قضايا

علي أسعد وطفة: التعريب في حضارة العرب

"ليست لغة العرب أغنى لغات العالم فحسب، بل إنّ الّذين نبغوا في التأليف بها لا يكاد يأتي عليهم العدّ، وإنّ اختلافنا عنهم في الزمان والسجايا والأخلاق أقام بيننا نحن الغرباء عن العربيّة وبين ما ألّفوه حجاباً لا يتبيّن ما وراءه إلّا بصعوبة"... (المستشرق الألمانيّ فرنباغ)

يرى الباحثون في تاريخ الحضارات الإنسانيّة، أنّ اللغة العربيّة كانت في مرحلة الازدهار الحضاريّ أصلاً في العلم، وروحاً في المعرفة، وشغفاً في الثقافة، ومنطلقاً للنهوض الحضاريّ. وفي هذه المرحلة استطاعت العربيّة أن تكون وطناً للعلوم الطبيعيّة والإنسانيّة في مجالات الهندسة والجبر والفلك والطبّ والفلسفة. وكانت اللغة العربيّة وثيقة الصلة بالوضعيّة الحضاريّة للأمّة، والتعريب كان دائماً هو الوجه الآخر للتعبير عن الحضارة العربيّة حضوراً وانحساراً نهوضاً وانكساراً.

فلكلّ حضارة لسان تعبّر به عن ذاتها ووجودها ولسان الحضارة العربيّة لم يكن سوى العربيّة الّتي ازدهرت في مراحل النموّ الحضاريّ، وامتدّت لتعبّر عن مختلف خلجات الحضارة العربيّة في مختلف العصور. ويقيناً أنّه عندما تضعف الحضارة يضعف لسان حالها، وتذوي لغتها وتنحدر ثمّ تنحسر.

ويمكن أن نميّز حالتين حضاريّتين أساسيّتين في تاريخ التعريب: التعريب في حالة الازدهار الحضاريّ والتعريب في حالة الانحسار الحضاريّ. حيث يأخذ الأوّل صورة المدّ الحضاريّ الشامل، بينما يأخذ الثاني صورة المحافظة على الهويّة الحضاريّة وممانعة الذوبان الحضاريّ في عصر الركود الحضاريّ الّذي تشهده الأمّة العربيّة اليوم.

بدأت حركة التعريب فعليّاً مع بداية الدعوة الإسلاميّة، حيث جمع الإسلام بلغته القرآنيّة لهجات العرب في لغة واحدة سامية هي لغة القرآن الكريم. فانطلق التعريب مع بداية الخلافة الإسلاميّة، وتجسّد ذلك في الاهتمام السياسيّ الّذي أبداه الخلفاء الراشدون باللغة العربيّة، فعملوا على تمكينها في قلوب الناطقين فيها، وفي عقولهم وعلى ألسنتهم. ويرى الباحثون أنّ أولى محاولات التعريب بدأت بـ(تعريب النقود) في عهد الخليفة الراشديّ عمر بن الخطّاب -رضي اللّه عنه- إذ ضرب الدراهم على أسماء عربيّة فجعل نقش بعضها (الحمد لله) ونقش بعضها الآخر (محمّد رسول اللّه) أو (لا إله إلّا اللّه وحده) وقد نهج على نهجه الخلفاء الّذي جاؤوا من بعده.

وقاد الخليفة الأمويّ( ) عبد الملك بن مروان أكبر عمليّة تعريب حضاريّة في تاريخ العرب شملت جميع مناحي الحياة الفكريّة والعلميّة والسياسيّة والعسكريّة، إذ قام بتعريب دواوين الدولة برمّتها، ثمّ عرب عملة الدولة المتداولة بين الناس، وقد أدّت هذه العمليّة إلى نشر اللغة العربيّة في مختلف أصقاع الدولة الإسلاميّة، وأتاحت للعرب فرصة الوصول إلى أرفع المناصب الإداريّة وأهمّها شأناً، بعد أن كان ذلك يقتصر على غير العرب، الأمر الّذي كان يضعف تكوين الدولة القوميّ، ويتناقص مع سياسة الدولة العامّة، ويوهن الثقة بين الدولة والإدارة، ولا يمكن أن تقوى هذه الثقة ما دام موظّفوها ليسوا عرباً، وما دامت لغتها غير عربيّة. لهذا فقد كان لفكرة التعريب أثرها العظيم في رفع شأن اللغة العربيّة، حتّـى غدت اللغة الرئيسيّة بعد أن كانت في عداد اللغات الأجنبيّة كسواها بالنسبة لأهل البلاد المفتوحة. وقد سار على نهجه ابنه الوليد بن عبد الملك وسائر الخلفاء الأمويّين، فعملوا على ترسيخ اللغة العربيّة الواحدة لغة الدولة والثقافة والمعرفة والمصير.

