تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

مجدي إبراهيم: الإمام والتّصوُّف (2)

كانت لديّ فكرة وما زالت تجرى عندى مجرى البديهة وهى أن أسس العلوم الإسلامية المعتبرة ترتد إلى الإمام على بن أبى طالب رضوان الله عليه، وكنت اعتبر هذه الفكرة هى المضمون الدينى الإسلامى على الحقيقة بعيداً عن المؤثرات الخارجية، فإذا كانت العلوم الإسلامية تأثرت فى التطور بالفلسفات الخارجة عن الإسلام إبّان حركة الترجمة بين أبناء الأمم التى كانت تغشى الكوفة وحواضر العراق والشام ولا سيما السريان، سواء كانت مصادر يونانية أو فارسية أو غيرها من المصادر؛ فإنّ مصدر هذه العلوم فى الحضارة الإسلامية ومنشأها يرتد إلى الإمام علىّ تحقيقاً لا استشرافاً.

وهذا هو المضمون الذى يعول عليه ولا يعول على شيء سواه.

ففى كتاب نهج البلاغة فيض لا يجارى من آيات التوحيد وتأمل الحكمة الإلهية تتسع به دراسة كل مشتغل بالعقائد وأصول التأليه وحكمة التوحيد ظهرت قبل ترجمة الآراء والمصطلحات والمذاهب الإغريقية إلى العالم الإسلامى، ومن يلتمس كشف هذا المضمون الدينى لمنشأ العلوم الإسلاميّة مجردة عن المصادر الخارجية ما عليه سوى الاطلاع على نهج البلاغة كيما يتبيّن له الفارق الأصيل بين ثقافة وثقافة، أو بين حضارة قائمة على القرآن الكريم ومؤسسة عليه وبين حضارات سابقة أو لاحقة لا تمت إليه بصلة ولا بنسب.

استنبط الإمام علىّ الأصول الأولى لعلم النحو ولم يكن لأحد أوفر سهماً فى إنشاء هذا العلم من سهمه. وقد تواترت الأخبار أن أبا الأسود الدؤلى شكا إليه شيوع اللحن على ألسنة العرب إذ ذاك فقال له : اكتب ما أملي عليك ثم أملاه أصولاً منها : إنّ كلام العرب يتركب من اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل. وأن الأشياء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، وشىء ليس بظاهر ولا بمضمر.

وإنّما يتفاوت العلماء فى معرفة ما ليس بظاهر ولا بمضمر، يعنى اسم الإشارة على قول بعض النحاة، ثم قال لأبى الأسود : أنحى هذا النحو يا أبا الأسود؛ فعرف العلم باسم النحو من يومها.

فالذى استنبط الأصول الأولى لعلم النحو كما استنبط الأصول الأولى لعلوم العقائد والكلام والحكمة والتصوف هو الإمام، وإن لم يكن أول من كتب الرسائل وألقى العظات وأطال الخطب على المنابر فى الأمة الإسلامية، لكنه بلا شك كان هو أول من ظهرت فى أسلوبه آثار دراسة القرآن الكريم والاستفادة فى الإنشاء من قدوته وسياقه. فتأتى له أن يأخذ بسليقته الأدبية من فحولة البداوة ومن تهذيب الحضارة ومن أنماط التفكير الجديد الذى ابتدعته المعرفة الدينية والثقافة الإسلامية.

قيل لابن عباس: أين علمك من عمّك؟.. فقال: كنسبة قطرة من المطر  إلى البحر المحيط. فمن الصحيح إذن أن يقال إنّ علياً هو أبو علم الكلام فى الإسلام لأن المتكلمين أقاموا مذاهبهم على أساسه.

ومن الصحيح كذلك أن يُقال إنّ علياً هو المؤسس الحقيقى للتصوف فى الإسلام. قال ابن الحديد فى شرح نهج البلاغة: «ومن العلوم علم الطريقة والحقيقة وأحوال التّصوف، وقد عرفت أن أرباب هذا الفن فى جميع بلاد الإسلام إليه ينتهون وعنده يقفون، وقد صرّح بذلك الشبليّ والجنيد وسريّ السقطي وأبو يزيد البسطامي وأبو محفوظ الكرخي وغيرهم، ويكفيك دلالة على ذلك: الخرقة التى هى شعارهم إلى اليوم، وكونهم يسندونها بإسنادٍ متصل إليه عليه السلام». ولعلّ لهذه الخرقة دلالة باطنة تذهب بالإشارة إلى الكساء الخيبريّ وترمز إليه.

حقيقةً إنّ العلوم الروحيّة والذوقيّة فى الإسلام ترتد إلى الإمام عليّ وأبناء فاطمة الزهراء. والعلوم العقلية فى الإسلام ترجع إلى ابنه محمد ابن الحنفية مؤسس المكتب، وقد صدق رسول الله صلوات الله وسلامه عليه إذ قال: «أنا مدينة العلم وعليُّ بابها».

(وللحديث بقيّة).

***

د. مجدي إبراهيم

في المثقف اليوم