قضايا

عبد العزيز قريش: ماذا يتطلب نجاح المتعلم؟

(من رواسب المعرفة والتجربة والخبرة والممارسة)

ـ سؤال مشروع: في ظل سياق العملية التعليمية التعلمية الهشة والمأزومة، تنبعث أسئلة مشروعة من رحم معاناة المجتمع المدرسي من تدني المردودية الداخلية والخارجية للممارسة الصفية، واختلال التوازن بين الشعب والمسالك التعليمية والمجالات المعرفية، وتغليب حقل على آخر. وضمنه؛ سئلت افتراضا: ماذا يحتاج متعلمنا في المدرسة ليكون ناجحا في دراسته وحياته؟

سؤال؛ قد يبدو بسيطا عند التسرع في الإجابة عنه ممن يعتقد أنه اكتسب خبرة في المجال التعليمي والتربوي والتكويني، ومن مارس فعل التربية والتعليم والتكوين ردحا من الدهر، وتدرج في مستويات ذلك من الابتدائي إلى الجامعي والمهني. لكن في حقيقة السؤال أنه سؤال مركزي ورئيس صعب، لمعطى تغيرات العصور وتطورها، ولكل عصر منها متطلباته ومستلزماته وشروطه وناسه وأحداثه... فمثلا عصر الزراعة ليس مثل عصر الصناعة، وعصر الصناعة ليس كعصر المعرفة، وعصر المعرفة ليس كعصر ما بعد المعرفة؛ وهكذا لكل عصر خصوصياته ومتطلباته. وما دمنا دخلنا عصر المعرفة بعالمها المعولم الذي يشهد تطورات تكنولوجية وإعلامية ومعلوماتية بعتادها وبرمجياتها وبنياتها التحتية مع الذكاء الاصطناعي وتطوراته المتسارعة، وخدماته المتنوعة، التي أصبحت أساسيات في أداء بعض المهام والمهن، وغدت عماد اتخاذ القرارات والبحث عن الحلول للمشاكل والقضايا المتنوعة. فهذا العصر، إذن يتطلب مطالب واحتياجات مختلفة عن تلك التي لعصر الصناعة، من حيث هو عصر المعرفة ومجتمع المعرفة؛ يستدعي درجة عالية وكبيرة من الثقافة المعلوماتية في المجتمع، والوعي بتكنولوجيا المعلومات، ودورها المركزي في الحياة اليومية للإنسان فضلا عن أساسها ومرتكزها المعرفة، التي تشكل المدخل الطبيعي لكل إبداع وإنتاج ومنتوج.

ـ من رواسب المعرفة والتجربة والخبرة والممارسة:

وأنا أتقاسم مع السائل معرفتي البسيطة، وما تراكم وترصد لدي من معلومات وكفايات وقدرات ومهارات وقيم وخبرة وتجربة متواضعة، أزعم أنها قد تسعفني بدرجة معينة ونسبة محددة في توضيح رأيي في هذا الموضوع. وبما أن المتعلم هو إنسان المستقبل، وضع في قناة التشكيل والإعداد والتأهيل بسيرورة معينة تنشيئية ذات مراحل محددة وفق مراحل النمو البشري، ومتضمنات التربية والتعليم والتكوين والتأهيل. فله بعدان في هذه المسألة؛ بعد مدرسي وبعد تكويني تأهيلي مجتمعي.

1 ـ البعد المدرسي:

واحتياجات نجاح المتعلم في البعد المدرسي عديدة، لكن سأركز على الأركان منها كما يلي:

نجاح المتعلم يعتمد في البداية على:

أ ـ تحصيل المعرفة الأبجدية في الحقول المعرفية المدرسة وفق المنهاج الدراسي عبر فعلي التعليم والتعلم؛ من حيث تلعب التربية والتعليم والتكوين دورا رئيسا ومركزيا في الاندماج الاجتماعي للمتعلم/ة بتوفير المعرفة والمهارات اللازمة للعمل بفعالية في المجتمع. وتمكنه من تركيم وترصيد المعرفة على المستوى العمودي والأفقي التي تقدره على الاستمرار واستدامة التعلم عبر المراحل والأسلاك التعليمية الرسمية، وعبر التعلم الذاتي أو عبر التعلم عن الآخرين وتجارب وخبرات السابقين. فهذه الأبجديات المعرفية والأدائية هي الرافد الأساس لمساره التعلمي.

