قضايا

محمود محمد علي: حسن حنفي وأنسنة التراث

تعد قضيّة (أنسنة التراث) من القضايا المهمة والتي تحاول أن تجسد في التراث صفة "الإنسانية"، باعتباره نتاجًا بشريًا وجهدًا إنسانيًا، ينزع عنه صفة "العصمة" التي اكتسبها العقل الإسلامي بتفاعله مع الوحي الإلهي، وقد هدف هذا البحث إلى بيان أبرز الجهود الفكرية الإسلامية المعاصرة في أنسنة التراث.

وعندما نغوص في فكر حسن حنفي فنجده انه قد تمكن من رسم مساحته الخاصة في خارطة الفكر الحداثي العربي، وتميز مشروعه الفكري بتنوع موضوعاته وغزارة انتاجه، وكذلك المزاوجة بين ما هو فكري وما هو سياسي . وحسن حنفي على خلاف المفكرين الذين دعوا إلى القطع مع التراث للوصول إلى الحداثة، إذ رأى أن التراث الديني بعد اخضاعه لعمليات التفكيك والتركيب صالح ليكون أساسا لفكر أيديولوجي يحمل مشروعا سياسيا تغييريا، وهذا الربط بين الفكر والسياسي نجده في مجمل مشروع حسن حنفي، فاستكانة الشعب ورضاه بما يمن به الحاكم كحالة سياسية – اجتماعية، تميز النظم الشمولية،تأسس فكريا حين تم تقديم الإيمان على المعرفة، وجعل هذا الإيمان فوق النقد والتمحيص؛ أي أن تغيير الواقع السياسي لا يتم دون تفكيك الأسس الفكرية المُشكلة لهذا الواقع وإعادة بناءها من جديد.

تُرى هل نحن بحاجة لإعادة قراءة التراث؟، وكيف؟، وهل التراث هو كل ما وصل إلينا من الماضي داخل الحضارة السائدة؟، وكيف تتم إعادة بناء التراث بالنظر في علم أصول الدين وبناء نظرية معرفية جديدة داخله؟ وهل التراث هو الوسيلة، والتجديد هو الغاية عند حسن حنفي؟

التراث في نظر حسن حنفي ليس قيمة فى ذاته إلا بقدر ما يعطى من نظرية علمية في تفسير الواقع والعمل على تطويره؛ فهو ليس متحفًا للأفكار نفخر بها وننظر إليها بإعجاب، ونقف أمامها فى انبهار وندعو العالم معنا للمشاهدة والسياحة الفكرية، بل هو نظرية للعمل، وموجِّه للسلوك، وذخيرة قومية يمكن اكتشافها واستغلالها واستثمارها من أجل إعادة بناء الإنسان وعلاقته بالأرض، وهما حجرا العثرة اللذان تتحطم عليهما كل جهود البلاد النامية في التطور والتنمية؛ فالتصنيع والإصلاح الزراعي قد يتحطمان؛ لأن الإنسان وهو العامل والفلاح، لم تتم إعادة بنائه ووضعه في العالم، وظل متخلفًا عن مظاهر التقدم، فالثورة الصناعية والزراعية في البلاد النامية لا تتم إلا بعد القيام بثورة إنسانية سابقة عليها وشرط لها؛ لذلك تعثر العمل السياسي في البلاد النامية وفشلت الجهود لقيام أحزاب تقدمية وتنظيمات شعبية تملأ الفراغ بين السلطة والجماهير، فالنهضة سابقة على التنمية وشرط لها، والإصلاح سابق على النهضة وشرط لها، والقفز إلى التنمية هو تحقيق لمظاهر التقدم دون مضمونه وشرطه.

ومن جهة أخرة فقد كان لنشأة حسن حنفي في ظل نظام جمال عبد الناصر، ثم احتكاكه بالفلسفة الأوروبية أثر بلا شك على مشروعه الفكري، حيث أراد أن يُعمل أدوات الفكر الحديث في التراث الإسلامي للخروج بفهم جديد يناسب العصر ومهمات التحرر والاستقلال والتحديث التي حاولت الدول العربية أن تتصدى لعا، وكان حسن حنفي من المفكرين الذين أمنوا بقدرة مجتمعاتنا على النهوض استنادا على تراثها، لا بالقطع معه، فحاول التأسيس للاهوت تحرير إسلامي، وبناء ما اعتبره يسارا إسلاميا حاصا في كتابه " من العقيدة إلى الثورة"، وجاء ذلك في ظل صعود الإسلام السياسي اليميني إن صح التعبير، خاصة أن حسن حنفي يقول :" إن للإسلام وجها سياسيا آخر وإنه يتسع لآثار التحرر والحداثة.

