قضايا

محمود محمد علي: عصمت نصّار بين اغتراب الخطاب وغربة المشروع

يعد الأستاذ الدكتور عصمت نصار واحد من كبار المتخصصين في الفكر العربي، والذين يطلق عليهم لقب " مفكر صاحب مشروع فكري"، ومفكر "مسكون بأوجاع الوطن"، وهناك محاضرة له أعجبتني بعنوان " الفكر العربي الحديث بين غربة الخطاب وغربة المشروع"، وقد ألقاها من خلال الفيديو خاصية زووم بجامعة بغداد، حيث تساءل نصار قائلا: هل فكرة النهضة وفكرة القيام من الغفوة كانت موجودة في بنية الفكر العربي الحديث؟

وهنا يجبنا نصار بقوله: نعم ولكن عند أصحاب المشروعات وليس الخطابات، حيث لم يتقدم مفكر عربي واحدة بمفرده يتحدث كيف انتقد من !.. بل كانت هناك عصبة من المفكرين على تواصل دقيق وصريح بينهم جميعا، ومتأزر ومكمل ومتواصل لقيام النهضة العربية المأمولة التي لم تتحقق بعد، فقد أرادت الظروف أن تتوقف حركة النهضة التي نبتت بالفعل من عقول أبناء الأمة العربية، ولكن الخطابات التي ذاعت ورُوج لها في معظم الأقطار العربية،و في أجهزة الإعلام كانت مدفوعة من الآخر أو من الأغيار لإيقاف ذلك المشروع الذي ما زلنا نضعه في قفص الاتهام.

فإريك فروم في نظر نصار عندما يتحدث عن اغتراب المفكر تقول أنه رافض تماما الواقع، مع أنه سياسيا واخلاقيا ليس عن غيرة ولكن تشبها بالأغيار، وهذا لا يتفق مع الأصيل أو مع الذي يسعى إلى البناء، فالتخلي عن بلدته وجلدته، والتبرء من تراثه باسم التقدم، لا يعني أبدا الانتماء أو الإنضواء بالولاء، فلا يستطيع أحد أن يعيش بلا مأوى، والواقع شاهد بذلك .

يقول نصار: فنتأمل ما يدور من محاولات حيث نجد الكل يتكالب على هذه الأمة، ومن ذا الذي يسعى بخراب عرينه أو  كنفه أو عيشه .. الأغيار بالقطع والمستفيد منهم، ودائما وأبدا كنا لقمة سائغة وعقول تقبل الوعي الزائف لكي يردد ما يقوله الغرب وما يقوله أعداء هذه الأمة .

ثم يقول أيضا أترك الاعتراضات التي أعيي أنها تدور في عقول سيادتكم عن تلك الادعاءات التي أقولها، وهو أنه ليست هناك خطابات فلسفية في الفكر العربي بمفردها تريد أن تبني أو تتحدث عن التقدم بمنأى عن المشروع الأصيل الذي نشعر بغربته، وبين الاغتراب والغربة اتصال وتواصل واشتقاق، فإذا اكن المغترب يرفض واقعه، فإن المدرك لفكره وتراثه وحضارته وكل أفكاره التليدة في مجتمع يرفضها بمقتضى جهله بها، يصبح هذا الفكر غريبا ويشعر بغربة وأسى .

ويستطرد نصار فيقول: أقول أن المجددين الأٌوُل قد صنعوا بالفعل مشروع منذ أخريات القرن الثامن عشر له أصول وله نهج وله قضايا تتمثل في خمس: التراث، والتجديد، والحرية، والوعي، والاصلاح، ولا توجد قضية سادسة خارج هذا النطاق، وكل الخطابات التي كتبت قبل وبعد هذا العقد المتفق عليه بين أكابر مفكري العرب في مصر والشام والعراق واليمن وتونس ثم المغرب والجزائر في القرن الثامن عشر والتاسع عشر .