فالحضارة العربيّة الإسلاميّة انطلقت عبر حركة تعريب واسعة في مختلف المدن والمقاطعات والبلدان الّتي فتحها العرب والمسلمون في مختلف أرجاء الأرض. وقد عمل العرب على نشر لغتهم في مختلف أصقاع الدولة حتّى شمل التعريب كلّ مناحي الحياة والوجود. وكان على سكّان البلاد المفتوحة أن يتعلّموا العربيّة وأن يستفيدوا منها لدينهم ودنياهم حتّى اضطرّوا أن يتعلّموا النحو لإصلاح لغتهم. ثمّ أقبل الناس على تعلّم العربيّة، فنقلوا إليها علومهم وحتّى كتبهم المقدّسة وذلك لإظهار تراثهم الحضاريّ والثقافيّ للفاتحين ونتيجة لشعورهم برغبة المسلمين للاطّلاع على ما عند الأمم الأخرى من علوم ومعارف كما أنّ إقبال البعض من أهل البلاد المفتوحة على ذلك تحقيقاً لمكاسب مادّيّة ومعنويّة. وقد شهدت الحضارة العربيّة الإسلاميّة - كنتيجة طبيعيّة لهذه الفعاليّة التعريبيّة - نشاطاً علميّاً يندر مثيله في تاريخ العصور العلماء؛ إذ ظهرت طائفة من العلماء والمفكّرين والعباقرة في مختلف الميادين العلميّة مثل: البيرونيّ، والكنديّ، والرازيّ، وابن سيناء، والإدريسيّ، وابن باجة، وعمر الخيّام، وابن زهر، وابن طفيل، وابن رشد، وابن حزم الأندلسيّ، وكان عدد العلماء والمفكّرين يفوق التعداد والعصر، ولم تكن هذه الظاهرة حالة خاصّة بل كان هذا هو الحال العامّ في الحضارة الإسلاميّة.

وبقيت هذه الحالة قائمة حتّى مرحلة تراجع الحضارة العربيّة وانحسارها السياسيّ حيث بدأت اللغة العربيّة تتراجع وتنحسر وتذوي وتغيب تدريجيّاً حتّى آلت إلى ما هي عليه من انحدار وتصدّع في مختلف البلدان العربيّة والإسلاميّة.

ومن ثمّ استمرّت حركة التعريب على أشدّها في العهد العبّاسيّ ولاسيّما في القرنين الثامن والتاسع الميلاديّين، أي في مرحلة الازدهار الحضاريّ، أي في عهد هارون الرشيد، والأمين، والمأمون، والمعتصم باللّه. وكان المأمون الخليفة العبّاسيّ العالم المستنير (ت 833) يتفانى في خدمة العلم والمعرفة ويحثّ العلماء عليّ طلب العلم، ويضع المكافآت الثنيّة لهم، وقد أنشأ لهم بيت الحكمة لتكون أكاديميّة البحث العلميّ ببغداد تحت رعايته الشخصيّة. وأقام به مرصداً ومكتبة ضخمة. كما أقام مرصداً ثانياً في سهل تدمّر بالشام. وجمع المخطوطات من الدنيا كلّها لتترجم علومها.

ويروي المؤرّخون أنّ بيت المال أيّام المأمون كادت تنفّذ خزائنه من كثرة ما كان يدفع أجراً للمترجمين. ويروي الثقات من أهل العلم أنّ حنين بن إسحاق كان يتقاضى وزن ما يترجم ذهباً، ولمّا كان الرجل نحيلاً وحريصاً على نموّ ثروته، فقد كان يكتب بخطّ كبير الحجم، كما كان يكتب على لوحات ثقيلة، ولا غرابة في هذا المسلك فيما وصلت إليه أمّة الإسلام في ذلك العصر من عزّ ومجد حضاريّ وثقافيّ واجتماعيّ كان نتاجاً طبيعيّاً لحصيلة العلم والرغبة في المعرفة

