قضايا

الطيب النقر: جناية السياسة على الدكتور الترابي وفكره

جناية السياسة على الدكتور الترابي وفكره.. عرف الدكتور الترابي العمل السياسي وسما إليه منذ أن انخرط في صفوف الحركة الإسلامية التي تدرج فيها تدرجاً سريعاً حتى صار عماد حزبه، وقريع رهطه،  وقد عرفت الحركة الإسلامية الدكتور الترابي عن قرب “قائداً حزبياً ومنظراً سياسياً ومعارضاً شرساً، إضافة إلى توليه لعدد من المناصب السياسية، وأتاح له تخصصه في الحقوق، وخبرته في الفقه الدستوري المشاركةَ في كتابة بعض الدساتير في عدد من الدول العربية، وتأليفه لعدد من الكتب في مجال السياسة ومنها كتاب “السياسة والحكم” وهو من الكتب التي ألفها في السجن، ويعد خلاصة لتجربته السياسية والفكرية معاً، إضافة إلى ذلك شارك الترابي في تقنيين أحكام الشريعة الإسلامية، واستطاع نقل ما يدور في أدبيات الحركات الإسلامية عن تحكيم الشريعة إلى واقع عملي”. كل هذه المزايا والمناقب يردها الباحث للصفات التي توفرت في الترابي، منها إغراقه في العلم، وإسرافه في الاختلاط بالناس، وقد يكون حرصه على السود باعثاً له على الإيغال لوجود حلول تستبدل أرضهم الجرداء رغم خصوبتها بأرض أخرى، وواقعهم المجدب بواقع آخر، وتورط الدكتور الترابي في انقلاب رغم مناداته بالديمقراطية ربما تكون هذه مدعاته، خوفه على أهله بعث في نفسه آمالا لم يصرح بها، بل سعى لكتمها حتى تتمخض في انبلاج فجر جديد، والسود لم يفرغوا لفن السياسة كما فرغ له الدكتور الترابي، وقد تدرج في فصوله من انتصار أو اندحار، ونحن نستطيع أن نفهم حنق الدكتور الترابي على تلاميذه وابتئاسه منهم، فقد أجهضوا حلمه الجميل الذي حلم به وسعى إليه، ونقدر هذا الانفعال النبيل، ونرصد دقة الحس، وصدق العاطفة، لقد أحسن الترابي احتمال المحنة التي فرضت نفسها عليه فرضاً، فالإنقاذ صنيعة الدكتور الترابي التي سعت إلى الترف وظفرت به، كان الترابي هو من يحد من آفاقها، وينكر عليها هذا الاعوجاج، هي تريد منه أن يتركها، ولكن كيف يتركها وهو الذي يتحمل أوزارها ومساوئها، كانت هذه المحنة قد أفادت الشيخ وأضفت عليه شيء غير قليل من الرصانة والرزانة، وأفاضت على شخصه تعاطف بعض السود الذين كانوا أقرب إلى السخط منهم إلى الرضا تجاهه.

 ولكن بالمقابل كانت هناك فئة تحمل الشيخ تبعة كل الإخفاقات التي حاقت بالإنقاذ، وغيرت من مسيرتها التي كانت خليقة بالإعجاب عند البعض، هذه الفئة الثائرة الهائجة حينما تخلو إلى نفسها لا تفكر إلا في الترابي، وتستشعر عظمة ما اقترفه من جرم، حينما أصر أن يرد الإنقاذ إلى الطاعة، ويقهرها على الإذعان، ومن هنا نحس بالجور والشطط الذي وقع على الدكتور الترابي، فحقائق الأمور لا تتاح إلا لطبقات ضيقة من الناس، وبعض الساسة والأعلام ليس لهم القدرة على التغلغل في هذه الطبقات حتى يتسنى لهم معرفة الحقيقة كاملة ناصعة، من هؤلاء الأستاذ حسام تمام رحمه الله الباحث في الحركات الإسلامية، فقد ذهب إلى أن الفرصة كانت مواتية للدكتور الترابي بأن يصون ثورته التي ترعرعت على ساعديه ويكتفي بدور المفكر، إلاّ أن غروره وصلفه منعه من ذلك، يقول الأستاذ تمام:” غير أن الترابي لم يقنع بدور المفكر الذي يفكر وينظر ويجتهد، ولم يقنع أيضا أن تقوم على أفكاره دولة (كما فعلت ثورة الإنقاذ)، ولم يقبل بدور المرشد والموجه والمنظر الذي يعلو على السياسة وإن احتفظ بدور فاعل فيها، كما فعل آية الله الخوميني -مثلا- الذي ظل حاكما للعبة السياسية برمتها في إيران حتى وفاته دون أن يتورط كمرجع ومرشد ديني في صراع الفرقاء السياسيين، بل أراد الترابي أن يجمع بين الفكر والسياسة، فانتقل من دور المفكر “الحر” ليلعب دور مفكر “تحت الطلب” يفكر ويجتهد ليوظف أفكاره واجتهاداته لمشروعه السياسي، فبدا سياسياً حتى وهو يفكر ويجتهد، ليقدم المشروعية والعقلانية والغطاء الأيديولوجي لحركته السياسية”.

