قضايا

صادق السامرائي: كآبتنا الحضارية!!

المقدمة: مثلما يصاب الأفراد بداء الإكتئاب، تصاب الأمم والشعوب به أيضا،  فدورة حياة المجتمعات البشرية كدورة حياة الأفراد، وما يصيبهم يصيب المجتمعات، أوَ ليست الأمم والشعوب حاصل تفاعل مجموع الأفراد مع بعضهم البعض وهو تفاعل شامل ومتشعب.

إن الاكتئاب من الأمراض الخطيرة، لأنه يقلب البشر إلى قوة مضادة لنفسه، ويجرده من التفاعل مع الآخر فردا أو محيطا، كما يسري في الأعماق بهدوء حتى يحيلها إلى عصف مأكول، وأعراضه تتغلغل فيها فتلوّنها بالسواد وتلغي أي لون آخر.

وكلما تأملنا حالنا في القرن العشرين، نكون أمام حالة من الإكتئاب الشعبي الشامل  (mass depression) الفاعلة في أركان الأمة وعلى مدى أجيال متعاقبة، وما إستطاع جيل أن يشخص الداء ويصف الدواء، بل أن عطاءاتها كانت مشحونة بالإبداع الفكري الإكتئابي، الذي يلوِّن الحياة بالدم والدموع ويحوّلها إلى معضلة، وكأنها في نفق مظلم طويل لا نهاية له، ولا شعاع ضوء قادر على التسرب إليه.

ويبدو أن حالة الإكتئاب الشعبي قد تفاقمت وتجاوزت القنوط واليأس، وراحت تتخذ مسارات موجعة في هذا البلد أو ذاك، مما يستوجب الدراسة والنظر!!

أسباب الاكتئاب النفسي

1-  الفقدان (loss) أن يفقد البشر شيئا مهما أو عزيزا

2-  تفاقم المشكلات وعدم وجود منفذ للخلاص منها

3-  عدم التوازن ما بين الطموح والقدرات

4-  الإحساس بالتخلف أو التأخر

5-  الخسائر بأنواعها

6-  التوتر المزمن أو المستديم (chronic stress)

الأعراض والعلامات

1- المزاج الحزين

2- سرعة الغضب

3- فقدان الإحساس بالمتعة

4- العزلة والإنشغال بالموت

5- فقدان القيمة الذاتية

6- الشعور بالذنب والندب ونقد الذات وتقريعها وإذلالها وإحتقارها

7- فقدان الأمل واليأس

8- ضعف التركيز وتشتته

9- عدم القدرة على إتخاذ القرار وفقدان الثقة بالنفس

10- الشعور بالتعب والعجز والهياج والإنكماش

11- التوقف والحركة البطيئة والمظهر الدامع الحزين

والآن لننظر حالنا في القرن العشرين وفقا لمنظور أسباب الكآبة:

1- الفقدان:

لقد فقدنا عبر مسيرتنا الحضارية الكثير من خصائص وجودنا القيادي المؤثر، وكانت فاجعتنا الكبرى بسقوط بغداد عام 1258 ميلادي.

وعبر تأريخنا وعلى مدى ثمانية قرون متلاحقة كنا الضحية والخاسر الأول دوما، وتكررت خسائرنا في القرن العشرين وتعاظمت في جوانب متنوعة.

وبرغم أننا حققنا ربحا في مسيرتنا العامة ووجودنا مقارنة بالقرن التاسع عشر، لكن الخسائر المتلاحقة حجبت عنا رؤية رافدنا الكبير، فغرقنا في الجداول والسواقي والبرك والمستنقعات، نحسبها كل ما في هذا العالم من حياة.

2- تفاقم المشكلات:

بلداننا قاطبة قد تحولت إلى مستودع للمشاكل التي تفاقمت مع الأيام، وأجادت الأنظمة السياسية مهارات إستثمارها وتطويرها.

وهذه المشاكل مختلفة ومتنامية بأقصى سرعة ممكنة، وفي كل يوم هناك إعلان عن مشكلة جديدة عديمة الحل.

فأصبح بشرنا من المحيط إلى الخليج يتخبط في أمواج المشاكل المتعاظمة، والتي إشتدت عليه بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية.

وكانت محورا لتلك المشاكل قضية فلسطين، التي رتبت لإستنزاف طاقات وجودنا الصاعد، إضافة إلى مشاكلنا القطرية التي لا تنتهي.

