أرثوذوكسية متشددة ولها كنيستها المتمردة والمعادية للكنيسة الكاثوليكية، كنيسة الغرب الأوربي والأمريكي.

فلاديمير بوتين دكتاتور شيوعي، وعليه فكل ما يصدر عنه هو متخلف ومعادي ويسعى لهدم المدنية والرفاه والحرية والديمقراطية الغربية، فكيف إذا ما شن حرباً عدوانية على أحد أطراف جنة الوداعة والسلم الأوربية؟ فبالتأكيد هي حرب حقد وضغائن تاريخية – أيديولوجية تستهدف العقيدة الليبرالية واقتصاد السوق ونظام الحكم الديمقراطي، في أول ما تستهدف في الغرب الذي يعاديه.

بتفكك الاتحاد السوفيتي وانفراط عقد المنظومة الشيوعية، وكان انفراطاً ونبذاً ايديولوجياً بالدرجة الأولى، كان من المفترض أن تتجاوز المنظومة الغربية نظرتها القديمة لروسيا كند وغازي أيديولوجي، وخاصة أن الدولة الروسية وغالبية الشعب الروسي قد تخلت ونبذت الأيديولوجيا الشيوعية وتحولت إلى نموذج ليبرالي (مُعَدل) عن الليبرالية الغربية، لكن هذا لم يحصل وأصر الغرب على التعامل مع روسيا، شعباً ومنظومة سلطة، على إنهم شيوعيون بالفطرة أو أن الشيوعية هي بمثابة بلازما الدم للإنسان الروسي. لماذا؟ عندما ننظر لهذا الأمر من وجهة تحليلية، في إعادة الأمر إلى عناصره الأولية، نجد أن كارل ماركس، صاحب الفكر والأيديولوجية الشيوعية كان ألمانيا استورد رؤيته وايديولوجيته لينين ورفاقه، في قيادة الثورة الشيوعية التي حكمت روسيا – شيوعياً – من عام 1917 فقط، نخلص إلى أن نظرة التوجس وعدم الاطمئنان الغربية من روسيا إنما مردها ديني – مذهبي هو العقيدة الارثوذوكسية الأصولية التي تمثلها الكنيسة الشرقية الروسية والتي يتبعها غالبية الشعب الروسي طبعاً.

إذن ووفق هذه الرؤية، لا يمكن أن ترى المنظومة الغربية في الهجوم الروسي على أوكرانيا إلا من خلال مرجعيته الأيديولوجية – الدينية، قبل النظر إليه وحسابه عبر الحسابات السياسية والاستراتيجية العسكرية والأمنية.

نهاية التاريخ خارج رؤية فوكوياما:

ليس فوكاوياما وحده الذي عد انهيار المنظومة الشيوعية انتصاراً للولايات المتحدة وللايديولوجيا الرأسمالية والديمقراطية الليبرالية، بل هذه كانت رؤية جميع رجال السياسية ومراكز الدراسات والبحوث والتحليل الأمريكية. وانتصرت الولايات المتحدة لتتحول إلى قطب أوحد يتحكم في مصير العالم، ولكنها بدل أن تتحول إلى إشاعة السلام واحلال الديمقراطية في العالم، كما افترض فوكوياما، فإنها استغلت أول حدث عدواني عابر تعرضت له، (اعتداء 11 سبتمبر 2001 ) لتخوض واحدة من أبشع حروبها الأيديولوجية – الدينية ضد الشعب الافغاني، ولتلحقها بحرب صليبية (كما دعاها رئيسها حينها، جورج دبليو بوش) ضد العراق. وكلا الحربين الوحشيتين لم تثمرا لا سلاماً ولا ديمقراطية، بل تفليش بلدين وإخراج لشعبين من مسيرة التاريخ الحضاري للبشرية وإعادتهما إلى عصر ما قبل الحضارة.

إذن حصيلة العالم من ما بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار الأيديولوجيا الشيوعية ومعسكرها هي تفرد الولايات المتحدة في قرار ومصير العالم والمزيد من حروبها الأيديولوجية – الدينية المجانية، وليس نشر الديمقراطية والسلام والعدالة وحقوق الانسان، كما روجت تنظيرات تلك الفترة وتنظيرات فوكوياما وما تلاها. والخسارة الأكبر للعالم تمثلت في الجانب العدائي للولايات المتحدة، الذي توفرت لها ممارسته بسبب غياب القطب الرادع لها في السياسة الدولية، والذي كان يمثله الاتحاد السوفيتي، كقوة سياسية – عسكرية وليس كقوة أو عدو أيديولوجي.