ويمضي الأستاذ تمام رحمه الله في كيل اتهاماته، فهو بعد أن اتهم الدكتور الترابي بأنه السبب الأساسي في تقهقر مسيرة الإنقاذ وترديها، وبأنه كالحائك الذي يفصل ثيابه حسب تفاصيل جسد الزبون، تأتي أفكار الشيخ واجتهاداته متناغمة حسب المناخ السياسي الذي يعيشه، وخلاصة ما ذهب إليه مقال الأستاذ تمام أن الترابي اشتد فتكه بالإنقاذ، وأصبح خطره شنيعاً، الأمر الذي قاد في النهاية لإزاحته دون أن تحتفظ الإنقاذ لشيخها بالمودة الخالصة، حتماً الأستاذ تمام يجهل أن الدكتور الترابي قد سعى أن يمنع الإنقاذ من الانغماس في الترف واللذة، فهو لا يرى هذا، كل ما يراه أن الترابي قد سعى أن يزاوج بين الفكر والسياسة ولكنه أخفق في ذلك إخفاقا شديداً، يقول الأستاذ تمام رحمه الله:” وعبثاً حاول الترابي أن يمسك العصا من منتصفها فيبقى المفكر والسياسي، فيحفظ لنفسه مكانة متميزة بين أقرانه من المفكرين والسياسيين على السواء، فهو يتميز عن المفكرين بالسلطة التي هم على بعد مسافة منها إن لم يطلهم أذاها، ويفوق السياسيين بالفكر الذين هم أبعد الناس عنه، لكنه لم ينجح في هذه اللعبة طويلا، وغلب السياسي فيه على المفكر في آخر المطاف، وبدا للناس في الوجه الذي قد يقبلون به، ولكنهم لا يحبونه؛ فهو المناور الذي لا يستقر على رأي، ولا يلتزم بموقف، والثعلب المراوغ القادر على التلون باللون الذي يوصله لمراده، والانتهازي الذي يقتنص كل الفرص ويوظفها لمصلحته الشخصية، والبراجماتي الذي لا يتورع عن استخدام كل الوسائل والحيل التي تحقق له غايته، والميكيافيللي الذي تبرر الغاية عنده الوسيلة… فوقع في التناقضات وأضر -من حيث لا يدري- بأفكاره، وبدا أن هناك بوناً شاسعاً بين السياسي والمفكر في شخصية الترابي”. الباحث لا يتفق مع حديث الأستاذ تمام إلا في تمكن السياسة من الدكتور الترابي ومحاصرة المفكر في نفسه، فهي لا تسمح له بالظهور، وقد خضع الدكتور الترابي لنكر السياسة، واصطلى بنارها، ولعل أيسر ما تفرضه علينا مخايل الدقة، أن نقول أن الفكر لم يكن يتربع المشهد إلا عندما تتوارى السياسة عن الدكتور الترابي، فيغدو أرفع بياناً، وأمضى حجة، وأعظم منزلة، وهذا لم يتحقق إلا حينما يقاوم الدكتور الترابي الطغيان والاستبداد، وتنتهي هذه المقاومة بالزج به في غياهب السجون، حينها يجد من يشقي أنظمة الجور بشدة صرامته، وعظمة استبساله، يهرع إلى لون من ألوان البحث الذي يفرغ له طوال مكوثه في السجن، ويلتزم بدقائق المنهج، وصدق الحقائق، وحسن الترتيب، ليخرج لنا في نهاية المطاف مؤلف متين الرصف، محكم القواعد، عظيم الفائدة، لطيف الإشارات.

***

د. الطيب النقر

في المثقف اليوم