قضايا

رونالد أرنسون: الماركسية الوجودية في فكر سارتر (2-2)

بقلم: رونالد أرنسون

ترجمة: علي حمدان

***

تم تسليط الضوء على اهتمام سارتر بهذه العلاقة بين القدرة او فعل الانسان Agencyوالحتمية التاريخية في العنوان الذي أعطاه لمجموعته متعددة الأجزاء من المقالات، "اوضاع او حالات " Situations، والتي ظهر المجلد الأول في عام 1947، من خلال العنوان "الوجود في الحالة"، الكينونة والعدم، استكشف بإسهاب حريتنا الإنسانية التي لا مفر منها، المتجذرة في قدرة الوعي البشري على نفي او تجاوز " الواقعية" او المعطيات التي نجد انفسنا فيها. ان القول باننا دائما في حالة" هو الاستسلام بالوضع الذي يقيد افعالنا بواقعنا التاريخي والاجتماعي، من لغتنا وبيئتنا وخياراتنا الى طبقتنا وعرقنا وجنسنا وتربيتنا الاسرية. هكذا جادل سارتر" باننا موجودون-لكننا لسنا محدودين بهذا الوجود تماما". بالنسبة لسارتر ليس لهذا الوجود معنى خارج الحالات الواقعية. مهما كانت محدودة او قمعية. في سعيه لفهم ظروف – حالات- الاضطهاد، يدخل سارتر في حوار اعمق من أي وقت مضى مع المناهج الماركسية للهياكل التاريخية والاجتماعية. كان لنظرية المواقف تأثير هائل على الثقافة الفكرية في ذلك الوقت، من بين الاشياء الأخرى، ستجد تعبيرا في منظمة الوضعية الدولية(Situationist International )، وهي منظمة الثوريين الاجتماعيين التي ساعدت في التحريض على الانتفاضات الطلابية في عام 1968.

كان الاستقلال الفكري لسارتر واضحا خلال هذه الفترة: فقد تنصل في كل مكان من الدوغمائية، وفيا لروحه الفلسفية، تتغير التزاماته السياسية اعتمادا على تفاصيل الوضع، وعلى الرغم من انه ساعد في تأسيس حزب التجمع من اجل الجمهورية في معارضة صريحة للحزب الشيوعي الفرنسي. الا انه اصبح فيما بعد مناصرا للحزب الشيوعي الفرنسي عندما تعرض للحصار خلال الحرب الباردة. ولكن عندما فعل ذلك كان حريصا على اعلان ان "اتفاقه مع الشيوعيين " كان " حول مواضيع معينة دقيقة ومحدودة." مستمدا من مبادئي وليس مبادئهم". في نفس الوقت تقريبا انفصل بقوة وعلنا عن كامو في عام 1952، الذي اصبح حينها كامو معاديا للشيوعية بشدة.

مشروع الوجودية الماركسية

اصبح انخراط سارتر الفلسفي مع الماركسية اكثر منهجية في أواخر الخمسينات من القرن العشرين. اعلن نفسه صراحة ماركسيا في “البحث عن منهج” (1957)، مؤكدا ان الماركسية كانت "فلسفة عصرنا". لكنه اكد أيضا انها في ايدي" ماركسي اليوم"- أي الحزب الشيوعي الفرنسي – توقفت عن التطور. جادل سارتر بأن الماركسية تحتاج الى ذلك النوع من إعادة التفكير الذي يمكن ان توفره الوجودية للعودة الى الحياة. كان على الماركسية ان تستبدل حتميتها الميكانيكية بفهم ما اسماه سارتر التطبيق العملي البشري:

يصنع الرجال تاريخهم على أساس ظروف حقيقية مسبقة (من بينها تشمل الخصائص المكتسبة، والتشوهات التي يفرضها نمط العمل والحياة، والاغتراب، وما الي ذلك). لكن الرجال هم الذين يصنعون تاريخهم وليس الشروط السابقة. والا فان الرجال سيكونون مجرد وسائل لقوى غير إنسانية تتحكم بالعالم الاجتماعي من خلالهم.

