قضايا

طه جزاع: تناسلٌ إلى الأدنى

في كتابه "هؤلاء علموني" يخبرنا سلامة موسى كيف أنَّه انخدع سنواتٍ كثيرة بالفيلسوف الألماني نيتشه الذي افتتن به في سنوات شبابه قبل أنْ يتخلصَ منه، لكنَّه أحبه ولم يبغضه؛ لأنَّ كتاباته كانت نثراً ساحراً كأنها أبياتٌ من الشعر، وخيالاً يرتفع إلى آفاق المستقبل، وجرأة تكاد تُجَّمد ذهن الناشئ رهبة وجزعاً، أو تنفضه حماسة وطرباً. ولعلَّ موسى كان يقصد أنَّه خُدع وصدق في مطلع شبابه فكرة الإنسان السوبرمان، أو الإنسان الأعلى، فقد كان نيتشه يقول ما هو القرد إزاء الإنسان؟ أضحوكة أو خزي، كذلك يجب أنْ يكون الإنسان إزاء السوبرمان، أضحوكة أو خزياً؟ إنما الإنسان، وفق وصفه، هو معبرٌ أو جسرٌ يصل بين القرد والسوبرمان، ولسوف يكون السوبرمان ازدهاراً وخيراً وتعبيراً نهائياً للأرض: أستحلفكم أنْ تكونوا أمناءً للأرض، وأنْ تكفوا عن التطلع إلى النجوم تنشدون منها آلاماً ومكافآت. عليكم أنْ تضحوا بأنفسكم للأرض حتى يتاح لها أنْ تنجبَ يوماً ما السوبرمان، الإنسان شيء يُعلى عليه، فماذا فعلتم كي تَعلوا عليه؟.

وقعت هذه الكلمات الغريبة في نفس سلامة موسى كأنها الوحي أو الكشف، وهو في حوالي العشرين من عمره، فتعلق بها إلى الحد الذي دفعه لكتابة مقالٍ في مجلة المقتطف عام 1909 تحت عنوان " نيتشه وابن الإنسان" وهو تحت وقع الدهشة بروعة أفكار هذا الفيلسوف الألماني، ومن ذلك مقولاته التي كانت تبدو كأنها توصيات لعالم جديد، وإنسان جديد: لا يجب أنْ نتناسل إنما يجب أنْ نتناسل إلى أعلى، الزواج هو اجتماع إرادتين لإيجاد شخصٍ ثالثٍ أعلى من الزوجين، الغريزة هي أسمى أنواع الذكاء التي اكتشفت إلى الآن. وكانت هذه الأفكار ومثيلاتها تحمل سحراً في التعبير وفي التفكير، غير أنَّ سلامة لم يكن مقتنعاً بمنطق نيتشه الذي قد يؤدي بقارئه للانزلاق إلى الهاوية، وبالأخص الشباب منهم الذين يحذرهم من قراءته إلا إذا قرأوا معه دوستويفسكي وغاندي وبرنارد شو، فهؤلاء هم الترياق الذي يحتاجه الشباب إذا قرأوا نيتشه، لأنَّ أقواله تؤدي بهم إلى الوهم، أو الجنون!.

الحق يقال فإنَّ بعض الكتب والروايات التي نقرأها تترك أثراً عميقاً في نفوسنا، ويترك بعض الكتاب والفلاسفة والأدباء أثراً مماثلاً في عقولنا، وتوجهاتنا، وطريقة فهمنا للأمور، وفلسفتنا في الحياة، ولطالما تواجه الإنسان مواقف ولحظات صعبة يحتار في خيارات التعامل معها، غير أنَّه سرعان ما يتخذ القرار متأثراً بوعي، أو من دون وعي، بثقافةٍ اكتسبها من قراءاته، ومن مواقف عاش معها أوقاتاً من التأمل والمتعة وهو يتابع تصرفات وعلاقات شخوص رواية مثيرة، أو يتصفح كتاباً يضمُّ خلاصة فكر وتجربة وحياة، وهناك من نقرأ لهم فنحبهم، وهناك من نقرأ لهم فنشعر بالأسف والندم والخداع لأننا أضعنا وقتنا معهم.

بعض الأفكار تؤدي بنا إلى الوهم، أو الجنون، لكننا نحبها، مثلما أحبّ سلامة موسى ذلك العبقري المجنون الذي توهم أنَّ الإنسان يرتقي إلى الأعلى، فإذا به ينحَّط خُلقياً وإنسانياً إلى مستوى أدنى المخلوقات.

***

د. طه جزاع

في المثقف اليوم