تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

مريم لطفي: البصر والبصيرة في القرآنِ الكريم

"قد جاءَكم بصائِرُمن رَبِّكمْ فمن أَبصرَ فلِنَفسهِ ومَنْ عَمى فَعليها وما أنا عليكمْ بحفيظٍ" سورة الانعام: 104

البصرهو النور الذي تدرك به الجارحة المبصرات، ويقال أبصرته برؤية العين إبصارا، والإبصار هو النظر الدقيق والإشراف، وهو أعم من الباصرة وهي العين (ألم نجعل له عينين) البلد8 أما الباصرة الباطنة فهي القلب، فالبصر إذن هو حاسة النظر الذي به تدرك العين صور الاشياء، فالرؤية والنظر مطلق غير مقيد بقيد العلم والعلم مطلق غير مقيد بقيد النظر .

فالنظر هو التحديق والتقليب في حدقة العين لادراك الصور وبه تبدأ مرحلة الابصار وهو أول مراتب الابصار أي إن النظر يتم دون استخدام للعقل وبالتالي عدم الاحاطة الكاملة بالشئ المرئي، فهو إذن نظر خاطف، ويحدث كثيرا أن ينظر الانسان لامر ما دون التركيز عليه وفكره مشغول بأمرٍ آخر فيبدو له الامر وكأنه لم يرَ شيئا ! وعندما يُسأل عما رآى فإنه سينكر رؤيته لاي شئ !وهو صادق لانه لم يُبصر شيئا بسبب عدم قيام مركز الابصار بعمله وقت النظر، فالنظر تم بلا رؤية وبالتالي بلا إبصار ! ويحدث ذلك عندما يكون الناظر شارد الذهن أو في حالة ذهول أو واقعا تحت تأثير مسكر، فهذه الامور تسبب عطلا مؤقتا لخلايا المراكز العصبية في المخ (بما فيها مركز الابصار) والنتيجة هي عمى مؤقت يزول بزوال اسبابه، أما إذا أصيبت خلايا مركز الابصار بتلف عضوي فالنتيجة هي العمى الدائم، وحالة النظر بلا رؤية معناها عدم القدرة على الابصار بسبب انعدام الركن الفعلي أو الادراكي وهو الرؤية قال تعالى"وتراهُم يَنظرونَ إليكَ وهم لايُبصرونَ" ..الاعراف 198، كما وإن الرؤية بلا نظر يمكن ان تحدث نتيجة استحضار بعض المشاهد القديمة المخزونة على شكل ذكريات من عمليات ابصار سابقة تامة وهذا مانعبر عنه (احلام اليقظة ) ومن الجدير بالذكر ان احلام اليقظة تتم بصورة اوضح في حال اغماض العينين ليتسنى للعين الا تتداخل صورها مع الصور الانية و حدوث (تشويش) على مركز الرؤية، وحقيقة الامر إن العين طالما تتجاهل بعض المشاهد أوتخدع العقل بارسال صورا سطحية أو فارغة، شأنها شأن الفلم الغير محمض، و قد ينخدع الدماغ بها ليعطي انطباعه على ضوء تلك الصورة وهذا مايسمى "خداع البصر"فهي كالحارس المرتشي الذي يغض الطرف عن بعض الامور ويهرّبها دون فحص وتمحيص (قالَ إلقوا فلمّا ألقوا سَحروا أعينَ الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحرٍ عظيم) . فالاية القرانية واضحة كعين الشمس فالعين من الممكن جدا أن تُخدع أو تُسحر لتنقل تصورا مغلوطا الى الدماغ، فالبصر يُخطف ويُزيغ ويُخدع.

ويقال إن فلانا مبصرا أي عكس ضرير ولكن ينادونه بالبصيرتكريما له بمعنى إنه يشاهد الاشياء كلها ظاهرها وباطنها بقلبه وجوارحه وليس بعينيه.

والابصار هو إدراك الصور ورموزها وانعكاساتها مع تحليل العصب البصري للمخ لترجمتها وتحليلها، لذلك فهو رؤية الاشياء مع استخدام العقل للاحاطة التامة بالشئ، أي إنه لايحدث بمجرد النظر السطحي إنما يتم عن طريق الاتصال بالمخ وهنا تظهر الحكمة الالهية في (غض البصر) لانه تعدى مرحلة النظر وزاد عن الحد المطلوب الذي حرك الاحاسيس معه قال تعالى"قُل للمؤمنين أن يغضّوا من أبصارهم ذلك أزكى لهم" النور30

فالبصرهو حاسة الرؤية الواضحة للاشياء، والرؤية هي الصورة الحقيقية بعد مرورها بمرحلة النظر ثم البصر انتهاءا بالرؤية قال تعالى"رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت" الاعراف198