ب ـ الموارد الداخلية المبرمجة رسميا، والخارجية المكتسبة في السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي والإيديولوجي والمعلوماتي والتكنولوجي والتقني والاقتصادي والمعيشي... وبصفة عامة المستفادة من المعيش اليومي وتجارب الحياة في المجتمع ضمن العلاقات بينية والتفاعل الإنساني تأثيرا وتأثرا؛ هي التي تدعم وتعزز تلك الأبجديات المعرفية، وتحسن وظيفتها في إغناء تجربة المتعلم/ة وإسنادها للرفع من كفاءة التعلم عنده. فالاستمرار في المسار التعلمي يتكئ على هذه الأبجديات والموارد والخبرات والتجارب والمواقف الحياتية المعيشة. فلا تطور، ولا تقدم في المستقبل التعليمي للمتعلم/ة دونها.

ج ـ اكتساب المهارات والكفايات والقدرات بما فيها مهارات التفكير على مختلف أنواعها حسب نوع التفكير؛ فالتفكير بكل أنواعه هو المدخل الأساس في اكتساب المعارف والموارد والأنشطة التعليمية المتنوعة، التي ترشح عند المتعلم/ة كفاية المعرفة والفعل، وتخلق إرادة التحدي للصعاب والعوائق والحواجز التي تقف في دربه التعلمي. فالتفكير هو مهد كل منجز فكري ومادي يستفيد منه المتعلم/ة أولا ثم الإنسانية ثانيا، ويشكل حوضا يتغذى منه التطور الإنساني والوطني.

د ـ اكتساب مناهج البحث والدراسة وأدواتها فضلا عن الاستراتيجيات وخطوات تنفيذها والاستفادة منها والتعلم من خلالها؛ فالمتعلم/ة الذي يفتقد هذه المناهج وأدواتها واستراتيجياتها لا يستطيع مسايرة تطور المعرفة فضلا عن متابعة دراسته، فهو كالبناء الذي يفتقد أدوات العمل، حيث لا يستطيع تشييد البناءات فضلا عن العمارات. فشرط الدراسة والتعلم والتكوين هو امتلاك المتعلم أدوات ومناهج واستراتيجيات ذلك. وإلا؛ نكون كالذي ألقي في البحر لانقاد الغريق وهو ما بسباح ولا يدري السباحة! تطبيقا للمثل السائر فينا عن عمرو بن العاص: " مكره أخوك لا بطل ".

هـ ـ اكتساب تجربة وخبرة كيفية التطبيق العملي للمكتسبات سواء معارف ومعلومات أو نظريات أو كفايات ومهارات وقدرات وقيم، أو كأساليب واستراتيجيات وطرق ومنهج وديداكتيك... وغير ذلك. وتوظيف أدوات وتجهيزات وآليات البحث والدراسة؛

و ـ اكتساب حافزية التعلم والبحث، وجرأة اقتحام المجهول واستكشافه والاستفادة منه، وإرادة الفعل والتحدي لكل الصعاب والعوائق والتحديات بروح صلبة، وبصيرة نافذة، وعزيمة قوية، وباستشراف متفائل للغد والمستقبل. وهو يسمح للمتعلم بالتطور والتقدم والتغيير؛

ح ـ ممارس بيداغوجي مكون ومؤهل مهنيا وأكاديميا ونفسيا وثقافيا، يؤمن برسالته التربوية والتعليمية، يستشعر المسؤولية في أدائه التربوي والتعليمي ضمن توفير كل شروط ومتطلبات الرسالة وعلى رأسها الاستقرار النفسي والمالي.

ط ـ ضمان متطلبات وضروريات ومستلزمات وشروط العملية التعليمية التعلمية، إزاء التنشئة الأسرية والاجتماعية المتوازنة والفاعلة، الضامنة للتوازن النفسي والتوافق الدراسي... والبيئة الدراسية الحاضنة للمتعلم والداعمة له في تحصيله المدرسي؛

ي ـ كفاية الفعل؛ بمعنى قدرة المتعلم على الفعل سواء أكان تفكيرا أو إنجاز عمل في الواقع بما يمكنه من معرفة معطيات موضوع الفعل وميكانيزم اشتغاله فضلا عن كيفية الاشتغال عليه.