3- عدم التوازن ما بين الطموحات والقدرات:

إن الأهداف التي ترددت في بلداننا  كانت تدعو إلى الوحدة والحرية والتقدم والإصلاح والنهوض إلى حيث يليق بنا وبتأريخنا، وما تحقق منها شيئ يرقى إليها، بل أن جميع الأقطار إتجهت إلى ضد أهدافها وتطلعاتها.

وعلة ذلك عدم إمتلاكها القدرات السياسية الكافية، وغياب خطة العمل المتوازنة للوصول الى الأهداف، مما حقق إحباطا متراكما وشديدا في أعماق الناس، فتغلب عليهم الشعور بالأسى والخيبة الآمال وإنهيار التطلعات.

لقد أراد العرب أن يلتقوا بماضيهم المجيد الزاهر الذي يستحق الفخر والتقدير، وهو هدف مشروع وممكن لو أن الأمة أدركت وسائل الوصول إليه وعقلت المهارات اللازمة.

وبسبب غياب خارطة الطريق الواصل ما بين الإرادة والطموح، أصابها الضياع والتخبط الذي ولّد جروحا حضارية متقيحة ومتنامية، برغم توفر الإمكانات المادية والبشرية والفكرية، لكن القدرة على وعيها وإستثمارها كانت غائبة وما إمتلكنا إلا قدرات تدميرها وإتلافها.

فكنا نريد الوصول إلى مرتبة الأجداد ونحن نجهلهم تمام الجهل، ونسبغ عليهم من ظنوننا البائسة ما هو مشين وقاتل لنا ولهم.

4- الإحساس بالتخلف والتأخر:

منذ بدايات أيام اليقظة والنهضة العربية، صار العرب يقارنون بين حالهم في الماضي وواقعهم في الحاضر، فاكتسبوا إحساسا بالتخلف والتأخر عن حقيقتهم التأريخية وتأدية رسالتهم ودورهم الإنساني والحضاري.

وتم تغذية الشعور بالتخلف والتأخر بالإحتكاك المباشر مع الغرب، وتوفرت منابر فكرية عربية متنوعة لتأكيده وتعميقه والتخندق فيه إلى أبعد ما يمكن،  وكأن الأمر كان مطلوبا لتحقيق العجز الحضاري والشلل المعاصر للأمة.

ولا أدري لماذا لم يتأكد هذا الشعور في أمة الصين، التي أدركت حالها في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، ونحن أدركنا أنفسنا في بدايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وكان علينا أن نكون ونتجاوز حالنا المتخلف كما توهمنا وفق أبسط الحسابات الحضارية، لكننا أمعنا في تأخير أنفسنا وشعورنا بأننا كذلك، برغم خطوات تقدمنا ونهوضنا وعلائم صيرورتنا.

5- الخسائر المتنوعة:

نحن عندما نتأمل أنفسنا نجد أننا في دوامة من الخسائر المتلاحقة، والإنهيارات المتواصلة على جميع المستويات. ولا يوجد شعور حقيقي لدينا بأننا ربحنا معركة أو دورا في الحياة، بل عندنا شعور بالإغتصاب والإنتهاب والإستعباد ومصادرة الحقوق الإنسانية والمادية، وسلطان الخوف يلاحقنا أينما نكون، فإذا نطقنا برأينا إما نموت أو نكون في ظلمات السجون، وما علينا إلا أن نذعن ونستسلم لإرادة العابثين بمصيرنا والسارقين لحقوقنا من أبناء جلدتنا.

فأبناء الأرض المبتلاة بالنفط يكابدون الفقر والجوع والمرض والخداع، وهم يعيشون على بحار من النفط الذي لا يعود عليهم إلا بالأسلحة التي تدمرهم، وتقتل  أبناءهم في حروب لا مبرر لها إلا إمتصاص طاقاتهم وزرع الأحزان في بيوتهم، وهذا يولد شعورا قاسيا بالخسران عند الأب والأم والأبناء، وعند كل من يعيش على أرض تحتها نفط.