أي إن النظر قد اقترن بالعين التي تدور في محجرها حسب الاية الكريمة

والنظر نعمة كبرى بل إنها أعظم النعم التي من الله بها على عباده

ونحن في بحثنا هذا نحاول تسليط الضوء على بعض الفروق البلاغية بين النظر والبصر والبصيرة في القرآن الكريم التي شملها في عدة آيات للتفريق سنختار بعضا منها:

- النظر للتأمل: قال تعالى (فلينظر الانسان مم خُلق) (أفلا ينظرون إلى السماء فوقهم) (ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين) فالنظر هنا استشعارا لعظمة الخالق .

- النظر لاهل الجنة بغير إحاطة (وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة) القيامة23

- النظر بمعنى المعاينة (انظروا إلى ثمره إذا أثمر) الانعام99

- النظر للاستشهاد (ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) الاعراف143

- النظر للتيسير (وان كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) البقرة280

- النظر للتميز بين الامور (فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها) البقرة259

- النظر المستحب للتمتع بجميل خلق الله (أفلا ينظرون إلى الابل كيف خُلقت) الغاشيى17

- النظر المكروه وهو النظرة السيئة التي تطال ماحرم الله (ولاتمدنّ عينيك الى مامتعنا به أزواجا منهم..) الحجر88

- طرفة العين وهي المدة الزمنية اللزمة لالقاء نظرة واحدة سريعة (قال الذي عنده علم الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتدّ طرفك) النمل 40

أما البصرفهو إدراك العين وهو الحاسة التي توصل الى الرؤية المتكاملة للصورة قال تعالى (أم لهم أعين يبصرون بها) الاعراف 19

- النظرة الخاطفة وهي التسريع والتعجيل (وما أمرنا إلا واحدة كلمح البصر) القمر50

- الكفر والجهل (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم و على أبصارهم غشاوة) البقرة 7

- بصر الادب والطاعة والعفاف (مازاغ البصر وماطغى) النجم 17

- الزيغ وهو الميل عن الاستقامة والانحراف عن الحق (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) الصف5

- الغشاوة وهي حالة إعجازية تتعطل أمامها كل القوانين السارية في الامور الاعتيادية (وجعلنا من بين أيديهم سدّا ومن خلفهم سدًّا فأغشيناهم فهم لايبصرون) يس 9

- غض البصر (فل للمؤمنين أن يغضوا من أبصارهم) النور30

أما البصيرة فهي قوة الادراك والفطنة والحجة والدليل وهي القوة المدركة في القلب، ومن وفقه الله جعل بصره في خدمة بصيرته فالمعرفة القلبية والفراسة والقوة الايمانية الحقة هي بصيرة مبصرة، وللبصيرة ايضا درجات منها:

بصيرة الايمان: وهي أن لايتأثر الايمان بشبهة عارضة تعارض ماوصف الله به نفسه ورسوله، فالله منزها عن العيوب والنقائص وهو حي لايموت لايخفى عليه مثقال ذرة في السموات والارض، وهذه البصيرة تجعل الانسان يسمو على منهج الصراط المستقيم، فهي نور يقذفه الله في قلوب المؤمنين لإبصار حقائق الاشياء (وابصر فسوف يبصرون) الصافات 179

- بصيرة العقل والحكمة وهي نور العقل والضمير التي يهتدي من خلالها الانسان بهدي الله"قد جاءكم بصائِر من ربكم"الانعام 104

- بصيرة الوجدان و التحكم بالحواس وهي بناء الافكار واتخاذ القرارات الصحيحة"قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني"يوسف108

- بصيرة الوعد وهي الايمان المطلق بالحياة الاخرة وان الانسان سوف يحاسب على أعماله وان أول المحاسبين له هي نفسه (بل الانسان على نفسهِ بصيرة) الاسراء 14

- بصيرة الجوارح وهي الرؤية القلبية الخالصة لله (ماكذب الفؤاد مارآى) النجم 12

- بصيرة البيان والتذكير (تبصرة وذكرى) ق 8

- لبيان الايات (وجعلنا آية النهار مبصرة) الاسراء12

- خصوصية المعنى وهي الوظيفة الدقيقة وراء كل لفظ بعينه (وتراهم ينظرون اليك وهم لايبصرون) الاعراف198 فلنتأمل هذا الثراء اللفظي الذي يظهر جمال اللغة القرآنية وبلاغتها فقد وردت فيه ثلاث ألفاظ تباعًا وهي الرؤية، النظر، والبصر، هذه الاية تجعل القارئ يتأمل جميل التخصص وفرادة المعنى وغنى المفردة.