2 ـ البعد التكويني التأهيلي المجتمعي:

عندما يتدرج المتعلم حسب أسلاك التعليم، يصبح في مرحلة ما شابا ناضجا، يخرج من دائرة التربية والتعلم إلى دائرة التكوين والتأهيل للاندماج في المجتمع وفق ما طمح أن يكون عليه من موقع اجتماعي وسياسي واقتصادي وثقافي وفكري ومهني؛ لممارسة مهنة معينة في المجتمع والقيام بدور يحدده لنفسه أو يحدد له، في سياق التفاعل الاجتماعي لمكونات المجتمع من أفراد ومؤسسات وجماعات ومنظمات. ومن أجل هذا الاندماج على المتعلم أن يكتسب:

أ ـ المهارات الحياتية أو المهارات الأساسية أو المهارات الناعمة؛ بما هي قدرات ومهارات وكفايات تمكن الفرد من القيام بسلوك ومواقف تكيفية وإيجابية تقدره على مواجهة مشاكل وقضايا الحياة اليومية، والتعامل مع معطياتها ومشاكلها وتحدياتها، من خلال تركيز وتعزيز السلوك الشخصي الإيجابي المتفاعل، والتكيف الاجتماعي والمهني والإنساني مع الوسط والبيئة التي يعيش فيها الفرد/المتعلم. وهي المهارات والقدرات والكفايات عامة لا ترتبط بمهنة معينة بالضرورة، ولكنها متعلقة بطريقة تفاعل الفرد مع وسطه وبيئته من حوله، وتواصله وتفاعله مع الآخرين، وتعامله مع المواقف الحياتية المختلفة. ومن بين هذه المهارات والقدرات والكفايات بالنسبة للمتعلم/ة:

* الاتصال الفاعل والمتفاعل مع الآخر من حيث قدرة المتعلم/ة واستطاعته التعبير عن أفكاره ورؤاه بوضوح وجلاء، والاستماع بنشاط للغير أو محاوره والتواصل معه بشكل بناء وإيجابي وفعال في إطار التفهم والحوار السليم، في إطار لغوي مفهوم وواضح دون تشويش أو ضبابية أو مراوغة. وفي إطار مستوعب للأعراف والقيم والأخلاق الاجتماعية الحاضنة للتواصل والحوار كما في الثقافة الإسلامية والتقاليد المحلية والوطنية، التي تراعى عند الناس في تفاعلهم الحواري والتواصلي. الأمر الذي يؤدي إلى الاستقرار الاجتماعي للمجتمع والأفراد والمؤسسات القائم على الظروف الاجتماعية المستقرة، بما في ذلك توفير الأمن الجسدي الفردي والأسري والمؤسساتي والمجتمعي، وحصول الفرد على الشغل والسكن والعدالة والتعليم والصحة... ما يعزز التكامل الاجتماعي في المجتمع.

* حل المشاكل والقضايا والإشكاليات الحياتية سواء أكانت فكرية أو نظرية أو عملية تطبيقية في مختلف المجالات والقطاعات والعلاقات البينية؛ بمعنى قدرة المتعلم/ة واستطاعته تحليل المواقف وتشريحها، وتحديد المشاكل والقضايا والإشكاليات الواقعية والحقيقية، المركزية والأساسية والثانوية مع تحديد المحتملة منها، وإيجاد الحلول المناسبة لها، والناجعة التي تحقق التقدم والتطور، والتي تراكم وترصد المكتسبات.

* اتخاذ القرارات الناجعة والفاعلة؛ بمعنى صناعة القرارات عبر قدرة المتعلم/ة على اتخاذ قرارات مستنيرة مبنية على الإدراك والوعي بها، ومرتكزة على المعرفة والعلم والتدقيق في بياناتها ومعطياتها وامكانياتها ومتطلباتها وأهدافها وإمكانية تنفيذها وإجرائها وتطبيقها. وتقويم وتقييم الخيارات الممكنة والمتاحة واستحضار العوائد الإيجابية والسلبية بمسمى العواقب والتحديات.