والى ان تنصف الماركسية الفرد، كما ادعى سارتر، فان الوجودية ستبقى كفلسفة شبه مستقلة. هنا جاء ساتر بتفسير خاص به ومستقل للماركسية، موضحا الموضوعات الرئيسية لطريقة فهمه لكل من الوجود الاجتماعي للفرد وتقرير المصير الفردي. لايزال تأكيده المبكر على الحرية قائما، لكن ذلك الان صراحة مشروط بالتاريخ والمجتمع.

تم تطوير هذه الموضوعات بإسهاب اكبر في" نقد العقل الجدلي"، والذي اصبح “البحث عن منهج” كمقدمة للعمل. بدا النقد من التطبيق العملي الفردي وسعى الي وضع الاسس الفلسفية للماركسية، وكذلك لفهم سبب جمود الماركسية المجلد الأول- نظرية المجموعات العملية (1960) وفيه يتتبع بشكل تجريدي أصول النضال الاجتماعي، ويصف الخطوات التي يتحد بها الافراد لتشكيل حركة ثورية. لم يكن واضحا ما اذا كان من المفترض ان تكون هذه عملية تاريخية فعلية، او منطق عام لأي ثورة، او المسار الذي يجب ان يتبعه حزب لينيني ناجح. لم يتمكن سارتر من انهاء المجلد الثاني، الذي نشر بعد وفاته في عام 1985. كما جمع عمله الرئيسي التالي "احمق العائلة" The Family Idiot، بين الأفكار الماركسية والوجودية. كيف يمكن فهم فرد معين من خلال التحديات الاجتماعية. في هذه السيرة الذاتية متعددة الأجزاء، والتي نشر جزئها الأول عام 1971، اظهر سارتر كيف استوعب الروائي غوستاف فلوبير الواقع الاجتماعي ثم "أعاد إخراجه" في انسحاب حداثي مميز ومناهض للشعبوية، مثل "النقد"، سيبقى هذا العمل أيضا غير مكتملا.

اذا تم اخذ هذه الاعمال مجتمعة، "البحث عن منهج" و"النقد"، وسيرة فلوبير، والعديد من مقالات الحالات- فهي تحيلنا الى نظرية للماركسية الوجودية. الفلسفتان على نفس القدر من الأهمية بالنسبة لسارتر. كان سارتر يهدف وضع الوجودية في مواجهة التحريفية المبكرة للماركسية،" عدم مرونتها". لم يكن هدفه "رفض الماركسية باسم مسار ثالث او إنسانية مثالية، ولكن "لاستعادة الانسان داخل الماركسية". ومع ذلك، فانه يصر على رؤية الفعل البشري على انه تطبيق عملي دائما ما يقرره الفرد بنفسه، ويحدد دوره في الحالة او الموقف.

بإبعاد الحتمية والأخرويات عن الماركسية، يرفض سارتر الشعور بان لغز التاريخ على وشك الحل، وان البشرية تمر بتحول من شانه ان يتغلب أخيرا على الاغتراب ويدرك معنى التاريخ البشري. في إعلانه ان " الديالتيك لا يعني الحتمية"، شدد على البعد الذاتي للتاريخ وتخلى عن حلم التحول الطوباوي الذي تقرر مرة واحدة والي الابد مملكة النهايات الكانطية.

لم يكن هناك شك، بالنسبة لسارتر، في تبني الالية الماركسية أحادية الاتجاه حيث تحدد" القاعدة" "البنية الفوقية". وبدلا من ذلك، اصر على ان التاريخ يصنعه البشر وان المستقبل مفتوح دائما، حتى ان كانت هناك قيود موضوعية. كان الهدف من هذا التوجه يهدف الى تصحيح النمط المجرد والاستبدادية المحتملة للماركسية من خلال التأكيد على ان الفعل الذاتي والعمل مهمان بقدر أهمية الواقع الموضوعي الذي يمكن فهمه من خلال النظرية والعلم.