وفي عهد المأمون شهدت الدولة الإسلاميّة أعظم نهضة علميّة حضاريّة في تاريخ الأمّة؛ فظهرت الجامعات الإسلاميّة لأوّل مرّة بالعالم الإسلاميّ قبل أوروبا بقرنين. وكانت جامعة بيت الحكمة أوّل جامعة أنشئت في بغداد سنة 830 م، ثمّ تلاها جامعة القرويّين سنة 859 م في فاس، ثمّ جامعة الأزهر سنة 970 م في القاهرة. وبالمقارنة فإنّ أوّل جامعة في أوروبا أنشئت في "سالرنو" بصقلّيّة سنة 1090م على عهد ملك صقلّيّة روجر الثاني. وقد أخذ فكرتها عن العرب هناك. ثمّ تلاها جامعة بادوفا بإيطاليا .

ومع ضعف الدولة العربيّة في بغداد وسقوط الدولة العبّاسيّة عام 1258 بدأت اللغة العربيّة تشهد تراجعاً كبيراً وانحساراً في مختلف مناحي الحياة والوجود ولاسيّما في مجال العلوم والمعارف، ويلاحظ الباحثون أنّ اللغة العربيّة بدأت تأفل مع أفول الحضارة العربيّة وتراجعها.

وفي ظلّ الدولة العثمانيّة (1299-1923) تراجعت اللغة العربيّة، وأصبحت اللغة التركيّة هي لغة الدواوين والإدارة والاقتصاد وبقين هذه الحالة قرابة أربعة قرون عجاف أدّت إلى انحسار كبير في اللغة العربيّة وتراجعها في مختلف الميادين. وكانت الطامّة الكبرى بوصول جمعيّة الاتّحاد والترقّي الطورانيّة إلى السلطة في الدولة العثمانيّة، إذ بدؤوا بعمليّة "تتريك" واسعة شاملة لمختلف مناحي الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة في البلدان العربيّة أو الناطقة بها. وتعدّ حركة "التتريك" الّتي تعرّضت لها اللغة العربيّة أولى لمحاولات السياسيّة الممنهجة للقضاء على اللغة العربيّة في ديارها وإحلال اللغة التركيّة بديلاً عنها، وحدث ذلك في بداية القرن العشرين، إذ قام الأتراك "بتتريك" الدواوين والجيش والتعليم. ومنع استخدام اللغات غير التركيّة في الإعلام والتدريس كما فرض على جميع سكّان تركيّا تبنّي أسماء تركيّة، وحوّلت أسماء الكثير من المدن (ومنها العربيّة في الجنوب) إلى أسماء تركيّة. كذلك منعت المطبوعات والأنشطة الثقافيّة بغير اللغة التركيّة، وحول الأذان من العربيّة إلى التركيّة.

وبرهنت العربيّة مرّة ثانية في العصر الحديث، بأنّها صنوّ العلم، وحاضن المعرفة، وملهم الثقافة، حتّى أتى يوم من الدهر أصبحت فيه قصيّة مستبعدة، بعدما أخرجت من عرينها الأكاديميّ، فهزمت في عقر دارها وفي فضاء أوطانها. وقد جاء هذا البرهان العظيم على يد محمّد علي باشا، والي مصر، الّذي تسلّم مقاليد السلطة في مصر عام 1805، فأسّس دولة عربيّة حديثة تقوم على العلم والمدنيّة؛ ثمّ أرسل البعثات الدراسيّة إلى أوربا، وفتح عدداً من المدارس العسكريّة والطبّيّة والهندسيّة، واعتمد اللغة العربيّة لغة رسميّة في مختلف مناحي الحياة العلميّة والسياسيّة والأكاديميّة، فعادت اللغة العربيّة مجدّداً لغة الدولة الرسميّة، وغدت لغة التدريس في جميع المدارس الجديدة والمؤسّسات التعليميّة الناهضة.

