قضايا

محمود محمد علي: أنور مغيث وأزمة المشروعات الفكرية

يعد أنور مغيث أحد القامات الفلسفية في جامعاتنا المصرية وواحد من الشخصيات التي تربطني به علاقة ود، حين عرفته لأول مرة وهو راجع من فرنسا للتقدم للعمل بجامعة حلوان في أواخر تسعينات القرن الماضي، حيث عُينا معا مع كوكبة محترمة في الفلسفة من أمثال الدكتور حسن طلب، والدكتور مجدي عبد الحافظ، والدكتور هاشم توفيق، والدكتورة عطيات أبو السعود.

وأنور مغيث (مع حفظ الألقاب) مثقف أكاديمي، غزير الإنتاج، وذو اهتمامات فكرية متنوعة، وله شخصية مميزة أقدرها وأجلها، فقد كان وما زال يتميز بطابع الجدية، وهو صاحب كتابات ومقالات متميزة، وصاحب رؤية فلسفية عميقة، فهو من الذين يتميزون بالرصانة الفكرية، والمنهجية الصارمة، والتتبع الجاد للأفكار وخلفياتها، والغوص العميق، والتناول الجسور، بلا خشية ولا زلفى للإشكالات الفلسفية مدار البحث من غير شطط أو تحيز أو حماسة غير متأنية لهذا الجانب الفكري أو ذاك، وكذلك الترابط الفكري من غير رتابة أو استطراد ممل.

ولذلك فإن الفلسفة في نظره بحث عن الحقيقة، ووسيلة لتحرير الشعب من الجهل والاستبداد السياسي وثالث هي جسر للتواصل بين الثقافات، وهو يسعي لتحقيق هذه الغاية من خلال:

1- دراسات فلسفية متخصصة، حيث نلاحظ أن أعماله المنشورة بالعربية هي عن الفلسفة الأوربية المعاصرة: ماركس، وديلوز، ودريدا، ومدرسة فرانكفورت.. أما أعماله المنشورة بالفرنسية وتشمل كتابا عن الفكر المصري المعاصر بعنوان " تلقي الحداثة"، بالإضافة إلى دراسات منشورة في مجلات فلسفية فرنسية عن رفاعة الطهطاوي، ولطفي السيد، وحفني ناصف، سلامة موسي في الفكر العربي المعاصر.

2- اهتم بالمقال الصحفي الفلسفي الموجه إلى القارئ غير المتخصص، وهو مستمر للآن في كتابة مقال دوري بالأهرام منذ أكثر من عشرة أعوام.

3- الترجمة، حيث يسعي أنور مغيث إلى تزويد المكتبة العربية بمؤلفات تعكس ما وصل إليه الفكر الفلسفي في الغرب.

زد على ذلك، فإن من يقرأ كتاباته ومقالاته لا يسعه إلا أن يعترف بأنه مثلما يتحلى رجل الأمن العام بروحية الأمن والنظام، فإن أنور مغيث يتحلى بنفس تلك الروحية في المحافظة على نزاهة التفكير ودقة التعبير.

وإذا جاز لي أن أشبه كتاباته ومقالاته بثوب المرأة، إذا قصر عن حده المعقول كشف عن عيوب وعورات، وإن طال عن حده المعقول أخفى مفاتن ومحاسن، ويمكننا هنا أن أسجل لأنور مغيث حقيقة أن كان موفقا في احترام هذا المقياس إلى حد بعيد.

من عادتي حين أكتب عن شخصية ما، أحب أن أغوص في مشروعها الفكري، وأنور مغيث من الشخصيات الفلسفية التي لا تميل إلى وضع رشته ووصفات جاهزة لمشروع فكري، ولكنه يؤمن بأنه مع المعاصرة التي تفرض نفسها حسب قوله في مقالاته تلقائيا ولا تحتاج إلى جهد فكري واع للدفاع عنها، فقد تبنت اليابان حسب اعتقاده الفكر الغربي في العلم والسياسة ولم تضع أمامه أي عائق باسم الأصالة، وكذلك الصينيين المدافعون عن الأصالة هم المدافعون عن استمرار الاستبداد.

ومن جهة أخرى وبالذات فيما يخص مستقبل المشروعات الفلسفية وبالذات بعد موت حسن حنفي لا مستقبل لها، وهذا لحسن الحظ في نظر أنور مغيث مما عرفناه باسم المشاريع الفكرية حيث لم يثر أي ضجيج، ولم يؤد إلى تقدم الوعي لأنها كانت مشاريع متواطنة مع الفكر السائد.

إتنان فقط في نظر أنور مغيث كانت لهما مشاريع فكرية ساهمت بالفعل في إيقاظ الوعي وزعزعة الركود الفكري، وهما طه حسين وزكي نحيب محمود.

أما طه حسين فهو حسب رأي أنور مغيث وبالذات في كتابه " مستقبل الثقافة في مصر" والذي يعد في نظر أنور مغيث بيانا تاريخيا يبرز الدور الذى لا غنى عنه للثقافة في الانتقال من مجتمع متخلف إلى مجتمع حديث، فهو يطرح الأسس الفكرية اللازمة لكل حداثة تريد أن تصبح واقعاَ. أول هذه الأسس أن الحداثة ظاهرة تنتمى للمسار العام للبشرية وليست صيغة تخص ثقافة بعينها.