هكذا تخلى سارتر عن الحس الماركسي بالموضوعية (Objectivity)– الموروث من هيجل- والذي ينص على ان التاريخ يتكون من اتجاهات عامة تعمل من خلال اتجاهات عامة تعمل من خلال فاعلين بشر. لا تسبب الهياكل الاقتصادية اعمال البشر، بل تصبح متأصلة في داخل الانسان وتتجاوزه عندما يتصرف: "ما نسميه الحرية هو عدم قابلية النظام الثقافي للاختزال في النظام الطبيعي ". سواء على المستوى السياسي او كمشروع بحثي، اصبح للماركسية الوجودية الان معنى واضح: حيث يتم وضعها ضمن الهياكل الاجتماعية التي تشكلها وتحدها. وغالبا ما تضطهدها وتستغلها، ومع ذلك فان البشر يدلون ويتجاوزون ويتحدون ويتعالون.

فلسفة عصرنا

قلق سارتر حول علاقة الحرية والتشكيل تتحدث بلغة من حقبة ماضية. تبدو حججه الان للكثيرين قديمة الطراز او حتى غامضة، كانت استجابة لضغوط – تاريخية وفكرية- تلاشت منذ فترة طويلة. مع تراجع وانهيار الشيوعية، تحطمت كليا الية الماركسية. لم يختفى محاوري سارتر فحسب، بل انتهى نوع محاوريه، مؤسسة" المادية الجدلية". حتى سارتر نفسه بدا يبتعد عن الماركسية في نهاية حياته، جزئيا بسبب العمى الذي اعاقه عن اكمال اثنين من اعماله الكبرى في الماركسية " نقد العقل الجدلي" و"الاحمق في العائلة". كما انفصل عن الحزب الشيوعي الفرنسي بعد معارضة الحزب لأحداث الانتفاضة الطلابية في مايو 1968: كما فقد كل ايمانه بالاتحاد السوفياتي بعد غزو تشيكوسلوفاكيا في نفس العام، وطور علاقة هامة مع الثوار الشباب الماويين المعاديين للاتحاد السوفياتي والذين نشأوا عن حركة الطلاب.

 تبين، ان هناك مبالغة كبيرة في خبر وفاة الماركسية. الان بعد ان حكمت الرأسمالية العالم دون تحدي لجيل. شهد الفكر الماركسي تجديدا شعبيا، متحررا بشكل متزايد، حيث تخلص من اشباح مكارثي (في أمريكا) والحرب الباردة القديمة. وسارتر هو من يخبرنا لماذا:" لا يمكننا ان نتجاوزها (الماركسية) لأننا لم نتجاوز الزمن التاريخي الذي تعبر عنه". ذلك لأننا لم نتخلص من الرأسمالية التي واجهتها الماركسية-كتوجه فلسفي وطموح سياسي.

 هذه المرحلة من إعادة الاهتمام بالماركسية لم تأت على شكل حركات وأحزاب الطبقة العاملة، ولكن تجسد طرقا متجددة للتفكير بشكل نقدي حول الرأسمالية وقضاياه المستمرة من عدم المساواة والأزمات. لا عجب ان مثل هذا النقد قد شهد عودة بعد عقد من رأسمالية التقشف في اعقاب الازمة المالية والركود العظيم. قد زاد الوعي خاصة لدى الأجيال الشابة، بانه يجب ان يكون هناك بديل للرأسمالية- وان هذا البديل بغض النظر عن التفاصيل، يطلق عليه اسم الاشتراكية. للمرة الأولى منذ عقود، اصبح الاشتراكيون المعلنون في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة قوة سياسية حقيقية، سواء على المستوى المحلي والوطني. أعاد على سبيل المثال بيرني ساندرز كلمة " الاشتراكية" الى حوار السياسة الوطنية.