* إدارة الوقت؛ بمعنى مهارة المتعلم/ة وقدرته على تنظيم الوقت وإدارته بفعالية وفاعلية ضمن تحديد الأبجديات والأولويات لإنجاز المهام بكفاءة، والقيام بالوظيفة الموكولة له بالشكل المطلوب تحت سقف المواصفات والمؤشرات والمعايير المحددة للوظيفة وناتجها العملي.

* القدرة على التكيف؛ بمعنى استطاعة وقدرة المتعلم/ة على كفاية التكيف، التي يفعلها اتجاه مواقف الحياة المختلفة، ويجريها على التغيرات الحاصلة في الواقع بطريقة إيجابية ومتفهمة. والتكيف هنا يكسب المتعلم مهارات متنوعة كالانسجام مع الآخر، والقبول بالرأي المخالف، وتقدير المكتسبات التي تأتي من الغير، واحترام الشخص المختلف، والتشبث بقيم الحوار، وتقدير وتفعيل قيمة التعاون والتكامل والتفاعل، واحترام المعايير الثقافية الخاصة بالمجتمعات عامة ومجتمعه خاصة، التي تستوعب القيم والتقاليد والتوقعات الثقافية التي تختلف من مجتمع إلى آخر حسب معطياته الخاصة... وهي مهارات وقيم غير متاحة للجميع على قدم المساواة، وإنما هي التي توقع التفردات والتميزات بين الأفراد والجماعات.

* إدارة الإجهاد والعناء؛ بمعنى قدرة المتعلم/ة على التعامل مع المواقف لسيكولوجية بما فيها العصيبة، كالقلق والتشنج والخوف واليأس... ومحاولة حفاظه على الهدوء والراحة البدنية والنفسية تجاه ما يسبب له ذلك، وكذلك إمكانية خلقه طرقا بناءة للتعامل مع الضغوط النفسية. وإيجاد التوازن والتوافق الذاتي أولا ثم التوافقات الأخرى من اجتماعية واقتصادية...

* التعاون والعمل الجماعي؛ وقد سبق ذكره، بمعنى قدرة المتعلم/ة على العمل بفعالية وإيجابية وتكامل وتناسق مع الآخرين، وانسجام في بعض الأحيان وتفاهم، وتقاسم المسؤوليات وتحقيق الأهداف المشتركة، وتحديد الأدوار والمهام والالتزام بها. وهذه القدرة لا يكتسبها المتعلم/ة إلا بالوعي بذاته وبالآخر وبمجال العمل، واستحضار مجموع مكتسباته المتنوعة وخبراته وتجاربه تحت كفاية الفعل والإرادة الشخصية، وذلك ضمن المجتمع الواعي والمؤسساتي الذي يشرك جميع أفراده على قدم المساواة دون تمييزهم بأي معطى إثني أو سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو ديني أو إيديولوجي أو ثقافي... كان؛ في أنشطته المتنوعة تعزيزا للاندماج الاجتماعي.

وفي إطار الاندماج الاجتماعي نجد المنظومة التربوية والتكوينية بمنطوق المؤسسة التعليمية تحتضن التنوع والشمول بطبيعتها لتنوع مداخلها وروافدها، من حيث تعززه بالتنوع الثقافي والاجتماعي والعرقي والإيديولوجي والسياسي والاقتصادي والديني والمذهبي... وبذلك تعزز الشعور بالإدماج والاحترام والتقدير المتبادل بين الجميع.

* الاستقلالية؛ بمعنى استطاعة وقدرة المتعلم/ة على اتخاذ المبادرة الشخصية تحت سقف القبول بالمسؤولية عن أفعاله تقويما ومساءلة ومحاسبة وتحفيزا، وقدرته على العمل بشكل مستقل وحر ووعي تأثيرا وتأثرا.

* التعاطف؛ بمعنى استطاعة وقدرة المتعلم/ة على فهم وتفهم الآخر، ومشاركته مشاعره وهواجسه، والتعرف على وجهات النظر المختلفة والمتنوعة، وتطوير العلاقات البينية الإيجابية بناء على خلق روابط بينية قوية تعزز التعاون والدعم المتبادل والتفاهم المشترك.

* التدبير المالي؛ بمعنى مهارة وقدرة المتعلم/ة على وضع مشاريع الميزانيات والأغلفة المالية، وإدارتها بشكل معقلن وفعال، واتخاذ القرارات المالية المسؤولة وتحمل تبعياتها المتنوعة.

