قضايا

فاطمة الثابت: نزهة مع روسو.. بين مساحات الواقع المُقفر

(كنت ألاحق الأفكار التي تتزاحم في مخيلتي، بدون خطة أو غاية، وكأنَّني طفل يلاحق فراشة نادرة تطير في المراعي، من دون أن ينظر إلى موطئ قدميه)... هاروكي موراكامي

***

في الفناء الكئيب لمستشفى مزدحم، محاط بجدران تعكس آلام سكانه، وقع نظري على منارة مُرهقة، غير مبالية بويلات المرضى والمحتاجين، ولكنها تطل على الامتداد الهادئ للسماء اللازوردية، مترفعة عن الاكتطاظ البشري والأزدحام المروري في الأسفل، وهنا وسط هذا التجاور بين المعاناة والصفاء، عاد ذهني إلى كلمات جان جاك روسو، ولا سيما كتابه "هواجس المتنزه المنفرد بنفسه" كان لهذا الكتاب بتصويره المثير للتشاؤم، صدى عميق في ذهني، حيث سجل روسو أفكاره وهواجسه وخيبة أمله وسط عالم مليء بالنفاق والخداع من خلال رحلته مع ذاته في عدة نزهات أطلق العنان فيها لأفكاره، حاولت لوهلة أن أخضع ذهني لهذا التمرين وأتسلق بأفكاري (مقلدة روسو) بعيداً من خلال شجرة وحيدة لكن أرتطمت بواقع مُقحل، بأعتبار المساحات الخضراء في مجتمعنا مساحات غير مهمة وغير موجودة في مشاريع الحكومة الرشيدة .

وبالعودة الى صاحب العقد الأجتماعي الذي اتسمت حياته بالصراع من أجل الاعتراف، ولم تكن جهوده وروحه الحساسة موضع تقدير من قبل المحيطين به كان يكتب مستلقيًا، محاطًا بالعزلة التي تعكس اضطرابه الداخلي، وكان يبحث عن العزاء في الطبيعة وعالم النبات، وسط التأمل والعزلة، وجد روسو الرفقة في النباتات، ونأى بنفسه عن نشاز النفاق والخيانة الذي أحاط به، ما يميز تأملات روسو هو طبيعتها الحميمة، التي تم كتابتها كتأملات شخصية، وظلت مخفية حتى بعد وفاته، وهي تقدم لمحة واضحة عن روحه، ومن خلال الاعترافات والتأمل، قام روسو بتفكيك الواجهة التي كانت تحميه، وكشف نقاط ضعفه ليراها الجميع، وعلى الرغم من أنه مؤلم، إلا أن صدقه يتردد صداه في قلب الروح الحرة، النزهات التي كان يقوم بها "حالماً" كانت تستثير عنده مشاعر عميقة ملأى بـ "الهواجس"، كان يتلذذ بالنزهات لأنها توافق كسله الجسدي من حيث الابتعاد عن كل عمل مصمّم، وتتناغم مع غزارة مخيلته وتدفق رعشاته.3331 منارة مسجد

ولايفوتنا أن نذكر أن هناك علاقة وطيدة بين المشي والتفكر، وكما يذكر هاروكي موراكماي في كتابه (ما أتحدث عنه حين أتحدث عن الجري) نمشي و نمشي دون وجهة محددة، نجري دائماً إلى الأمام، و كأن المشي عندنا طقسا دينياً يراد له أن يشفي أرواحنا الجريحة.

بالعودة إلى المتنزه نواجه روسو منغمسًا في مساعيه، مما يسمح لروحه بالصعود إلى عالم الأفكار، متحررًا من قيود المجتمع البشري، وسط المساحات الخضراء نجد ملاذًا حيث يمكن للأفكار أن تتجول بحرية، إنه تناقض صارخ مع الواقع الذي نواجهه في العراق، حيث يؤدي تراجع المساحات الخضراء ومحدودية الوصول إلى الحدائق والمناطق العامة إلى تقييد التعبير عن الفكر الفردي .

عندما أتأمل نقد روسو للمجتمع والحضارة، أستحضر واقعاً محفوفاً بالأزمات في مجتمع حيث يتم التنازل عن الحقوق عن طيب خاطر لحكومة مقيدة بعقد لا جدوى منه، وسط الأزمات المتصاعدة، إن كلمات روسو المؤثرة تلخص جوهر الوجود الإنساني، الذي يتجاوز الزمان والمكان، كما يعلن:

" لقد انتهى كل شئ بالنسبة لي في هذه الدنيا ..

و لن يستطيع احد بعد ان يفعل بي خيراً او شراً ..

لم يعد امامي ما آمل فيه او ما أخشاه في هذه الدنيا

وها أنا ذا مستكين في قرار الهاوية بشراً فانياً منكودا ولكن صامد كالإله نفسه"

وكما قال روسو: «يولد الإنسان حرًا، وفي كل مكان يكون مقيدًا بالأغلال» ويتردد صدى هذا الشعور بعمق لدى الفرد العراقي، الذي غالبًا ما يشعر صوته بالاختناق بسبب القيود المجتمعية والاضطرابات السياسية، في بيئة خالية من المساحات المفتوحة، تصبح فرصة التعبير الحقيقي عن الذات نادرة بشكل متزايد.

ومع ذلك، وفي خضم هذه التحديات، لا يزال هناك بصيص من الأمل إن بحث روسو الخالد عن الأصالة هو بمثابة ضوء إرشادي يلهمنا للمثابرة على الرغم من تجارب الحياة، وعلى حد تعبير روسو: "ما هي الحكمة التي تجدها أعظم من اللطف؟" ومن خلال اللطف والتفاهم يمكننا أن ننشئ مجتمعا يمكن أن تزدهر فيه الروح الإنسانية، غير مثقلة بأغلال القمع، وأن نصنع من الخيال فضاءات واسعة نحلق بها بعيداً عن الواقع المقفر....

***

د. فاطمة الثابت – استاذة علم الاجتماع في بابل

........................

* المنارة المطلة على أحد المستشفيات

 

في المثقف اليوم