وفي هذه المرحلة الجديدة، من حكم محمّد علي باشا، استطاعت اللغة العربيّة أن تثبت جدارتها، ولاسيّما عندما أنشأ محمّد علي باشا أوّل كلّيّة للطبّ في أبي زعبل بمصر عام 1826، فجعل من العربيّة لغة التدريس والبحث العلميّ فيها، وكانت هذه الكلّيّة أعظم مؤشّر على مظاهر النهضة العلميّة الّتي انطلقت في عهده حيث برهنت اللغة العربيّة قدرتها الهائلة على احتواء العلوم وقدرتها على أن تكون لغة التدريس والحوار والإبداع طيلة سبعين عاماً برز خلالها الكثير من الأساتذة والمترجمين الّذين خدموا العربيّة خدمات جليلة.

ويروي الثقات أنّ محمّد علي استقدم الأساتذة الأجانب للتدريس في الكلّيّة بداية، وجعل لهم مترجمين يترجمون الدروس في قاعات المحاضرات، وخلال هذه الفترة ألف الأطبّاء والباحثون في الطبّ في هذه الكلّيّة 53 كتاباً مرجعيّاً في الطبّ. وهكذا عمل الاستعمار البريطانيّ على قهر اللغة العربيّة، وأخرجها من عقر دارها ليجعل من اللغة الإنكليزيّة لغة التعليم الطبّيّ في الجامعات والمؤسّسات العلميّة.

وهكذا انطلقت اللغة العربيّة لتأخذ طريقها إلى دنيا العلوم والحضارة الحديثة، ولم يكتف محمّد علي بتأسيس كلّيّة الطبّ فحسب، بل أسّس مدارس ومؤسّسات ومعاهد في الطبّ والهندسة والزراعة والعسكريّات، وكانت اللغة العربيّة في كلّ هذه المؤسّسات لغة التعليم والخطابة والتأليف والنشر.

 ومن أعظم ما قدّمه محمّد علي للعربيّة هو افتتاحه مدرسة الألسن عام 1836 الّتي شكّلت معلّماً بارزاً من معالم النهوض باللغة العربيّة الفصحى وتطويعها لاستيعاب العلوم الحديثة واحتواء مصطلحاتها بعد ذلك الانقطاع الطويل بين الفصحى والعلم عصوراً متتابعة. ولابدّ من الإشارة في هذا السياق إلى تلك الحماسة الّتي كانت تملأ النفوس، والإخلاص الّذي كان يعمّر القلوب لدى أولئك العلماء الّذين عملوا بطريقة عبقريّة فذّة على نقل العلوم الحديثة وترجمتها إلى اللغة العربيّة.

ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى المصلح الكبير رفاعة الطهطاوي الّذي اشتغل بالترجمة في مدرسة الطبّ، فعمل على تطوير مناهج الدراسة بالعربيّة في العلوم الطبيعيّة، وإليه يعود الفضل في افتتاح مدرسة الترجمة عام 1935 الّتي صارت فيما بعد مدرسة الألسن، وعيّـن مديراً لها، إلى جانب عمله مدرّساً بها. وفي هذه الفترة تجلّى المشروع الثقافيّ الكبير لرفاعة الطهطاوي؛ ووضع الأساس لحركة النهضة باللغة العربيّة، إذ ساعد فريق من العلماء والمفكّرين بترجمة متون الفلسفة والعلوم والتاريخ الغربيّ، ونصوص العلوم الغربيّة المتقدّمة، إلى اللغة العربيّة.

 وقد أنشأ الطهطاويّ أقساماً متخصّصة للترجمة في مجالات الرياضيّات والطبيعيّات والإنسانيّات، وكان من أعظم ما قدّمه للّغة العربيّة استصدار قرار تدريس العلوم والمعارف باللغة العربيّة (وهي العلوم والمعارف الّتي تدرس اليوم في بلادنا باللغات الأجنبيّة)، وكان قد أصدر صحيفة الوقائع المصريّة بالعربيّة بدلاً من التركيّة؛ هذا إلى جانب عشرين كتاباً من ترجمته، وعشرات غيرها أشرف على ترجمتها. ويرى الباحثون في هذا السياق أنّ المدارس الطبّيّة والهندسيّة والعلميّة نجحت في التدريس باللغة العربيّة مدّة ستّين عاماً متّصلة، وخرجت لنا أفضل العلماء والباحثين والمفكّرين.