هذه المهارات والقدرات والكفايات وغيرها تعتبر عاملا حاسما في النجاح الشخصي والمهني للمتعلم/ة من حيث تساعده في بناء مرونته، وتعزيز علاقاته البينية الإيجابية مع الأشخاص والجماعات والمؤسسات والمنظمات وجماعات المهن، وتمكينه التنقل بسهولة بين تحديات الحياة اليومية ومواجهتها.

ب ـ بناء على مكتسباته المدرسية والاكاديمية والمهنية، والمهارات الحياتية، ينخرط المتعلم/ة في المجتمع بلعب دور ما وفق المؤهلات التي رشحتها هذه المكتسبات، وبذلك يشارك الآخرين في رحاب المجتمع من خلال: مشاركته الاقتصادية عبر العمل والشغل والتنمية بوصوله إلى فرصة عمل عادلة. ومشاركته عبر العمل السياسي بالانتماء إلى منظمة سياسية معينة، والذي يتضمن عمليات صنع القرارات، ومشاركته عبر العمل الاجتماعي المرتبط بمواجهة قضايا المجتمع والعمل عليها، ومشاركته عبر بعده الثقافي من خلال تعاطيه مع الفنون والقيم الثقافية والتعبير، ومشاركته عبر بعده القيمي في تخليق الحياة العامة والخاصة، ونشر القيم الإنسانية في المجتمع معرفة وسلوكا.

ونتيجة هذه المكتسبات؛ يمتلك المتعلم/ة الحرية والقيم المعنوية والاستقلالية والعدالة والعقلانية، بما يمكنه من جرأة اقتحام المجهول بالتساؤل والتجربة والاستفادة من تجارب الآخرين، والعمل على رفع مستوى التحدي للصعوبات والمعوقات، ورفع درجة الوعي والوعي السياسي عنده بما يشكل نظرته تجاه القضايا المحلية والوطنية والإقليمية والعالمية في مقاربتها والتعاطي معها ضمن المشاركة الاجتماعية والجماعية، ورفع درجة الاعتماد على ذاته، وتقديرها من خلال الوعي والتحلي بالنزاهة والمسؤولية في تنفيذ وجهة نظره تلك.

والملاحظ أن هذه المكتسبات والمهارات تتفاعل فيما بينها بشكل معقد. فيه كل مكتسب ومهارة تختلف أهميته النسبية اعتمادا على الثقافة السائدة والسياق الاجتماعي والسياسي المعيش وعوامل أخرى خاصة متعلقة بكل مجتمع وأفراده.

ج ـ بعدما تكون سيرورة المكتسبات والمهارات والقدرات والكفايات والتعلمات والتجارب والخبرات مكنت المتعلم/ة صغيرا وراشدا كيفية الانصهار في مجتمعه على المستوى الأفقي بتشبعه وتمثله لمجموع قيم المجتمع وتقاليده وعاداته وأشكال وأنماط عيشه. وعلى المستوى العمودي باكتسابه هوية سياسية معينة توطن انتماءه وانتسابه للوطن والدولة، وتعزز مواطنته ووطنيته وولاءه لها ضمن الاندماج الاجتماعي الذي يشكل الأداة الطبيعية والسياق الحامل لتكامل وتكافل مكونات المجتمع من خلال الخدمات والوظائف المتبادلة بينها، بما يدعم ويعزز تماثل واتساق الأفراد والجماعات في الثقافة والفكر والشغل، وفي تحقيق المصلحة العامة والنفع العام. ومن خلال وعي الأفراد وتحملهم مسؤولية التعاطي مع المشاكل الاجتماعية وحلها، وتحسين الأحوال الاجتماعية للمجتمع بالمشاركة في تحسين أحوال المجتمع على مختلف الأصعدة والقطاعات والمجالات، بتوفير أسباب تجويدها وتحسينها وتطويرها بتنوع أنواعها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والفكرية والبيئية والتشريعية والإنتاجية والتكنولوجية والصناعية... والعمل على تنفيذها في الميدان أو بحل مشاكلها إجرائيا في الواقع المعيش.