6- التوتر المزمن:

منذ الحرب العالمية الأولى وحتى يومنا هذا نحن نعيش في دوامة التوترات المتفاقمة وعلى مختلف المستويات، وما إستطاعت الأجيال التخلص من التوتر والإضطراب، بل حجم التوترات في تنامي وإتساع، والقوى الطامعة في الثروات النفطية تجد وتجتهد في تأجيج نقاط التوتر، وخلق مراكز متجددة لزيادة شدتها وكثافة الأطراف المحترقة فيها.

ولا توجد دولة واحدة من دولنا معافاة من التوترات السياسية والعرقية والإقتصادية والعسكرية.

لقد تحولت أرضنا إلى مسرح للقتل والدمار وتجريب الأسلحة، والقتال بالنيابة عن أطراف الحرب الباردة، وجربت عليها كل مبتكرات التدمير ووسائل التخريب، وتحولت فيها الحقائق إلى غرائب وأوهام، والبديهيات إلى مستحيلات، ولا زالت تخضع لأحدث فنون الحرب النفسية الموجهة بقسوة ووحشية ضدها.

إن حالات التوتر المستديمة لها مصادر داخلية وخارجية، وكلها تتفاعل وتساهم في جحيمات التفاقم للأزمات وتنمية مآسينا وتدمير قدراتنا.

بل أن طاقاتنا تبددت وتجمدت وتحولت إلى ضديد لإرادتنا، وسُخرت لقتلنا والفتك بأهدافنا وطموحاتنا، فصرنا نُقتل بما نريد، لأن الآخر يعرف كيف يوظف ما نريد لتحقيق ما يريد. وما تعلمنا كيف نصل إلى ما نريد، لإهمالنا لأهم ركن من أركان الإرادة وهو العقل، وتدثرنا بالإنفعالات الحارة المؤذية.

الأعراض والعلامات:

1- المزاج الحزين:

الطابع العام لأمزجتنا هو الحزن، أما الفرح فأنه حالة طارئة وغريبة في حياتنا كعائلة أو أمة،  وهذا ينعكس في نتاجاتنا الأدبية والفكرية وأغانينا وأحاديثنا اليومية وسلوكنا العام. وبسبب ديمومة الحزن في أعماقنا، ترانا نشكو ونتأوه ونلقي بأسباب سوء الحال ورزاءة المآل على غيرنا، ونتهم الأقدار بما لم تفعل.

وفي أكثر الأحيان نتخذ من السلطات الحاكمة وشاحا نعلق عليه معاناتنا وويلاتنا وبكائياتنا، وما نفع تغيير السلطة مرارا في مداواة حزننا.

فلينظر كل واحد منا إلى نفسه وعائلته ومجتمعه، وسيرى مساحة الحزن الكبيرة في أيامه وأعماقه ومعظم أحاديثه وأحاديث الناس من حوله، وهذا يتكرر مع الأجيال بلا إنقطاع.

2- سرعة الغضب:

المعروف عنا -  قادة وأفرادا وأينما كنا-  سرعة الغضب وفوران دمائنا وإتلافنا لنفسنا بسبب ذلك.

ولولا نعمة الشمس التي تساعدنا على مجابهة الكآبة المستديمة فينا لساء حالنا، فالحمد لله على وجود النور الساطع في أرضنا، والبعض يعزو سرعة غضبنا إلى كثرة سطوع الشمس، وأخالفهم في ذلك لأنها أحد أسباب ديمومتنا وعلاجنا من كآبتنا.

إن السبب الحقيقي وراء غضبنا السريع هو الإكتئاب الشامل الذي يعصف في كياننا،  وعندما نتخلص من كآبتنا، ستزول عنا هذه الصفة ونؤوب إلى رشدنا، ونستخدم عقولنا بكفاءة.

لقد تم إستغلالها من قبل الآخرين فحققوا  مشاريعهم وطموحاتهم، وسخروها لإستنزاف طاقاتنا ومنعنا من الإمساك براية الإنطلاق الحضاري المتفق مع حقيقتنا ورسالتنا الإنسانية.

3- فقدان الإحساس بالمتعة:

إننا لا نتمتع بما نملك وبما في أوطاننا من الخيرات والشواهد والثروات ومواطن الجمال والبهجة، ولا نراها إلا شيئا جامدا ذليلا خاليا من تحقيق الشعور الإنساني الجميل.

نملك كل شيئ ولا نملك شيئا.

عندنا معظم ثروات الأرض وما عندنا شيئ.

كالجمال التي تقطع الصحارى وتعاني من الظمأ والماء فوق ظهورها محمول.