غير أنّ الإنجليز، حين احتلّوا مصر عام 1883، سارعوا إلى جعل التدريس في كلّيّة الطبّ بالإنجليزيّة؛ وكان ذلك انتكاساً أصاب العربيّة وأهلها في عرين العروبة من جديد. وهكذا، وبعد ستّين عاماً من التدريس والبحث العلميّ، اتّخذت الحكومة المصريّة تحت ضغط السلطات الاستعماريّة قراراً بإقصاء العربيّة وتبنّي اللغة الإنكليزيّة فيها عام 1887 بعد أن كانت حركة التعريب للعلوم المختلفة قد سارت بخطى ثابتة، فأبدع عدد من العلماء والمفكّرين، وألّفوا كتباً حيّة أصيلة في مجال علوم النبات والحيوان والفيزياء والجيولوجيا والرياضيّات والصيدلة والنجوم والفلك.

أمّا في بلاد الشام، فقد عملت الإرساليّات التبشيريّة للدول الأجنبيّة في القرن التاسع عشر على تدريس العربيّة، وسعت إلى نشرها؛ مدفوعة بدوافع سياسيّة تهدف إلى تقويض الخلافة العثمانيّة الّتي بالغت في أواخر عهدها في تتريك العرب وإجبارهم على التخلّي عن لغتهم.

وقد تمّ إنشاء الكلّيّة السوريّة الإنجيليّة في بيروت الّتي سمّيت فيما بعد بالجامعة الأمريكيّة ببيروت عام 1866، وأنشئت بعدها عام 1883 مدرسة الطبّ اليسوعيّة، وكان الطبّ يعلّم فيها باللغة العربيّة حتّى اللحظة الّتي وقعت فيها لبنان وسوريا تحت الاستعمار الفرنسيّ، فتحوّل تعليم الطبّ في هاتين الكليّتين إلى الإنجليزيّة والفرنسيّة. وشهدت هذه الحركة التعريبيّة نشاطها الكبير في هذه الكلّيّة، فظهرت مؤلّفات المستشرقين الأمريكان، من أمثال: كرفيلوس فانديك، ويوحنّا، وجورج بوست، بمعاونة أساتذتهم العرب من أمثال بطرس البستانيّ، واليازجيّين ومنهم: ناصيف وإبراهيم، ويوسف الأسير، وأحمد فارس الشدياق، تغطّي برامج الدراسة في علوم الطبّ والفيزياء والكيمياء والصيدلة والرياضيّات والفلك وسواها بلغة عربيّة سليمة ومستوى علميّ جيّد، ولم يخطر ببال روّاد النهضة الحديثة، عرباً أو أجانب من المخلصين، التدريس بغير العربيّة، تطبيقاً لمنطق علميّ براغماتيّ بسيط ما زال هو المنطق العمليّ الصحيح اليوم.

وفي سوريا أسّست كلّيّة الطبّ في دمشق عام 1919، وكانت تدرس الطبّ باللغة العربيّة، واستمرّت فيه حتّى اليوم، على الرغم من محاولات الانتداب الفرنسيّ لفرض اللغة الفرنسيّة فيها .

ويمكن القول في هذا السياق أنّ الجهود العربيّة في المجال العلميّ، والّتي بدأت في عهد النهضة تعدّ حلقة من سلسلة متواصلة لدعم التراث العلميّ العربيّ وتطويره، "وقد واجهت هجمة استعماريّة شرسة، عصفت بتلك الجهود إثر استعمار الوطن العربيّ من محيطه إلى خليجه، هذا الاستعمار أدّى بدوره إلى قتل روح الإبداع، ومنها البذرة الأولى وهي التدريس باللغة العربيّة في المجالات العلميّة في مناطق الشام ومصر وتونس؛ ممّا أدّى إلى النزوح عن اللغة العربيّة، وهجرها كلغة تدريس، والتدريس بلغة المستعمر الأجنبيّ الإنجليزيّة في المشرق والفرنسيّة في المغرب العربيّ" (خريوش، 1997) .

وكذلك فعلت الجامعة الأمريكيّة في بيروت مدّة ثماني عشرة سنة في مطلع عملها وما فعلته جامعة دمشق في سوريا العربيّة منذ مطلع القرن العشرين، ولا تزال حتّى الآن، حيث قامت هذه الجامعة بتعريب عمليّة التدريس بشكل شبه كامل، وخرج إلى النور عدد لا يستهان به من الكتب الّتي تشكّل قواميساً للموادّ العلميّة الّتي تدرس في الجامعات وخاصّة الطبّيّة منها. (الحمود، 2005).