فالمتعلم/ة؛ كونه فردا مكونا للمجتمع تصبح له دلالة وجودية في المجتمع حين يكون فاعلا فيه، ولا عالة عليه، وهذا يتطلب من الدولة عبر المنظومة التربوية والتكوينية أن تقوم بتنشئة النشء اجتماعيا على مبادئ وقيم وهوية مستقلة حرة؛ إذ تعمل على برمجة مناهج تتضمن موارد مدرسية وأكاديمية تشتغل على تطوير الفهم المدني والحقوقي للمتعلم/ة الفرد المواطن، ووعيه بمجموع مسؤولياته، وتربيته على مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان وقيمه المتعارف عليها، وتمثلها في سلوكه وأدائه المهني والاجتماعي. ووعيه هذا يتأسس عبر المنظومة التربوية والتكوينية من خلال بناء مهارات وقدرات وكفايات التفكير الناقد عند المتعلم/ة الفرد المواطن، وتدريبه على ممارسة التفكير الناقد على مواضيع وقضايا حية كقول البعض على الملإ، وهو المفترض فيه تدريس التفكير المنطقي والقول الموضوعي والعلمي للنشء، ومن يؤسس في المجتمع مسؤولية القول ونتائجه والابتعاد عن الديماغوجية والمغالطات، ويشيد ثقة المجتمع به وبرسالته؛ لكن مع الأسف الشديد هو من يهدم صورته وسحنته وسماته وصفاته في المجتمع. ففي قولهم: " من فرض عليهم التعاقد " وهي مقولة متهافة من حيث لا تعبر عن الحقائق الميدانية والواقعية، ولا تملك من المنطق شيئا، ولا ترقى إلى العلمية والموضوعية في شيء؛ لأنها نابعة من كلام مغالط وديماغوجي وهمروجي يناقض الواقع في مواطن عدة، منها:

ـ التوظيف تم بمباراة عمومية حرة موجهة للعموم تحت سقف شروط معينة ومحددة، خارجة عن إطار الإجبار والإلزام، وداخل إطار من الاختيار؛

ـ اختياريتها تتجلى من خلال حرية المترشح في الترشح لهذه المباراة أو الإحجام عن ذلك؛ فهو حر ومستقل تجاه المشاركة في التباري؛

ـ المباراة لم تجبر أحدا كيفما كان على المشاركة فيها، ولم تأخذه بالعنف إلى ذلك، لأن لفظ " فرض " يحمل دلالة العنف المادي والمعنوي أو الرمزي في دلالته النووية هنا.

ـ حرية اختيار المشاركة في المباراة من عدمها قائم على وجود مباريات أخرى؛ من المفترض في المترشح أن يحجم عن المشاركة في هذه المباراة والتوجه نحو أخرى. فلو كانت هذه المباراة هي الوحيدة المتاحة في الوظيفة لكان مع هذه المقولة الصواب والصحة. ولكن في ظل وجود عدة مباريات ينتفي الفرض والإجبار عنها.

ـ مسؤولية المشارك هنا تقع عليه، وليس على الدولة؛ لأنه هو من شارك في المباراة بكل حرية واستقلالية، ولا يمكن له تحميل مسؤولية المشاركة للدولة. فذلك هروب منها وإلى الأمام بدل تحمل مسؤوليته وعواقبها.

وبناء على هذا؛ يجب التخلي عن هذه اللغة لأنها مشينة في حق كل مرب يبني الأجيال على التفكير السليم والمنطقي. فلا يمكن مسايرة منظمات نقابوية في تهشيم صورة المربي في المجتمع المتميزة. ويجب أن نسلك لغة مبنية على وقائع حقيقية وموضوعية تقف بذاتها مدافعة عن مواقفنا ومطالبنا وطموحاتنا، ومبررة لكل إجراء اتخذناه لأنها تقوم حجة دامغة عليه. فالتربية والتعليم والتكوين لا يقوم على المغالطات والهشاشة الفكرية التي في العقول الكبيرة تعرب عن ضعف الموقف والقرار والإجراء، وتحطمه من الداخل أمام الآخر محاورا كان أم خصما.