"كالعيس في الصحراء يقتلها الظمأ.. والماء فوق ظهورها محمول" أي أن قول الشاعر هذا ينطبق علينا تماما.

نحن عندنا ميزة عجيبة وفريدة ملخصها، إننا لا نرى ما عندنا ونرنو إلى ما عند غيرنا، فلا نتمتع بما نملك ولا نحصل على ما لا نملك.

والأنكى من هذا، إننا نبخس ما عندنا ونثمن ما عند غيرنا، ونضفي عليه من خيالات عجبنا ما ليس فيه. كأننا نحوله إلى معشوقة نهيم بها ونتغنى بهواها ولقائها، وهذه الميزة مستفحلة في شخصيتنا ومؤثرة في سلوكنا الفردي والجمعي.

4- العزلة والإنشغال بالموت:

الإكتئاب من أهم أسباب التخندق والإنعزال في وطننا الكبير، فالعربي يفضل العزلة عن أخيه وصار يشعر بالعزلة وهو في بلده، لأنه لا يجد من يتفاعل معه ويستمع إليه، لأن كل فرد صار مستودعا متزايدا للهموم والآهات والأوجاع ولا يعرف إلا كيف يتلفظها، ويأنس لتحمل تدفقها وإنبثاقها من جميع خلاياه ووديان أعماقه الجريحة.

وهذا ينعكس على كل مواطن مما رسخ التجزئة ومزق أية قدرة على التفاعل الصحيح مع أبناء الوطن، ومع تواكب الأعوام إزددنا عزلة وصارت بلداننا خنادق حزن تضمنا وسجونا تأوينا.

كما أن الهم الأكبر تحول إلى الإنشغال بالموت وإهمال الحياة، فصرنا نسفه مفردات الحياة أمام حقائق الموت وفاعليته وسلطانه، ففقدت الحياة قيمتها وتسلطن الموت في الأعماق، فصرنا نعبر عنه في أفعالنا وأقوالنا وإبداعاتنا.

وربما تغلب الموت بأفضليته على الحياة ورحنا نردد "من الأفضل أن نموت ففي الموت حياتنا"، وهذه أفكار إكتئابية عاصفة في حياتنا ومؤثرة في دورنا الإنساني وهناك الكثير من الشواهد عليها.

5- الإحساس بفقدان القيمة:

هذا الشعور القاسي الوخيم الذي لا يخلو منه بشرنا إستفحل في حياتنا وتنامى في ديارنا. فأخذنا نقرأ ونسمع ونرى ما يدهش من الإمعان بتصغير أنفسنا، وتجريدها من أية قيمة إنسانية أو حضارية.

وإمتد تأثير الإحساس بفقدان القيمة إلى تراثنا وحاضرنا ومستقبلنا. وكل يوم نقرأ في صحفنا مقالات تؤكد التعبير عن هذا الشعور الإكتئابي المريض،  وكم قرأنا مقالات تجرد لغتنا من قيمتها ودورها وتراثنا من جدواه، بل وتريد أن تلقينا في أحضان النسيان والإندثار.

6- الشعور بالذنب والندب ونقد الذات وتقريعها وإذلالها وإحتقارها:

الشعور بالذنب متفاوت في درجاته، لكنه قائم في معظم أركان حياتنا،  فكل فرد منا مشحون بطاقة الشعور بالذنب والإستسلام لعذابات الضمير، ونستطيع أن نجد الدليل على ذلك في الكثير من نشاطاتنا الفكرية والثقافية.

فلدينا درجة عالية من حساب الذات وهذا يدفع إلى الندب ونقد الذات وتقريعها وإذلالها وإحتقارها. فنحن من أقسى أمم الأرض على أنفسنا، ولا تخلو صحيفة من صحفنا من مقالات تهاجم حالنا وتندب وجودنا، وتنهال علينا بما يشتهي كتابها من الصفات المشينة.

ففي كتاباتنا الفكرية هناك تقريع ذاتي وهجوم شرس على وجودنا وواقعنا وبأقلامنا.

إننا دائما نتهم أنفسنا ونبخسها وما عرفنا الكتابات الإيجابية، بل إعتدنا على إبداعات الندب والنقد البائس الحزين.