بدأت حركة التعريب في العالم العربيّ في عصر النهضة العربيّة الحديثة في أوائل القرن التاسع عشر، وساهمت في إحياء الثقافة العربيّة بعد زمن طويل من الركود اللغويّ والفكريّ، وكان لها إسهامات كبيرة في مسيرة التحرّر من الاستعمار وآثاره اللغويّة وغيرها، إضافة إلى الدور الفاعل لمجامع اللغة العربيّة في بعض الدول العربيّة، والإسهامات الكبيرة لبعض علماء اللغة والعاملين بالترجمة مثل أحمد فارس الشدياق وبطرس البستانيّ.

ولكنّ حركة التعريب في الوقت الحاضر تعاني من ركود، مقارنة بغيرها من دول العالم المتقدّم وغير المتقدّم غير الناطقة باللغة الإنجليزيّة مثل أرمينيا واليونان وتركيّا وكوريا والصين وأندونيسيا واليابان وألمانيا ممّن تستخدم اللغة القوميّة في التعليم الجامعيّ.

مع انحسار الاستعمار الغربيّ في البلدان العربيّة، وظهور ملامح الدولة الوطنيّة القوميّة بادرت الحكومات العربيّة إلى مواجهة قضيّة التعريب من جديد، وبدأت الجهود العربيّة تتعاظم في مجال تعريب الحياة السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة. وجاء التعبير عن هذه المرحلة من جديد كبير من القرارات السياسيّة الّتي أرادت للعربيّة أن تعيد للعربيّة أمجادها بوصفها لغة الحياة والوجود. وقد ترافقت هذه الجهود السياسيّة بولادة مجاميع اللغة العربيّة في مختلف الأقطار وتقاطر الجهود والقرارات الّتي أرادت للعربيّة أن تكون لغة الأمّة والدولة والوطن.

خلاصة:

شهدت اللغة العربيّة نهضتها العظيمة ووحدتها الكبرى في التجلّيات القرآنيّة للحضارة الإنسانيّة، فاتّحدت لهجات العرب العديدة في لغة عربيّة فصيحة واحدة هي لغة القرآن الكريم. وشهدت هذه اللغة تأكيداً لحضورها وتفانيا في تأصيل قوّتها ووجودها في العهد الراشديّ العظيم.

ثمّ كان العصر الأمويّ الّذي كان عصر العروبة والتعريب بامتياز. واستمرّت العربيّة في تقدّمها في العصر العبّاسيّ الأوّل عصر الازدهار العظيم، فتحوّلت العربيّة إلى لغة الدنيا والحضارة والناس في مشرق الدنيا وفي مغاربها.

وبدأ عصر الانحسار مع ضعف الدولة العربيّة وانهيارها؛ ومن ثمّ سقوطها على يد المغول والتتار في عام 258 ، فكانت المأساة الّتي تعاظمت مع الخلافة العثمانيّة، واشتدّت مخاطرها مع الهجمة على اللغة العربيّة في العهد الطورانيّ حيث تعرّضت اللغة العربيّة لعمليّة تتريك شاملة. وهكذا بقيت اللغة العربيّة أسيرة الضعف والانحلال والإقصاء على مدى أربعمائة سنة من عهد العثمانيّين والأتراك.

وفي عصر النهضة انتفضت العربيّة من جديد بجهود النهضويّين العرب والمفكّرين،  وكانت مرحلة محمّد علي هي مرحلة النهوض العظيم للّغة العربيّة، ولكنّ هذه المرحلة لم تستمرّ طويلاً فجاء الاستعمار الغربيّ ليقلّب الموازين ليقصي اللغة العربيّة عن التعليم والحياة العلميّة؛ ومن ثمّ لينادي باللغات الأجنبيّة والإنكليزيّة لغات للمعرفة والعلم والتدريس. وما يؤسف عليه أنّ تأثير الاستعمار الغربيّ ما زال قائماً، وما زالت اللغة العربيّة قصّيّة نائية عن مقاصدها الحضاريّة والثقافيّة باستمرار هذا الاستعمار في صورة الاستعمار الخفيّ الّذي يأخذ صورة علميّة جارفة ضاربة لا تقيم للّغة العربيّة وزناً أو أهمّيّة.

***

علي أسعد وطفة

جامعة الكويت

في المثقف اليوم