قضايا

محمد الورداشي: "قلق في الكينونة"

قال الشاعر محمود درويش ما معناه أن فكرة التشبث بالحياة هي العذاب الحقيقي للذات؛ ذلك أن هذه الذات الساعية إلى الاستمرار في الحياة رغم الرتابة والملل اللذين يكتنفانها، ويدفعان المرء إلى مقصلة التعب التي تمزق الجسد والروح، تتجرع علقم الوجود، وتدفع ثمنه الرغبة في العيش أضعافا مضاعفة.

تمسي وأنت منهك الجسد ومتعب الروح، وتعزف عن تناول عشاءك، وتؤثر النوم على الأكل والسهر، ولكنك ما إن تسند رأسك على الوسادة حتى تقفز بنات الدهر إلى ذهنك، وتأخذ في رقصة مضطربة الإيقاع؛ إذ تتسم هذه الخطوب بالانتظام تارة لدرجة أنها تذوب في روحك كما يذوب الملح في الجرح، وتارة أخرى تضطرب في ذهنك فترهقك وتخطف النوم من عينيك، ثم ترميك نهبا للسهاد والأرق، فتجدك تتقلب على فراشك يمنة ويسرة، وبعد محاولات متكررة باءت بالفشل ارتأينا أن تتصفح كتابا كنت قد بدأت قراءته مساء، ولكنك لا تستطيع للقراءة سبيلا؛ ذلك أن الكلمات سرعان ما يدخل بعضها في بعض، حتى لتبدو لك السطور تتراقص على وقع روحك الممزقة المتعبة، فتفرك عينيك وتحاول جاهدا أن تفتحهما، لكنك لا تنجح في شيء من ذلك.

ترمي الكتاب جانبا، ثم تحمل هاتفك وتلج مواقع التواصل الاجتماعي بحثا عن صديق مزقه التعب والأرق هو الآخر، بيد أنك لا تجد من يشاركك همومك وما يسلب النوم من عينيك، فترمي الهاتف هو الآخر جانبا. وفجأة، يترامى إلى سمعك صوت بعيد لكنه استطاع أن يلفت انتباهك، فتقوم من فراشك متثاقل الخطى، تترنح كما يترنح الغصن المنفرد أمام هبات الرياح العاتية، وتقصد النافذة المطلة على الشارع، فتلفاه مضيئا بمصابيحه الباهتة، ويتراءى لك موحشا مقفرا ساكنا إلا من الصوت التي يخترق سمعك بين الفينة والأخرى.

يطول انتظارك ولكن صاحب الصوت لم يظهر، فتشعر برغبة شديدة في جرعة ماء تبلل ريقك، ولكنك لا تستطيع بلوغ ضالتك، وتأخذ في البحث عن أسباب عجزك وخورك؛ لأنك تخشى أن تطول حركتك في المكان الموحش، فتضن على ذاتك العطشى بجرعة ماء كما ضننت عليها بالعشاء، ثم تعود إلى فراشك متعطشا إلى غمضة نوم سريعة، أو رقدة طويلة تحول بينك وبين عالمك المدلهم، عالمك المضطرب بالأفكار التي تخز نفسك من حين لآخر، بالأحلام العابرة التي تضيق لها نفسك، بالآلام المبرحة التي تمزق جسدك، بالهموم الثقال التي تجثم على قلبك. لكن، هل بلغت غايتك وقصدك؟ هل زارك النوم المتمنع؟

طال سهادك وأرقك، وبلغ منك التعب مبلغا بعيدا لم يعد معه النوم ممكنا، فآثرت أن تجلس القرفصاء وحيدا عليلا، وتحمل الكتاب مجددا تلتمس فيه أنسا ومواساة؛ أليس الكتاب هو الرفيق الوحيد الذي لا يخون عهدا، ولا يخذل صاحبه ساعة الحاجة إليه؟ فما بال كتابك النقدي هذا لا يرد عنك وحشة، ولا يذود عنك تعبا ولا أرقا؟ هل حزن الكتاب لحزنك، ومل وتعب لمللك وتعبك، أم أن عينيك المسبلتين لم تطيقا مسايرة رقصات سطوره السريعة المضطربة؟

تبحث عن الجواب طويلا، ولما لم تظفر بما يشفي غليلك، قررت أن تؤقلم عينيك المسبلتين مع إيقاع السطور المتراقصة، فأخذت في القراءة الراقصة مدة، ثم بدا لك أن السطور ثابتة في مكانها على الورق، وأن الكلمات المضطربة لم تعد صاخبة ومتحركة، وإنما ألفيت أن مصدر الاضطراب والرقص هو روحك الممزقة المتعبة، فحاولت تضميد جروحها ورتق مزقها بالأناة والصبر على القراءة.

تتقدم في تصفح الكتاب، فتبدو لك الكلمات الغامضة واضحة مشعة في نفسك، وتحس آلام الشاعر وأحلامه في قصائده، وتلفي الناقد المؤول ذا كفاءة تأويلية كبيرة، وأنه استطاع أن يؤنسك في وحشتك بأن قدم لك السراج المنير الذي أضاء ما عتم عليك في كلمات الشاعر، فتشفق على هذا الشاعر الذي تعب من الحياة كما تعبت، واختار الرحيل عنها كما اخترتَ، إلا أنه استطاع اختراق حجب هذه الحياة، واكتشاف جدها وهزلها، وجدواها وعبثها، بيد أنك لم تستطع لما بلغه سبيلا، فتبحث سبب عجزك عن فهم الحياة وطبيعتها في نفسك، وبعد لأي، تجد الجواب هو عجزك عن البوح بما يعتمل في أعماقك، والتعبير عما يجول في ذهنك من أفكار، وما يتجلى في قلبك من أنوار ورؤى، فتقرر، وأنت خائر القوى، أن تبوح بما يضطرب في عقلك وقلبك، وألا تضن بذلك إلا على الذين ليسوا أهلا لمعرفته؛ لأن في نفسك سرا عظيما، ولكي تتحمل الحياة عليك أن تخترق حجبها في نفسك، وأن تكشف عن سرها الكبير في شطحات ذاتك كيما تنعم بفرح كينونتك ووجودك.

***

محمد الورداشي

في المثقف اليوم