وحسن حنفي يوصف دائما في بداية عهده الفلسفي بأنه فقيه قديم، وإن كان معاصرا فإنه يستمد من الفقه القديم، حيث درس الفقه الإسلامي من داخله، ومن خلال أصول لغوية متينة، وقد جمع ما بين اللغة والشريعة والفلسفة، شأته شأن أغلبية الأزاهرة وأبناء المؤسسات الدينية الذين يتعلمون في الكتاتيب .

وعندما انتقل إلى أوروبا للحصول على درجة الدكتوراه من جامعة السوربون أستوقفه كثير من المفكرين في الغرب، وتأثر بهم، ونقل ذلك في كتاباته بشكل يستوحي منهم ما وجده مثريا ليكمل ثقافة التراث في وقته وإعطائه نوع من المحاولة التوفيقية وليس التلفيقية بين الفكر اليساري والفكر الإسلامي .

وهنا أقول بأن أفضل ما تميز به حسن حنفي هو أنه قارب التراث بعقل فلسفي، وهو قد استند إلى ثلاث مرتكزات ثالوثية إن صح التعبير : التراث، والإرث الغربي، والواقع، حيث يلجأ إلى إعادة بناء التراث بما يناسب ضرورات الواقع وحاجاته، والتعامل مع الإرث الغربي تعاملا نقديا لا مجرد نقل وترجمة وتلقي، وإنما إعادة إنتاجه وإرجاعه إلى أصوله، بحيث يكون لنا الوقل الأخير لنا في دلالة هذا الإرث، ولكن لا يتم ذلك إلا من خلال إطار نظري للواقع، حيث نجد أن فلسفة حسن حنفي ترتكز علي بناء نظرية للواقع، ففي رأيه أننا لا نتلقى التراث ونستدعيه بطريقة فوضوية فلا نتلقاه كما هو وبأي طريقة كانت، أو نتلقنه أو نردده بطريقة الحفظ والتلقين، لأن هذا التراث قد أُنتج في زمنا تاريخي، وهنا نكتشف أن حسن حنفي اهتمامه بالتراث جاء من هم واقعي؛ وذلك من خلال بناء نظرية للتعامل مع الواقع والاستجابة لحاجاته وضروراته، بحيث أننا حسب اعتقاده أخذنا من الفكر الغربي فلا نأخذه بحيث أن نتغرب، وإذا تعاملنا مع التراث لا نستطيع أن نتعامل بلغة القطيعة معه، وذلك لكونه جزء من تكويننا الثقافي، وجزء من بنيتنا الشعورية .

ولكن أين تكمن مشكلة التراث ومعوقاته في نظر حسن حنفي؟

تكمن في نظر حنفي في المسبقات ذات الطبيعة اللاهوتية التي تتمحور حول الذات الإلهية والصفات الإلهية، وهذا النوع من التفكير في نظر حنفي يحدث نوع من الاستلاب للشخصية الإنسانية، وهنا نجد حسن حنفي يريد أن ينقل التراث بأن يكون الإنسان هو محور قراءة هذا التراث، أي أن يكون الإنسان محور فهم التراث والنصوص الدينية، فالعقل الفلسفي تكمن اهمية في نظر حسن حنفي بأنه الآلة الوحيدة التي تستطيع أن تتعمق في فهم النص، لأن العقل الفقهي مشكلته الأساسية أنه عقل نصي ؛ أي يبقي في دائرة الدلالة اللفظية للنص، ولا يستطيع ان يخرج من هذه الدائرة، والوحيد الذي يستطيع أن يأخذنا إلى المساحات العميقة والخصبة في النص هو العقل الفلسفي والذي كما قال حسن حنفي هو الوحيد الذي يستطيع أن يسبر أغوار النص حتى النصوص المقدسة.

ولذلك نجد عند حنفي ثلاث مرتكزات مرجعية غربية استند إليها في أنسنة التراث، وهم : أسبينوزا، وفيورباخ، وهوسرل، وذلك على النحو التالي :

1- اسبينوزا: أول من كسر في نظر حسن حنفي المنظومة الدينية وكسر هيبتها في المجال المسيحي – اليهودي، فقد جعل النص ألو من فتح علوم الدين، أي أن تكون العلوم الدينية مادة علم ودراسة وبحث وتحليل وتفسير، كما أرجع الله إلى العالم، وا، الله لا يوجد خارج العالم .