7-  فقدان الأمل واليأس:

اليأس شعارنا وفقدان الأمل سلاحنا وأسلوبنا في عصرنا الدامع الحزين، وهما يلونان وجودنا ويطغيان على نشاطاتنا، ولا يوجد أوضح من ظهورهما في كتاباتنا وأحاديثنا.

فأثر اليأس على حركة الأجيال وسرق من شبابها كل همة وإندفاع نحو صيرورة متوازنة مع ما فيها من الطاقات.

إن آفة اليأس تأكل الإنسان  كما تأكل "الأرضة" جذوع الأشجار فتضعف مقاومتها للرياح وتبيدها بصمت وهدوء.

نحن يائسون قانطون، وعندنا فكر السماء ومفردات الإيمان والحياة الطيبة السعيدة، ومع هذا نعيش حالة مناقضة لما عندنا، فاليأس لا يتفق مع الإيمان وإن طغى اليأس ذهب الإيمان.

8-  ضعف التركيز وتشتته السريع:

نحن بطيئون في كل شيئ مقارنة بأمم الأرض الأخرى، وهذا ناجم عن ضعف التركيز وتشتته،  فتجدنا نقرأ ببطء لأننا لا نستطيع التركيز، فأفكارنا مشتتة وأدمغتنا ممزقة بالمشكلات اليومية المتفاقمة.

وبسبب ضعف التركيز فقدنا القدرة على فهم أحوالنا وفهم ماضينا وإستنباط الحقائق الضرورية لتطورنا وتنامي قدراتنا، فصار تراثنا عبئا علينا وإنتهينا إلى غربة قاتلة وجهل مروع.

9-  عدم القدرة على إتخاذ القرار وفقدان الثقة بالنفس:

وذلك بسبب ضياع القابلية على تجميع الأفكار وصياغتها بأسلوب علمي، ولطغيان الطاقات الإنفعالية على القدرات الفكرية وتحول العقل إلى عبد مطيع للعاطفة، وفي هذه الأجواء المشحونة بإضطراب التفكير وتلاشي التركيز، يكون القرار الصائب الصحيح غير ممكن، وأي قرار يمتلك نتائج سلبية أكبر من النتائج الإيجابية، مما يفسر سلبية القرارات وشيوع إضطرابها وإتيانها بنتائج وخيمة وتوليدها لمشكلات غير محسوبة، ويدفع بدوره إلى فقدان الثقة بالنفس. فهل نحن واثقون بأنفسنا؟

ومن أين نأتي بأسباب وعوامل تأكيد الثقة بالنفس؟

فالأكثرية منا منزوعة الثقة بنفسها، وإن هذه الصفة تنعكس على سلوكنا بمختلف مستوياته وتفرعاته، وتتأكد في سلوكنا السياسي كدول وقادة.

وقد تمكن الآخرون من ترسيخ فقدان الثقة بالنفس في جميع مفردات حياتنا، وصار الخوف والتردد والشك عوامل فاعلة في سلوكنا.

10- الشعور بالتعب والعجز والهياج والانكماش:

سمات مهيمنة على أيامنا، فطريقنا يزداد طولا وهمومنا تزداد ثقلا، وأمام كل خطوة نهم بالركون إلى قيلولة.

وصار القريب بعيدا في ديارنا، فتعلقنا بأحلام اليقظة وإستحضرنا السندباد ومصباح علاء الدين، وإذا ما نريده يصير ضبابا تبدده أنوار الحقيقة الساطعة وسقوط الأقنعة.

إننا نشعر بالتعب والعجز ولا شك في ذلك، والقارئ يرى ما تنشره صحفنا من آراء العاجزين وأقوال المتعبين، وكأننا في وادٍ مظلم ودوامة من المآسي المتزايدة.

ولا توجد أمة أشد عجزا منا في الوقت الحاضر أو إحساسا بالتعب والملل، وهذا يعني بأننا سنتبرع بما عندنا لغيرنا بسبب عجزنا على الإستمرار في إمتلاكه.

إن ما نعانيه من إضطرابات متنوعة، يؤكد درجة الهياج الإكتآبي الناجمة عن اليأس المروع العاصف في أرجاء النفس عندنا.

ويتخذ الهياج أشكالا مختلفة ومتنوعة ويعبر عنه بإنفعالات وأقوال وجرائم قد تكون بشعة جدا. لأن البشر في حالات الهياج الإكتئابي يفقد صلته بالواقع، وتضيع منه الحكمة والقدرة على إدراك نتائج ما يقوله ويفعله، مما يؤدي إلى تزايد المشكلات والمعاناة، وفي واقع أمرنا نتأرجح ما بين الهياج العارم والخمول الشديد، وفي هذا جزء كبير من مآسينا.