والحداثة في نظر أنور مغيث ليست مذهباَ أو عقيدة نحن مطالبون بالإيمان بها ولكنها صيغة للحياة تتحقق في أرقى تجلياتها في الغرب، وعلينا التأسي بها في مواجهة هذه الرؤية يبرز في فكرنا العربي موقفان متحفظان حسب رأي أنور مغيث : أولهما، أنني بذلك أنكر على نفسى الابتكار وأكتفى بالتقليد والتبعية؛ وثانيهما، أنني لست مضطراً للأخذ بكل شيء، ولكن أستعير ما أراه مفيداً. يرى طه حسين في كلا الموقفين تواطؤا على استمرار التخلف. ويرد على الموقف الأول بأطروحته الجريئة عن حضارة البحر المتوسط لينفي تهمة التبعية، كما يقدم اليابان باعتبارها المثال الحى الذى يطيح بهذه التحفظات، فإذا كنا نوصم أنفسنا بالتبعية فماذا يمكن أن نقول على اليابان البعيدة كل البعد عن الغرب جغرافياً وتاريخياً وثقافياً؟ وفيما يخص الموقف الثاني حينما قررت اليابان السير في طريق الحداثة تبنت دون تباطؤ نمط الحياة والقوانين والمؤسسات الغربية وعاد عليها ذلك بالنفع.

الحداثة إذن في نظر أنور مغيث اقتضاء لا مجال لإدارة الظهر له ولا مجال لإرجائه بدعوى تكوين حداثتنا الخاصة التي تسمح لنا بالتقدم الحضاري مع الاستمرار في قهر المرأة. وكل الرطانة العربية التي تتراكم منذ عقود تسعى بلا جدوى من أجل تحقيق هذا الاختيار البائس. ولهذا يظل كلام طه حسين عالياً في قيمته ومعناه.

وأما بالنسبة لزكي تجيب محمود في نظر أنور مغيث فهو مفكر له تأثير هائل على حياتنا الفكرية العربية المعاصرة. ولكى نفهم أبعاد هذا التأثير علينا أن نرجع إلى سؤال أساسي. حينما طالب أحمد لطفى السيد عام 1908 بضرورة تدريس الفلسفة في الجامعة الأهلية، حيث تساءل الناس وقتها كما يقول أنور مغيث: ما جدوى الفلسفة؟ وما هي ضرورتها لحياتنا العملية؟ وانقسم الناس وقتها إلى معسكرين، كليهما رافض للفلسفة. الأول يخشى على العقيدة من الفلسفة، ويضم رجال الدين والاستعمار الإنجليزي!، والثاني أنصار التقدم واللحاق بالحضارة الحديثة الذين كانوا يعتبرون الفلسفة من العلوم الكلامية التي تغمر حياتنا الشرقية، في حين أن المطلوب هو الاهتمام بالعلوم الدقيقة والتكنولوجية. حياة مفكرنا الكبير زكى نجيب محمود الزاخرة بالإنتاج الفكري هي الإجابة الحية المتجسدة على هذا السؤال الأساسي ما جدوى الفلسفة لحياتنا؟

كان الدكتور زكي نجيب محمود معتزاً بثقافته العربية حسب رأي أنور مغيث، ويعرف أن إسهام الحضارة العربية الإسلامية في تاريخ الفكر وتاريخ العلم الإنساني كان مهما وحاسماً. ولكن واقع الحال بعيد كل البعد عن هذا الماضي الزاهر. وكان لديه حدس بأن الجوانب المظلمة في هذا التراث مازالت حية وفاعلة، وتوجه الناس في سلوكهم واختياراتهم، فى حين أن الجوانب المضيئة توارت ولم يعد لها تأثير يذكر. من هنا كانت ضرورة العودة إلى زيارة التراث للتنقيب والفرز. وهو ما قام به مفكرنا مزوداً بمعيارين أساسيين في تقدير قيمة الأفكار وهما: العقل والتجريب. ويكفى أن نذكر كتباً مثل «تجديد الفكر العربي» و«ثقافتنا في مواجهة العصر»، التي حاول من خلالها أن يبين لنا أننا لسنا غرباء عن العقلانية ولا عن الروح العلمية، وأننا نمتلك في ثقافتنا مقومات التقدم. المهم أن نعرف ما الذى ينبغي أن نبحث عنه في تراثنا. وكما قال المفكر الفرنسي جوريس: حينما نرجع إلى الماضي، علينا أن نترك الرماد ونبحث عن الجذوة المشتعلة. الفلسفة عند كاتبنا ليست مصطلحات لاتينية يلوكها المثقفون، ولكنها رؤية توجه سلوك البشر. والتنوير عند الفيلسوف كانط هو وصول الإنسان إلى سن الرشد، ومعنى ذلك أن يتعود الإنسان على أن يفكر بنفسه ويوازن ويحسب ثم يختار بحرية، ويتحمل مسئولية اختياره، ولكن أن يبحث الإنسان عن سلطة توجهه وتختار له سواء كانت سلطة دينية أو سياسية أو أبوية، فهذا معناه أنه لم يصل بعد إلى سن الرشد. كانت هذه هى الروح الكامنة خلف مقالات الدكتور زكى الصحفية والتي وجهها لكل إنسان لكى يتمكن من تدبير أمور حياته بعقلانية.. وللحديث بقية..

***

د. محمود محمد علي- كاتب مصري

 

في المثقف اليوم