قضايا

محمود محمد علي: خواطر حول مشروعي الفكري في ضوء مستجدات الواقع (1)

شهدت العقود الأربعة الأخيرة من حياتنا الفكرية والثقافية ظهور عدة مشاريع فكرية وإبداعية ونقدية أنجزها المفكرون والأدباء والنقاد في بلداننا العربية، وفي هذا الخصوص رأينا الدكتور طه حسين يبني مشروعه من خلال إدخال منهج الشك الديكارتي إلى مسرح نقد الأدب والفكر والثقافة والدين في مصر والعالم العربي معا،  بل إنه قد تحول عنده إلى ناظم محوري لكل كتاباته حيث قام بتوظيفه طوال مساره النقدي وطبقه على شتى الظواهر الثقافية والفكرية بما في ذلك حقل التعليم.

وفي مجال الفلسفة رأينا الدكتور حسن حنفي يبني مشروعه على فكرة تحليل ونقد خطاب الاستغراب، في وقت كان فيه محمد أركون يعلن عن مشروعه من خلال تشابك العقلاني والأسطوري في التراث الديني الإسلامي واستمرار تفريخ هذين البعدين في مجتمعاتنا راهنا، وكان أيضا محمد عابد الجابري  صاحب مشروع نقد العقل العربي، الذى يعتمد على العقلانية والتحليل المنطقي لتسليط الضوء على واقع العرب، وذلك من خلال عدد وافر من الدراسات صاحب مشروع نقد العقل العربي، الذى يعتمد على العقلانية والتحليل المنطقي لتسليط الضوء على واقع العرب.

وفي هذا السياق بالذات يلفت انتباهنا مشروع عبدالرحمن بدوي والجهود التي بذلها من أجل فهم الوجودية وتأصيلها في البيئة الفكرية والثقافية بمجتمعاتنا، ويمكن القول مع الأستاذ أزراج عمر أن المغامرة الفلسفية لعبد الرحمن بدوي تقوم على دراسة البعد الثقافي العربي الذاتي وعلى ترجمة وتحليل بعد الفكر الغربي، ولا شك أن جهوده قد توجت بإضافة مقولتين اثنتين إلى مقولات كل من أرسطو وإمانويل كانط، ومما يؤسف له أن هذه الإضافة المهمة للمفكر بدوي وغيرها لم تبرز في النقد الفلسفي العربي ولم تشهد توظيفا لها في الدراسات الفلسفية والنقدية الثقافية.

كذلك رأينا في الفكر الأوروبي المعاصر وبالذات مع هيدجر، احتل المشروع مكانة جوهرية في تاريخ الفكر، حيث بدا كرد على سؤال مركزي في الميتافيزيقا، يتعلق بإمكانية فهم الكائن البشري. وقد طرح هيدجر إشكالية جديدة للكينونة في كتابه “الكينونة والزمن” l’Etre et le Temps، نقلت الفلسفة من التفسير الميتافيزيقي إلى الذهاب إلى الأشياء في حد ذاتها، إذ أضحت الكينونة جوهرا ووجودا، وأضحى جوهر الإنسان يدرك ويفهم ويؤسس داخل سؤال الكينونة، كونه أضحى معنيا بتدبير هذه الكينونة. فكما قال كانط: "ليس الإنسان شيئا بالطبيعة، وبالتالي فإن إنسانية الإنسان تتولد من الإنسان نفسه".

ويرتكز مفهوم المشروع على مرجعيات ذات منظور فلسفي للإنسان حاول من خلاله البحث عن عالم له معنى، غير أنه لا يتخذ كليا بتلك "الوضعية" التي عبر عنها هيدجر بـ "قفزة ذاتية للإنسان إلى الأمام" من خلال ماضيه وحاضره، بل يفترض ذلك قدرته على التموقع داخل هذه "الوضعية" وقدرته على اتخاذ مسافة لملاحظتها وتحليلها وإدراكها بشكل من الأشكال.