11- التوقف والحركة البطيئة والمظهر الدامع الحزين:

الأمة متوقفة عن المشاركة الحية والجادة في صناعة الحضارة البشرية المعاصرة -  ولو أن أبناءها يساهمون في ذلك في معاقل إغترابهم-  بل أن دورها غائب وكأنها نائمة ومنقطعة عن الحياة، وهي التي إبتدأت مشروع التقدم والإرتقاء منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر ولا زالت تتحرك كالسلحفاة، وأكثر خطواتها تجرها إلى الوراء في حين أن أمما قد بدأت في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين سبقتها في كل الميادين.

إن التوقف الحضاري علامة واضحة تؤكد شدة الإكتئاب الذي نعاني منه.

أما المظهر الحزين، فصرنا معروفين بملامحنا المرسومة بمداد الألم والآهات والخسران. ويتفاوت مظهرنا من بلد إلى بلد حسب درجة المرارة واليأس المرسومة على وجوهنا، لكن المظهر العام لنا هو الكئيب المتجهم، الذي تشع منه علامات الإنكسار والغضب والجراح. كما أن أحاديثنا بث للشكوى وبكائيات ورثائيات وندب وتأسف، ونقد مرير لوجودنا وأحوالنا المتحركة من سيئ إلى أسوأ، وعبرنا عن ذلك بوضوح في أشعارنا وأغانينا ومظهرنا العام وبما يمت بصلة إلينا.

إن الأجيال في قاموس الأزمان تكون كفرد، وأجيالنا الحاضرة فرد دامع حزين ينفث الحسرات ويضرب كفا بكف!!

الخاتمة والعلاج

تلك هي أعراض مأساتنا الحضارية وعلاماتها، وبما أن الكآبة مرض يمكن علاجه، فعلينا أن نبحث في العلاج الذي يشفينا منها.

إن الأمة لا يمكن علاجها بالأدوية والعقاقير المضادة للكآبة أو بالصدمة الكهربائية.

إن العلاج الأمثل لكآبتنا الحضارية هو بالعلاج الإدراكي COGNITIVE THERAPY

وهذا العلاج يرتكز على أن الأفكار تؤثر في المشاعر والسلوك البشري، وإذا غير البشر طريقة تفكيره فأن سلوكه ومشاعره سيتغيران.

إن التشويه الإدراكي هو أصل الإكتئاب والتغيرات العاطفية والجسمية وباقي أعراض الكآبة. أي عندما نفكر بالأمور على أنها غير ما هي عليه، وننظرها بعيون أمامها عدسات تشويه ينعكس ما نراه على سلوكنا .

فعندما نكون بلا طاقة وعدم مبالاة، يكون ذلك ناتجا عن الإحساس بالفشل وتوقعه في كل مناحي النشاط الذي نقوم به.

وكذلك الشلل الشامل يكون بسبب اليأس وفقدان الأمل.

كما أن الإحساس السلبي للذات وإدراكها على أنها وجود سالب ومقيت يدفع إلى الشعور بلا قيمة الذات، وعدم كفاءتها وحرمانها ونبذها من قبل الآخرين، وهذا بدوره يصنع إدراكا سلبيا للعالم الخارجي، ويؤسس لهزيمة الذات وعقوبتها، وإستمرار توقعاتها للصعوبات والمقاساة والفشل.

إن العلاج الإدراكي يهدف إلى تشخيص وتحديد الذهنية السلبية، والتشويهات الإدراكية المتراكمة وإستبدالها بادراكات جديدة مرنة ومفيدة، لتحقيق قدرة على التفكير الذي يحقق إنسجاما ما بين الإدراك الإيجابي والسلوك الناجم عنه فيحقق الحياة الأفضل.

والخلاصة أن المشاعر والسلوكيات تتحدد بالطريقة التي نرى فيها العالم ونركبه في أذهاننا.  وهذا العلاج يصلح لنا لأننا نمتلك مستويات عالية من الإضطراب الإدراكي، ويؤهلنا للتمييز بين المشاعر والأفكار، ويمنحنا الرغبة والإمكانية لصيرورة أفضل، ويزودنا بمهارات عالية في السلوك الإيجابي.