إذن نهاية التاريخ أو العيش في مرحلة ما بعد التاريخ، التي تلت مرحلة انهيار القطب الشرقي (الاتحاد السوفياتي)، بكل امتيازاتها الاقتصادية والاجتماعية وحقوق الانسان والديمقراطية، لم تعشها سوى المنظومة الغربية، أما باقي العالم، وخاصة دول العالم الثالث، فعاش في ظل الحروب العسكرية والاقتصادية والتدخلات واملاءات المواقف السياسية.

هنا، في مرحلة تفرد الولايات المتحدة في صناعة مصير العالم، كان التاريخ بالفعل قد انتهى أو توقف، لأن أغلب أنظمة دول العالم (دول العالم الثالث على وجه الخصوص) كانت قد تحولت إلى توابع للرؤية الأيديولوجية والسياسية الأمريكية وتوقفت عن انتاج (الأيديولوجيات) والرؤى السياسية المستقلة التي تناسب ثقافات ومصالح شعوبها، الفكرية والثقافية والسياسية، وأصبح أغلبها رهينة للإملاءات الإعلامية والسياسية التي ينتجها صانع القرار الأمريكي، بسبب خوف زعماء هذه الدول من الإزاحة عن كراسي السلطة.

لقد انصب جهد دول الغرب، خلال العقود التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي، على أن لا يصل حاكم في العالم إلى السلطة وتكون له رؤية فكرية وسياسية غير الرؤية الأمريكية، الرأسمالية كنظام اقتصادي، والليبرالية الديمقراطية، كنظام أيديولوجي – سياسي، رغم أن تجربتيّ الولايات المتحدة في فرض هذه الرؤية على أفغانستان والعراق، وبقوة السلاح (وعلى فرض صدق النوايا)، قد باءت بالفشل الذريع، ولم تكن حصيلتها الواقعية غير خسارة هذين البلدين وخروجهما من عجلة التاريخ وعلى كافة الصعد.

وإذا ما أضفنا إلى هذه الحصيلة المأساوية، نهج إدارة الولايات المتحدة الحالية في صناعة عدم الاستقرار أو تأسيس بؤر الصراع في المواقع الاستراتيجية من خارطة العالم، كما هو حاصل الآن في منطقة حوض الخليج العربي (بتمكين إيران من القبض والتحكم باستقرار هذا الجزء الحيوي من الجيوبولتك العالمي عن طريق توقيع الاتفاق النووي معها) نخلص إلى الصورة المأساوية التي أفرزتها عملية انهيار المعسكر الشرقي الذي كان يمثل دور المعادل والرادع لطغيان المعسكر الغربي، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.

من نافلة القول أن نذكر هنا أن حصيلة انهيار الاتحاد السوفيتي، كقوة ردع سياسي، لم تكن نتيجتها الأمريكية، كما رسمت تنظيرات فوكوياما أو هنغتون، بل انحصرت نتائجها بالصلف وتغول القوة الأمريكي والمزيد من حروبها المجانية، وقبل هذا تعطيل دور دول العالم (الثالث على وجه الخصوص) في انتاج رؤاها الايديولوجية والسياسية، بل وحتى الفكرية والثقافية المستقلة، وخاصة على صعيد صناعة القرار السياسي المستقل، وهذا ما تنبهت له دول الخليج العربية مؤخراً، وهي الدول الحليفة التقليدية للولايات المتحدة، منذ خمسينيات القرن الماضي، بتجاهل الولايات المتحدة لمصالحها الأمنية والسياسية، في مسيرة عقدها للاتفاق النووي مع إيران، من دون أخذ تهديدات ايران السياسية والأيديولوجية والأمنية لهذه الدول بعين الاعتبار، بل وإمعانها في تجاهل مطالبات هذه الدول بأخذ تهديدات الأسلحة، غير النووية المتطورة، التي توفرت لإيران وميلشياتها الطائفية المسلحة، والتي صارت تطوق دول الخليج من أغلب جهاتها، بعين الاعتبار.