وأي مشروع لابد من أن يرتكز على إعادة مساءلة الحاضر ومدى ملاءمته، وذلك بالتساؤل عما نقوم به اليوم، وإلى أي حد نعتبر أن ما ننجزه اليوم يسمح لنا في نفس الوقت بمراجعة ماضينا والانفتاح على مستقبل ممكن.

وإعادة الحاضر تقتضي النظر في مسألة التجديد من خلال إعادة النظـر فـي كـل التجارب الاجتهاديـة فـي فهـم الكتـاب والسـنة والواقـع وفـي كـل أسـاليب العرض والاسـتدلال التـي اسـتهلك ها الـزمن لان التطـور فـي الأسـاليب -مـن حيث الشكل والمضمون- قد أدى إلى ضرورة استحداث أسـاليب جديـدة تنسجم مع الذهنية المعاصرة ومع تطـور المفـردات الثقافيـة، لنسـتطيع - مـن خلالها- الدخول إلى العقـل الإنسـاني المعاصـر وقلبـه.

وفي اعتقادي أن ذلك لن يتم إلا خلال إلغاء فكرة فصل المقال عن المنهج لا المقال عن العلم، وهذا المبدأ الابستمولوجي قد طبقته في كثير من كتاباتي، وأفضل تطبيق له، كان في كتابي " النحو العربي وعلاقته بالمنطق "، حيث كشفت أن الانبثاق المفاجئ للنحو العربي، يعد في واقع الأمر ليس تفسيرًا لأي شيء ؛ بل إنه تعبير غير مباشر عن العجز عن التفسير، فحين نقول إن النحو العربي كان جزءًا من المعجزة العربية يكون المعنى الحقيقي لقولنا هذا، هو أننا لا نعرف كيف نفسر ظهور نشأة النحو العربي.

والعجز عن التفسير هنا راجع إلى اختلاط لنشأة وتطور النحو العربي والتي تجسدت في اعتقادنا من خلال ثلاث مراحل حتي اكتملت:

1- المرحلة الوصفية: وهذه المرحلة قد استغرقت نحو قرن أو بالأحرى أكثر من نصف قرن، من عهد أبي الأسود الدؤلي حتى عهد سيبوبه، ولعل أهمية هذه المرحلة في النحو تعود إلى أنها شهدت بدء محاولات استكشاف الظواهر اللغوية بعد أن فرغ أبو الأسود الدؤلي من ضبط المصحف بواسطة طريقة التنقيط التي استعارها من يعقوب الرهاوي بعد تقنينها وتعديلها حسب مستجدات وأبعاد اللغة العربية، كما أنه تم فيها أيضًا المحاولات الأولى لصياغة ما استكشف من الظواهر اللغوية في قواعد، ثم تصوير هذه القواعد في شكل بعض المصنفات الصغيرة التي أتاحت الفرصة لمناقشة الظواهر والقواعد معًا، مما فتح الباب أمام أجيال هذه الفترة لوضع الأسس المنهجية التي كان لها تأثيرها فيما بعد .

كما شهدت هذه المرحلة أن النحاة العرب الأوائل قد استعاروا بعض مضامين النحو اليوناني الذي دون منظومته "ديونيسيوس ثراكس "، وذلك بطريق غير مباشر عن طريق السريان، وتجسد ذلك من خلال عصر " أبو الأسود الدؤلي، وعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه )، وبالتالي فالمرحلة الأولى من النحو العربي شهدت تأثرًا بالنحو اليوناني بواسطة السريان؛ خاصة بعد أن امتلك العرب سوريا، والعراق، ومصر، وبلاد فارس بين سنتي ( 14" هـ" و" 21هـ، 635م- 641م" فاتصل العرب باليونان عن طريق السريان اتصالًا غير مباشر لقرب البصرة والكوفة من مراكز الثقافة ووجود كثير من الناس يتكلمون بلغتين، ووجود أوجه شبه لافتة بين النحو العربي والنحو اليوناني، مما يثبت أن النحاة العرب الأوائل قد استعاروا بعض العناصر من النحو اليوناني حتى يبنوا نظامهم النحوي عن طريق السريان.