وفي نطاق تدريس التفكير الناقد تستطيع المنظومة التربوية والتكوينية أن تمكن المتعلمين/ت استيعاب وإدراك وفهم المعطيات والمعلومات المقدمة لهم، وتحليلها ومناقشتها ودراستها، وطرح الأسئلة النقدية عليها، في اتجاه تأهيلهم وتدريبهم على فحص المعطيات والمعلومات والبيانات... فحصا دقيقا ناقدا لاتخاذ قرارات مستنيرة في شأنها.

وبجانب التفكير الناقد، يمكن للمنظومة تدريب المتعلم/ة على المشاركة في الأنشطة المدنية العملية داخل المؤسسة التعليمية وخارجها المضمنة في المنهاج الدراسي كمحاكاة الحكومة، والمناظرات، والمشاريع المجتمعية، والأنشطة التطوعية والجمعوية والشبابية وزيارة المؤسسات المنتخبة فضلا عن تكوينه على المواطنة الرقمية، وتدريبه في سياق عصر المعلوميات والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والرقميات على مهارات وقدرات المواطنة الرقمية، التي تساعده على التعامل مع بيئة الإنترنت بمسؤولية وأخلاقية، تفهم وتستوعب الآثار الأخلاقية والاجتماعية للتكنولوجيات والرقميات. وتطوير التفكير النقدي للمعلومات الرقمية إزاء ذلك.

فالبعد التكويني التأهيلي المجتمعي للمتعلم/ة راشدا يلعب دورا مركزيا وحاسما في تطويره مواطنا مسؤولا أخلاقيا مندمجا في مجتمعه، يعمل على تنميته وتطويره، ويستشرف المستقبل ويعمل عليه، ويعي حاضره ومعطياته وحيثياته ويبني عليها ما يؤسس به رؤيته للآتي، ويدرك ماضيه مستفيدا منه لخدمة راهنه ومستقبله. وهو مؤهل يتكئ على مكتسباته المتنوعة وقدراته ومهاراته وكفاياته وكفاءته وعقله وتفكيرها، معتمدا على نفسه، واثقا منها ومن سداد خياراتها.

ـ للأمل محل وجود:

من واقع الحال؛ أجد المتعلم/ة جديرا بمنظومة تربوية والتكوينية جيدة وقوية بدل هذه الهشة، التي تعاني الكثير من المشاكل والقضايا والإشكاليات شديدة التعقيد والتشبيك. فهو في ظل الحالية لا يمتلك القدرة على النجاح بسهولة ويسر وسلاسة، لوجود اختلالات في العملية التعليمية التعلمية هندسة وتخطيطا وتنظيرا، وفي ترجمتها العملية الممارسة الصفية، التي تنتج فائضا من المنتوج التعليمي المعطل، ومعيب الاندماج الاجتماعي لفقدانه المهارات الحياتية سواء على مستوى الشغل أو على مستوى الوعي بأزمته التي يعيشها، والمؤثرة في سيرورة حياته سلبا. ولعل النظر إلى الشارع وما يجري فيه من أحداث ووقائع يعبر تعبيرا دالا عن فقدان خريج المنظومة التربوية والتكوينية بعده الإنساني تجاه الآخر، فلغة الشارع وما تتضمنه من خطاب هابط سوقي يعبر عن ذلك، واختلال الملك العمومي والاستحواذ عليه أمر ينبئك بنوعية التفكير السائد في المجتمع، وهو وليد التربية والتكوين والتنشئة الاجتماعية بالدرجة الأولى، والإعلام ووسائط التواصل الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني ومؤسسات الثقافة والشباب... وغيرها. ولعل ما يؤازر هذا المشهد المؤلم مشهد أمراضنا الاجتماعية من المصلحجية والذاتية والإثنية والحزبوية والمحاباة والتحيزات بمختلف خوارزمياتها... يدل على مردودية المنظومة التربوية والتكوينية على مستوى الكفاية المعرفية وكفاية الفعل والكفاية القيمية. ومنه؛ فأملنا في المستقبل كبير من حيث اعتقادنا بأن إدامة الحال من المحال، والتغيير قانون رباني كوني يساير الوجود الإنساني في هذا الكون؛ لذلك فالتغيير وارد بطبيعة الوجود والتاريخ والحتمية الحضارية. يحدث قطيعة مع واقع منظومتنا التربوية والتكوينية، ويقودها نحو الجودة والمردودية الجيدة الفاعلة في المجتمع.

***

عبد العزيز قريش

في المثقف اليوم