علينا أن نحدد الأفكار التلقائية، التي هي أفكار مشوهة ومختلقة من خلال التعامل مع الأحداث والمواقف، وتعترض التفاعل ما بين الذات بإنفعالاتها وعواطفها والحدث الخارجي المحيط بها.

فقد تعتقد أن الشخص الذي لم يسلم عليك يكرهك، بينما قد يكون ذلك لأسباب أخرى منها مثلا أنه مهموم ومشغول بأمر كبير ومزعج.

إن تفحص هذه الأفكار وعدم تضخيمها والتصرف على ضوئها ، وتحديد التكيفات السلوكية الخاطئة الناتجة عنها ضروري لسلامتنا الفكرية والسلوكية.

إن التفسيرات السلبية لها فعلها في حياتنا، وتؤدي إلى آثار أليمة ونتائج وخيمة، فنحن مهرة بالتعميمات وتثمير الأحداث الصغيرة، وتحويلها إلى مسلمات وثوابت فكرية وسلوكية، فنقول أن المشكلة في المجتمع والوطن بينما هي مشكلة صغيرة في بيت من بيوتات مجتمعنا، فنلصق ما يحصل في بيت من بيوت المدينة بالمدينة كلها، وعلى ما يبدو فقد علمنا الآخرين إستخدام لغة التعميم ضدنا لكي يحققوا ما يسعون إليه.

أما الإسقاطات، فأنها واضحة في سلوكياتنا بصورة عامة،  فنتحدث بلغة "هو" ونجعل الآخر هو السبب الأول والأخير فيما يحصل وننفي عنا أية مسؤولية، وهذا نوع من التفكير السلبي العائر الذي يوفر لمن يرغب بنا أسلوبا لتحقيق ما يريد.

ويبدو أن من الضروري أن نمتلك القدرة على التمييز بين التفسيرات السلبية والإيجابية ونتمسك بالإيجابي منها.

وأن نسعى لكي تكون توقعاتنا ذات معاني إيجابية، ومشحونة بالأمل والتفاؤل والإيمان بأن الغد أفضل دوما.

كما أن التمسك بالواقعية والعلمية في تفسيراتنا يساعدنا على العلاج، ويوفر لنا الأرضية لحياة صحيحة طيبة.

وعلينا أن نكون معقولين وغير مضطربين بسبب إحتدام العواطف والإنفعالات في أعماقنا، مما يدفع إلى تشويه بصائرنا وإدراكاتنا وتعميم تصوراتنا. إن تنازلنا عن التعميمات وإبتعادنا عن الإسقاطات والتبريرات، ووقوفنا أمام أنفسنا بعلمية وثقة وصدق وإصرار على الصيرورة الحضارية الزاهية والدور الإنساني الواضح، يؤسس لتحقق حضاري جديد.

أما إذا بقينا نتعامل مع الأيام بعقلية إكتئابية وتأنيبية، وإمعان بالقسوة على الذات وتحجيم قيمتها، والتفتيش عن كل السلبيات والعثرات وصبها في بودقة واحدة ذات لون أسود، وتوفير ذهنية مشوهة، فأننا لن نخطو إلى أمام مثل باقي البشر، وستغلبنا السلحفاة في وصولها إلى حيث تريد.

إن إنجازنا في القرن العشرين أقل بكثير من أمم بدأت بعدنا بعقود عديدة، وهذا يؤكد ويشير إلى ما سنكون عليه في القرن الجديد.

إن المفكر العربي عليه أن يتخلص من الذهنية السلبية المشوهة، التي على ضوئها يغوص في تحليلات سلبية وينتهي إلى نتائج تصب في  ميادين إحباطنا، وزيادة شدة كآبتنا وإنكماشنا وتلاشينا الحضاري.

***

د. صادق السامرائي

.............................

المصادر

1- Diagnostic Criteria from DSM- IV، APA 1996، Page 161- 163

2- Kaplan& Sadock، Psynopsis of Psychiatry، 8th edition، 1997، page 919- 924

ملاحظة: هذه الكلمات مكتوبة في تسعينيات القرن العشرين ولم تنشر في حينها، ونشرت في بعض الصحف والمواقع في بداية القرن الحادي والعشرين.

في المثقف اليوم