فالبصيرة تنبت في رياض القلب المؤمن وهي الفراسة التي يميز الله بها بين عباده، فعندما يبعث الله الرسل مبشرين ومنذرين ومتحصنينين بنور الوحي وهو نورينبع من نور الله وينتشر ويستمر بزيادة الايمان والهدى

والبصيرة ثلاث درجات:

- اليقين فهي حق يمتثل بأوامرالله جل وعلا (قد جاءكم بصائر من ربكم) الانعام104

- اليقين بالعدل والحكمة الالهية (أليس الله بأعلم بالشاكرين) الانعام53

- الفراسة الصادقة والصراط القويم وهي فراسة يختص بها اهل الايمان وهي متصلة بالله متعلقة بنور الوحي (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم) محمد30

ومما سبق نصل الى نتيجة مفادها إن وظيفة البصر عملية مركبة من شقين هما النظرويقوم بها مركز عصبي خاص في قشرة المخ (الدماغ) وهو متصل بشبكية العين عن طريق العصب البصري، فالابصار هو الادراك الحسي لعالم المرئيات ذات الكيان المادي بعد النظر اليها في الضوء، أما البصيرة فهي الفكر المتقد والخلفية المخزونة عند الانسان التي تمكنه من التمييز والادراك واتخاذ القرارات والاهتداء الى الخير بنفس مدركة وبنظرة ثاقبة وفراسة وسرعة بديهية، فهي إذن المخزون والمكنون الداخلي للانسان والذي نعبر عنه بالعقل الواعي والقلب الناضح بالحكمة والمنفتح على تعاليم الله، وعندما يقال إن فلانا أعمى البصيرة فهذا تعبير مجازي لايراد به التعبير عن عمى العين بل يعني إنه لايرى حقيقة الاشياء بانطباعها في عقله وقلبه وعليه تكون بصيرته عمياء (ونُقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا) 110 الانعام

فالبصيرة تنظر للاشياء بعين القلب ويدركها العقل النير دون الحاجة الى حاسة البصر، هذه الخصيصة التي يخصها الله لبعض من عباده تجعلهم من الذين أبصروا الحياة بقلوبهم المؤمنة، فالبصيرة مصدرها الايمان بالله وتوحيده وترك الظلم و الملذات والبدع والخرافات التي تذهب البصيرة وتمحوها، وإن عمى البصيرة والقلب لهو العمى المبين والبلاء الحقيقي "أفَلَمْ يَسيروا في الأرضِ فَتَكونَ لَهُم قُلوبٌ يَعقَلونَ بِها أوآذانٌ يَسمعونَ بِها فإنّها لاتعمى الأبصارُ ولكن تعمى القُلوب التي في الصدور"..الحج46، وعندئذ لن يلتفت المرء الى ماأحله الله وحرمه ولن يرى شمس الحق ولاظلمة الباطل ولن يجد غضاضة في تعدي الحدود ولاحرجا في الايغال بالظلم فتراه يتخبط بالضلالة كالذي يتخبطه الشيطان من المس و فقد البصر وتاه عليه طريق الصراط وزين له سوء عمله طريق الشر الذي خلط عليه الاوراق فاتخذ العدو صديقا والظالم سندا وتعدى على حقوق الاخرين واغتصب المحرمات وخان الامانة وأراق العهد واستباح الاعراض ومن أضله الله فماله من هاد (ومن أضلُّ ممن اتبع هواهُ بغير هُدى من الله إنَّ الله لايهدي القوم الظالمين) القصص 50 والزيغ هو الميل والانحراف وعدم الهداية وتثبيت للزيغ الذي تلبسوا به بسبب فسوقهم واختيارهم الكفر على الايمان والباطل على الحق وذلك هو العمى المبين، فالبصرمداده الافق والبصيرة مدادها العمق، واذا كان البصر يرينا ظواهر الاشياء فالبصيرة ترينا كنه وحقيقة وجوهر الاشياء، ومدار عمل البصيرة هو القلب العامر بالايمان.

وحقيقة فإن من يتدبر معاني كلام الله جلّ وعلا في مجال البصر والبصيرة سيجد إن الله خصّنا بأجمل النعم وأعظمها وهي حاسة البصر، كما أتم نعمته علينا بأن أنار بصائرنا كما أبصارنا فهو نور السموات والارض بنوره نهتدي وبهدايته نسير (لاتُدركهُ الابصار وهو يُدركُ الابصار وهو اللطيف الخبير) الانعام 103

***

مريم لطفي الآلوسي

 

في المثقف اليوم