وثمة نقطة أخري مهمة ركز عليها نصار وهي أن أخطر شيء على الدين هو استحالته إلى أيديولوجية، كما أنّ المصيبة الكبرى التي توقع بالمتدينين هى اشتغالهم للسياسة أو لتسيس مصالح الساسة باسم الدين، وقد فطن الغرب إلى هذه الحقائق التي شهدت بها الوقائع التاريخية، فقد جيشت أوربا حملاتها الصليبية الاستعمارية باسم المسيح واصطنعت أكذوبة على لسان أحد الرهبان عرفت باسم (حربة المسيح)، والفتنة الكبرى التي وقعت فى عصر الخلفاء كانت تفوح منها مطامع الساسة، وقد انقلبت بعد ذلك إلى فرق عقائدية مزقت الأمة إلى شيعة وخوارج وسنة وجميعهم يدعي أنّه يملك راية الفرقة الناجية؛ أعني أنّ أمتنا أصيبت بالداءين استحالة الدين إلى أيديولوجية في صورة الجماعات والطوائف العقدية، وخضوع قادة تلك الطوائف لألاعيب السياسة في الداخل والخارج، فمنذ عام 1453 بدأت نظرية المؤامرة التي طالما نتهكم عليها! فقد قرر علماء الاستشراق العقلي الغربيون وضع المخططات لهدم الإسلام من الداخل، وذلك عن طريقين أولهما تقوية الجماعات والفرق الجانحة بمختلف انتماءاتها وتوجهاتها، وثانيها اصطناع مللٍ حديثة تحمل بين طياتها جراثيم التطرف. وما كان على أقطاب هذه الجماعات والفرق إلا السمع والطاعة لمن يمدونهم بالأفكار الضالة من جهة والأموال والعتاد من جهة ثانية، فالإخوان المسلمون صنيعة المحافل الماسونية، والشيعة المعاصرون صنيعة أمريكا، شأنهم شأن داعش والسلفية الجهادية والقاعدة. ولا يستخف القارئ بتلك الحقائق أو ما نعتقد بأنّه كذلك فجميع المتطرفين يجتمعون على دستور واحد قوامه التعصب والعنف وتمزيق الأمة الإسلامية والحيلولة بين وحدة أقطارها، بالإضافة إلى تضليل عقول شبيبتها، ولا أَمل من التكرار بأنّ مصيبتنا الكبرى في استحالة مرونة النصوص الدينية إلى جمود الأيديولوجيات النظرية والسياسية. وقد كشفت الوثائق المعاصرة عن تورط معظم قادة تلك الجماعات فيما نُطلق عليه حروب الجيل الرابع على الأمة الإسلامية ومشاركتها كذلك في خطة أمريكا لإعادة تقسيم العالم العربي، الأمر الذي تأباه بطبيعة الحال الأصول الإسلامية وغاياتها في خيرية العالم. وأتذكر حديث رسول الله الذي جاء فيه أنّ المصطفى سأل ربه عن ثلاثة فأجابه إلى اثنتين: أولهما ألا تهلك أمته من جوع وفقر، وثانيهما ألا تهلك أمته على يد أمة أخرى، أما الثالثة التي لم يجبه الله فيها أن تهلك أمته وتتمزق إذا ما استحالت إلى ما نحن فيه من ضلال وكذب وتعصب وعنف كلها من أمور السياسة، والسياسة كما نعلم لا تخلو من جمود الأيديولوجيات وسقوط القيم.

وسقوط القيم في نظر نصار يرجع إلى أزمة الخطاب الفلسفي، وهذه الأزمة كما يقول  متشعبة الأسباب ومترامية الدروب ولا يمكن إيجازها في مثل هذا المقام، ولكن يمكننا التصريح بأنّ الخطاب الفلسفي المعاصر لم يفلح في الجمع بين الثابت والمتغير في سياقاته، ولم يحسن فض النزاع المتوهم بين المنقول والمعقول ولم ينجح في التمييز بين التجديد والتبديد، فضلاً عن أنّ لغته وقعت في شرك الإيديولوجية وفقدت مرونة الحوار، وجعلت من التفكير العقلي مرادفاً للكفر، ومن التدين مرادفاً للجمود والتخلف، أضف إلى ذلك كله خلو حياتنا الثقافية المعاصرة من المتفلسفين على شاكلة حسن العطار ورفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وأحمد فارس وحسين الجسر ومحمد عبده ومصطفى عبد الرازق فجميعهم فطن إلى أنّ الفلسفة تكمن في المنهج وليس المذهب، وأنّ الحق لا يضاد الحق.

وهنا يتساءل نصار فيقول: كيف يمكن أن يسهم تجديد الخطاب الفلسفي والديني في نبذ العنف والإرهاب، وهل يعني التجديد مجاراة لما تم في الغرب من فصل الدين عن الدنيا؟

وهنا يجيبنا فيقول: السبيل إلى ذلك في فتح باب الحوار بين المنهج الفلسفي العقلي والنهج الديني في استيعاب النص وتجديده، ولنا في قادة الفكر الإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين الأسوة الحسنة، فقد اجتهدوا في تثقيف المجتمع على نحو يحول بينه وبين التطرف في كل صوره، والابتعاد عن التقليد، والتبعية في شتى دروبها. فوظيفة الفلسفة هى التفسير والتبرير وقيادة ثورة التغيير، وكل ذلك نفتقر إليه في أحاديثنا ومناظراتنا وخطاباتنا على قلتها، حتى بات الخطاب الفلسفي من أعداء الحرية.

ثم يستطرد نصار قائلا: أكرر أنّ الفلسفة هى طوق النجاة بكل ما نحن فيه من تردٍّ وانحطاط، وسبيلنا الأقوم للنهوض والرقي، ونعني بالفلسفة (المنهج). فالمنهج هو الآلية التي تمكننا من إحياء التراث ونقد الوافد والفصل بين ثوابت الهوية والمتغيرات الحضارية في التجديد، وهى التي تقوم بتوعية الرأي العام القائد وترشده إلى ما يجب الأخذ به وما ينبغي العزوف عنه وتؤهل الرأي العام التابع بقبول التحديث والمبادئ العلمية وأصول المدنية، وهى أيضاً التي تنقذ المجتمعات من الأوهام الأربعة (خرافات الموروث، والمعتقدات الزائفة، ولجاجة العوام والسفسطة، وأكاذيب أصحاب السلطة والمشاهير ومزيفي الوعي) وهي كذلك التي تستطيع التمييز بين الأفكار الزائفة والحقيقة والخيال والواقع، وتمكن الأنا من الحوار الهادئ مع الآخر لذلك كله أرى ضرورة إعادة بناء كل برامجنا التعليمية والثقافية على أسس فلسفية... وللحديث بقية..

***

أ. د. محمود محمد على – كاتب مصري

 

في المثقف اليوم