إطلاقة الحرب ما قبل الأخيرة:

الحروب التدميرية المجانية والتدخلات في شؤون الدول، وإملاءات المواقف السياسية على الحكومات، وتسويق الأيديولوجيا الأمريكية وفرضها باسم الديمقراطية وحقوق الانسان، هذه هي كانت حصيلة تفرد الولايات المتحدة بالعالم، كقطب أوحد، والأهم قبل كل هذا هو التصرف من موقع أن مصالح الولايات المتحدة قبل كل شيء، هذا ما تنبهت له بعض الدول مؤخراً، وخاصة الدول التي نكثت الولايات المتحدة بعهودها معها، كالمملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية، بل وحتى أوكرانيا ذاتها، والتي اكتشفت مؤخراً جداً أن الولايات المتحدة ليست عند مستوى وعودها، بل ولا تحترم تعهداتها لحلفائها، بل ويمكنها التطويح بهم من باب التكبر عليهم والاستصغار لهم فقط، لأنها تثق ثقة عمياء بأنها قادرة على أن تفرض عليهم ما يحقق مصالحها ويصونها متى ما أرادت. وهذا ما دفع هذه الدول لرفع أصوات احتجاجها، بل ورفضها مؤخراً، لهذا التغطرس والعنجهية غير المبررين، وبالتالي ما دفعها للبحث عن حلفاء استراتيجيين بديلين، في إسرائيل والصين وروسيا، التي تحاول استعادة موقعها كقطب مساوي للولايات المتحدة، عبر حربها الأخيرة في أوكرانيا، التي اختارتها أو هيأتها الظروف السياسية الدولية لتكون موقع أو حاضنة لحربها مع الغرب وقيادته الأمريكية.

وفي التحليل السياسي، على الأقل، تبدو عملية حرب القيصر الروسي على أوكرانيا بمثابة الإطلاقة ما قبل الأخيرة في جيب الاستحقاق السياسي الدولي/التاريخي، أمام تغول وتنمر الولايات المتحدة وتفردها في رسم سياسة وصورة العالم الأيديولوجية، رغم أن هذا لا يسقط عن هذه الحرب عدوانيتها ووحشيتها وقسوة نتائجها الكارثية على الشعب الأوكراني طبعاً.

وفي سياق هذه السطور والمعيار التاريخي الذي تصدت للكشف عنه، يعد تهديد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بالسلاح النووي بمثابة التهديد الدرس، ومفاده لقد وعينا درس وأهداف تفردك، أيها العالم الغربي، في رسم النهج الأيديولوجي والسياسي والأمني للعالم، وآن للوضع الدولي أن يعود إلى نصابه، بعودة روسيا كقطب دولي موازٍ في القوة وفي تصحيح مسار التاريخ، وبغض النظر عما يخفي القيصر الروسي من توجه أيديولوجي وتصور استراتيجي وسياسي لمصير العالم، الذي لم تكن هيمنة الرؤية الرأسمالية عليه، طوال العقود الماضية، بأحسن من حاله خلال سنوات وجود الاتحاد السوفيتي، كقطب دولي لا يمكن تجاوزه، وسنوات الحرب الباردة التي مثلت عامل الكبح للتغول الأمريكي، الذي كانت تنبه له وتتصدى له المنظومة الشيوعية، وبغض النظر عن أهدافها الأيديولوجية في تلك المرحلة من التاريخ.

ومما لا شك فيه فإن الحركة الروسية الأخيرة، في المعيار الاستراتيجي – السياسي، تلاقي قبولاً من قبل الكثير من دول العالم، كعملية تصحيحية لمسار التاريخ السياسي والأمني الدولي، رغم أن ثمنه حرباً وحشية يدفع ثمنها الشعب الأوكراني. ولكن وفي الحساب التطوري لعمر البشرية، متى مر ذلك العصر أو الحقبة الذهبية التي لم تكن فيها حرباً وحروب، وبمختلف الأهداف والنوايا؟ وتحت سقف نفس هذا الحساب، فإن فروض العملية التاريخية الإنسانية تدلل على إن الحروب، بكافة أهدافها وأغراضها وتوجهاتها، لن تتوقف، وليس بيننا من يستطيع أن يجزم في جيب من تستقر اطلاقة التاريخ الأخيرة ولأي هدف سيطلقها، أيديولوجي أم سياسي أم أمني أم اقتصادي؟ 

***

دكتور سامي البدري

في المثقف اليوم