قضايا

مصطفى غَلْمَان: الفن في خدمة القضايا العادلة

(لا يجب استبعاد قدرة الفن على التعبير عن فكر سياسي وثقافي نضالي، ذلك أنه يوفر جهدا حاسما في تقديم أدوات استقلاليته دون الزيغ عن نطاق الثقافة الاجتماعية السائدة، ويستتبع ذلك بالخوض في تجربة الترافع ضد الخمول والاستهتار والسلبية، ومع ما يقوى الوعي الجمالي، أو ما يستثير الحزن والمواساة عوضاً عن آمال القيامة والانبعاث).

لم يتغاض الفلاسفة عن فعل الفن في الحياة، وأبعاده الجمالية والإنسانية والأخلاقية، إذ يعتبرونه الدافع الجوهر للحياة، ويمثل جزء كبير منه الإدراك المبدع للجدوى من قيم العيش وإرادة المشاركة، وحس التدافع والانتصار للكونية .

وهذا المدار القيمي، يلتقي في صلب (التراجيديا) أو المأساة، كونه يستخلص النشوة والإسراف ورمز الغريزة، وهي تعبيرات عن كون الإنسانية اليوم تعيش تمزقا أخلاقيا خطيرا، وتناغما لتنميط الحياة وبعدا عن إرادة تحرر الذوات.

لكن روح هذا الافتئات، يحاول جهد الأيمان، استعادة الجذوة، وإيقاظ الحواس من عمائها المصطنع، مع ما يغدي ذلك من حضور لافت للأخلاق الجمالية واقتداريتها في التأثير والإبهار والانتشار السريع.

ولا أدل على ذلك من أن نخبا من الفنانين والشعراء والمثقفين المرموقين من جميع أنحاء المعمورة، هبوا لنجدة الضمير وإيعازه من غفلة التوجيه ونار الفتنة في قضية غزة وما تتعرض إليه من إبادة ومجازر وهتك حرمات وتهجير وتجويع.

لقد تحررت الأصوات الفنية من ارتدادات التشطير الدافعي للشهرة والنجومية، وعلاقاتها بالأسواق والعلامات التجارية، وأضحت تكرس الجبهة المضادة للتعتيم والتغول والابتزاز وكل أنواع الحصار، كما هو معروف لدى أجهزة التنظيم الإعلامي والسيطرة المدفوعة.

وخلال 100 يوم من الحرب الإبادية القاتلة على قطاع غزة، انتفضت قوى الفن تلك، وهي تغلي كمرجل صدى الضمير العالمي، الذي يقبع في صمت الدهاليز، متفرجا متآمرا غير قادر على تغيير التراجيديا أو توقيف عجلاتها الساحقة؟.

ونقلت وسائل الإعلام الدولية، نداءات لكبار الشخصيات في عالم الفن والثقافة، كالمغني الارلندي سيث واتكنز، والملحن والأوبرالي الإيطالي جو فالسي، ومغني الراب الأمريكي ماكليمور، والممثلة البريطانية جولييت ستيفينسون، والممثل الأسترالي رشاد ستريك، ومغني الراب الأمريكي ريدفيل، والفنانة النرويجية هيلاري أليسون، والمغنية البريطانية ميلاني مارتينيز، بالإضافة إلى نجوم هوليود كأنجيلينا جولي ووسوزان ساراندون وجينا أورتيجا، وعارضتا الأزياء الأمريكيتين "بيلا وجيجي حديد" ...

ومما يثير الفضول، في مقابل تعزيز الدافع الحقيقي لهذا التحول، أن يكون مضمون المحتوى المروج ضمن نداءات هؤلاء المؤثرين، أو للكثير منهم، متناغما مع حقائق التاريخ والجغرافيا والإنسان الفلسطيني المقهور. حتى إن قراءة العديد من تعليقاتهم أو تصريحاتهم أو معاني كلمات أغانيهم وأناشيدهم، يحيل إلى وعي ثقافي وسياسي منظم وذي مردودية فكرية وإبداعية. وهو ما لا يتناقض البتة مع بعض سلوكيات نخب المجتمع الغربي، من حيث إيثاره الصمت السلبي، وعدم اتساقه مع نسبة كبيرة ممن يجهلون حقيقة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتداعياته على السلم الدولي وقضايا العدالة والمساواة وحقوق الإنسان.

ومن أجمل ما سمعت وقرأت مؤخرا، أغنية للمغني الارلندي الشهير سيث واتكنز، وهي تحمل عنوان "تحيا فلسطين" Leve Palestina، انتشرت بسرعة فائقة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتؤرخ الأغنية لتاريخ القضية الفلسطينية ، منذ أحداث النكبة عام 1948، وحتى أحداث غزة التي بدأت مع "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر الماضي.

والأغنية من كلمات وألحان نفس المؤدي، والذي يشتهر بكونه يغني للقصص الإنسانية العادلة، غير بعيد عن إبداء وترجمة أحاسيسه الخاصة بالقضايا التي يؤمن بها.

سيث واتكنز عندما سئل عن الأغنية كيف جاءت وما أسباب نزولها، أجاب ""يا فلسطين، يا فلسطين، كتبت هذه الأغنية وأنا أبكي على أكثر من 20 ألف شهيد في غزة خلال 77 يوماً فقط، 40% منهم أطفال، وهي نسبة أعلى من أي صراع آخر في الذاكرة الحديثة، مشددا على أن "."الحل: أرض واحدة، حقوق متساوية، وإنهاء دولة الفصل العنصري، آمل أن تجلب هذه الأغنية الأمل لليائسين، والتعاطف مع أولئك الذين ليس لديهم شيء حالياً، لأولئك الذين ما زالوا يعانون من واحدة من أكثر الحملات الإرهابية اللاإنسانية والمروعة في التاريخ الحديث".

تقول كلمات الأغنية في بدايتها:

في عام 1948 طردوا من أرض أجدادهم، قصفت بيوتهم ومدنهم

يا فلسطين يا فلسطين، نسمع نداءك المستغيث

أن تعود الأرض مرة أخرى، وأن يتحرر شعبك

يا فلسطين يا فلسطين، شعبك يعيش في خوف

نطالب بتحريرك من النهر إلى البحر

في عام 1967 نفّذت إسرائيل الغزو

لتستعمر وتستوطن القليل الذي تبقى

من شعب فلسطين القديمة، مرة أخرى مصيرهم متشابك

مع الاحتلال الصهيوني لبيوتهم وعقولهم المتعبة..

لقد كان الفن وسيبقى معبرا لتجسيد فعل المحاكاة، أو هو سبيل إبداعي من سبل تهذيب الحياة وتخليقها. فلا تقوم الإنسانية ما قامت إلا بنشاطه العبقري وبصيرته وحكمته ونورانيته. ولا يستوي الناهض فيه من الساكن الخراص، فالمقامان يختلفان، ويتشابكان في القلق والرؤية وتدبير القيم. الأول ينصف ويعدل ويترجم ويؤثر، أما دونه، فيظلم وينتهك ويحزن وينافق.

فأيهما أسعد بالإنسانية؟ وأيهما الأجدر بالملكة والتفاعل الفاهم والمستبصر؟ وهل يستويان مثلا؟

***

د. مصطفى غَلْمَان

في المثقف اليوم