2- المرحلة التجريبية: وهذه المرحلة قد استمرت قرابة قرن أو يزيد، وتبدو هذه المرحلة التجريبية للنحو العربي أوضح ما تبدو في كتاب سيبويه، وسبب اختيارنا لسيبويه هو أنه من الناحية التاريخية يعرف الجميع أنه بعد أن أنهى كتابة مؤلَّفه "الكتاب" الذي يعد مرحلة متطورة، وناضجة، من مراحل التفكير النحوي العربي، كان يعتمد في منهجه النحوي علي المنهج التمثيلي. والسبب طريقة سيبويه اعتمدت العمل الاستقرائي المرتبط بالواقع الاستعمالي للغة محاولًا تصنيفها، وتحديد علاقاتها على أساس التماثل الشكلي والوظيفي، وصولًا إلى وضع الأحكام والقوانين العامة .

ومن هذا المنطلق سنكشف لماذا لم يعتنِ سيبويه بالحدود النحوية؛ خاصة بعد أن رتب موضوعات المادة النحوية في كتابه على أساس ذكر المادة كاملًة دون مصطلح واضح محدد، ثم الدخول إلى الموضوع دون ذكر حد منطقي، وفي أكثر الأحيان يحدد الباب النحوي بالمثال أو ببيان التقسيمات مباشرة، وهذا يؤكد نفي تهمة تأثر كتاب سيبويه بمنطق ارسطو .

3- المرحلة الاستنباطية: وهي المرحلة التي أفضى فيها التراكم المعرفي الذي حققه تطور النحو العربي في المرحلتين الوصفية، والتجريبية، وقد أدى هذا التراكم الكمي إلي تغير كيفي علي ثلاثة مستويات محددة: مستوى الوسائل العقلية المنهجية من جانب، ومستوى مفاهيم العلم ومبادئه من جانب آخر .

أما المستوى الثالث فهو مستوي نظرية العلم، التي تحدد البينة أو الشكل الذي سيجئ عليه العلم في هذه المرحلة . وفي المرحلة الاستنباطية يتم صياغة الحد الأدنى من قواعد العلم ومبادئه التي تمكن المختصين من الانتقال من مبدأ أو أكثر داخل العلم إلي مبدأ جديدًا، كما هو الحال في المنطق والرياضيات، أو تمكنهم من التنبؤ بما سيحدث مستقبلاً – بحسب مبدأ عام مستقر – كما هو الحال في العلوم الطبيعية، أو تؤهلهم أخيرًا لاستنباط أحكام معينة من قواعد عامة لحل مشكلات اجتماعية جزئية معينة، وهذا هو مثلًا شأن علم القانون .

وهذه المرحلة حين نطبقها علي النحو العربي، نجد أنها تبدأ من أبي بكر بن السراج حتى الحقبة الحديثة، وهذه المرحلة قد ظهر فيها تأثير المنطق في الدرس النحوي بصورة واضحة في استعمال النحويين للتعريفات، أو الحدود، والعوامل، والأقيسة، والعلل، وبعض المصطلحات المنطقية كالجنس، والفصل، والخاصة، والماهية، والماصدق، والعهد، والاستغراق، والعموم، والخصوص، المطلق، والعموم، والخصوص الوجهي، والموضوع، والمحمول، واللازم، والملزوم، إلى أخر هذه المباحث المنطقية... وللحديث بقية.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي – كاتب مصري

.......................

المراجع:

1- أزراج عمر: المشاريع الفكرية العربية نزعة فردية متأثرة بالغرب، مثال منشور بجريد العرب، الجمعة 2020/01/24

2-د. محمود محمد علي: ملاحظات أبستمولوجية حول منهج خير الله سعيد، مقال منشور بصحيفة المثقف،  نشر بتاريخ: 08 نيسان/أبريل 2023

3-المختار شغالي: المشروع مفهوم فلسفي، مقال منشور بهسبريس، الأحد 5 يوليوز 2015 - 23:01

في المثقف اليوم