هل هذا الاحياء للماركسية سينجح؟ مهما يكن فأننا سنضطر مرة أخرى الى اللجوء لسارتر- جزئيا لان تأكيده على الحرية يتفاعل مع ثقافة سياسية حديثة تعطي لحرية الفرد أهمية معينة، وجزئيا يساعدنا على فهم سبب فشل التجارب الماركسية السابقة. استكشف سارتر هذه المسالة في المجلد الثاني غير المكتمل من النقد.

كما فهم كثيرون من المثقفين السود، بان ماركسية سارتر الوجودية هي مصدر حيوي لفهم الذات والالهام، في مقدمة لكتاب" "المستضعفون في الأرض" لفرانس فانون (1961)، ابرز سارتر فكرة مناهضة العنف، واستكشف كيف يمكن لمواطني المستعمرات ان يتغلبوا على الخضوع، ويرفضوا التواطؤ، وان يكون لهم رأي، ويشاركوا في المقاومة. استلهم ستوكلي كارمايكل هذا الأسلوب من سارتر في خطابه الشهير" القوة السوداء" في عام 1966. في الواقع، كانت نظرية سارتر للحرية هي التي تأسست على أساسها مواقفه النضالية الى جانب المظلومين- من اليهود في المحرقة، الى السود الأفارقة تحت الاستعمار، والعمال الفرنسيين المهمشين، والمستغلين. في الجانب الاخر من هذا الدفاع عن المظلومين كانت كراهية سارتر للمستبدين البرجوازيين في " الغثيان". والارستقراطية الجنوبية البيضاء في الولايات المتحدة، وممارسي التعذيب الفرنسيين في الجزائر، والامريكيين المشاركين في الإبادة الجماعية في فيتنام، والمسؤولين عن الالة السوفيتية الشمولية.

ما نحن بحاجة ماسة اليه من الماركسية الوجودية اليوم هو فهم جديد للحرية. كما اشرح في كتابي "نحن: احياء الامل الاجتماعي". يساعدنا سارتر على تقدير كيف يتجمع الافراد لخلق الامل عن طريق النضال جماعيا، يصر سارتر على انه يمكننا دائما الاختيار، في كل وضع وموقف. وحتي عدم الاختيار هو اختيار في حد ذاته. وبهذا المعنى يؤكد سارتر اننا مسؤولون دائما عن انفسنا، وحتى وان كنا نتعرض للاضطهاد. فكما نعلم من الماركسية ان نقدر أعباء التاريخ والطبقة. سارتر لم يتخلى ابدا عن هذه العلامة المميزة لفكره، على الرغم من انه عمل على تلطيفها من حرية مجردة وكلية الى حرية ملموسه وموضوعية بعد الحرب العالمية الثانية. فانه يصر على ان ما يميز البشر عن الحجارة هو اننا نخلق دائما شيئا من الظروف التي تواجهنا.

من البديهي ان يختلف الناشطون في تعريف فكرة الحرية. ففكرة الحرية تطلب منا ان نتحمل المسؤولية عن الحالات التي وجدنا انفسنا فيها، ثم تجعلنا مسؤولين عن ما نفعله فيما يتعلق بهذه الحالات. قد يكون هذا خيارا صعبا القبول به. ولكنه يعتبر تذكيرا قويا بإمكانية النضال الفعال. تنبت المقاومة من نفس قوة الإرادة الذاتية التي ينبثق منها الخضوع واللامبالاة والتواطؤ والاستسلام. اذا كان الفرد في بعض الأحيان يستسلم ويتخذ موقفا متنازلا ويقبل القليل جدا من اجل تحقيق الهدف، ففي حالات اخرى ينضم الى الاخرين وينفجر الى العلن، ويقوم بإعادة تعريف الهويات وإعادة تشكيل الحالات وخلق الثورات.

***

......................

Ronald Aronson

Boston Review, November 14, 2018.

في المثقف اليوم