2- فيورباخ: فلسفة فيورباخ، على علاتها، تكمن أهميتها الأساسية والكبرى في أن «الإنسان هو المبدأ الأساس فيها. لأن القانون الأسمى لعالم الإنسان يتطلع إلى خير الإنسان بالذات»، ما يعني أن فيورباخ وضع المبدأ الأنثروبولوجي في تناقض تام مع المبدأ الميتافيزيقي القديم. ولهذا نجد أنه عندما قال بالاغتراب هو لم يقل أن الإنسان قد اغترب عن الله، بل قال أن الله هو الذي اغترب عن الإنسان، أي أن فكرة الله تم اغترابها عن الإنسان، والأساس عن الله حسب كلام فيورباخ أنها فكرة إنسانية، ولكن جاء اللاهوت وجعل منها حقيقة أنطولوجية وجودية قائمة مستقلة، فاستقلت عن الإنسان وانفصلت عنه، فكانت فلسفة فيورباخ تريد أن تُؤسن الله بطريقة أو بأخري، فهي تريد أن ترفع الإغتراب بين الإنسان والله، وان يعود الله إلى الإنسان لا أن يعود الله إلى الإنسان.

3- هوسرل: هو مؤسس الفينومينولوجيا التي تهتم بدراسة ظواهر الوعي، حيث تكمن مهمة الفينومينولوجيا حسب هوسرل في "الفحص عن ماهية المعرفة فحصا من شأنه أن يفض المُشكلات التي يختزنها التضيق بين المعرفة والمعنى المعرفي وموضوع المعرفة. من هذه المُشكلات ما يختص بإيضاح معنى الماهية الذي للموضوع المعروف أو الذي للموضوع بعامة سواء بسواء". وبعبارة أخرى، فالفينومينولوجيا تضطلع بمهمة فهم جميع الموضوعات القصدية المُرتبطة بأفعال الذات.

وهنا لم يقف حنفي عند قراءة سبينوزا فحسب، بل قام باستدعائه محاولا إسقاط المادة التي عمل عليها، وإحلال مادة أخرى محلها، مع الإبقاء على نفس المنهج، أي إسقاط التراث اليهودي وإحلال تراث ديني آخر، هو التراث الإسلامي، وكان سبينوزا نفسه يودّ تعميم تحليلاته على الديانات الأخرى.

أما عن أثر فيورباخ علي حنفي، فقد رأينا أن حنفي يريد أن يؤنسن التراث على طريقة فيورباخ ويجعل الإنسان هو محور التأمل ومحور التفكير ومحور النشاط والسلوك في كل العلوم المتعددة في المجال الإسلامي، ومن ثم إذا أردنا أن نصل إلى الله فلا نصله إلا من خلال الإنسان، ومن ثم فإن حنفي أردا أن يعيد إنتاج التراث الذي أنتج في القرن الرابع والخامس الهجري ووصل ذروته على قاعدة كلامية، غيبية، إلى الإنسان حيث البقاء، إلى الحياة، والوجود، والابداع الإنساني.

ومن جهة أخرى يُشكل مشروع الدكتور حنفي أحد أهم تطبيقات المنهج الفينومينولوجي في فكرنا العربي المُعاصر، ويتضح هذا المنهج لديه في تناوله للعلمين الأساسيين: علم أصول الفقه، وعلم أصول الدين خصوصا، وعلوم اللغة والتاريخ، والحكمة، والكلام، والتصوف، وعلوم الحديث، وعلوم السيرة عموما. وينتمي هذا التطبيق إلى فينومينولوجيا الدين وإلى فينومينولوجيا الوعي التاريخي التي ينظر إليها على أنها فينومينولوجيا الحضارات المُقارنة. لقد تناول حسن حنفى علم أصول الفقه في الجزء الأول من رسالته للدكتوراه مناهج التفسير: دراسة في علم أصول الفقه سنة 1965م، وتناول علم أصول الدين في كتابه “من العقيدة إلى الثورة: محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين” سنة 1988م. ومنه إلى إعادة ترتيب العلاقة مع التراث بالشكل الذي يجعله حيا فينا وبنا ومعنا، كيف لا وهو المُفكر المُعاصر الذي كرس كل حياته في الدراسة والبحث عن أصناف المناهج والطرائق، مُرتبا للمعارف، ومُصنفا للأنساق، ومبوبا للمذاهب عبر تاريخ الفلسفة كله؛ قديمه وحديثه ومُعاصره. لقد استفاد حسن حنفي حقا من صيرورة التفكير دروسا ذات قيمة بالغة الأهمية. يظهر هذا في مشروعه من خلال عودته إلى التاريخ، وتتبع المراحل الكبرى التي يمر منها الفكر الإنساني، ليكشف لنا عن حقيقة مفادها أن الخاصية المُميزة للفكر البشري هي خاصية التجدد.

وهذا التجدد يرتبط بثلاثة عناصر أساسية :

1-الموقف من التراث القديم (ألأنا).

2- الموقف من التراث الغربي (الآخر).

3- نظرية التفسير (بناء العلاقة بين الأنا والآخر).

إن التراث والتجديد إذن هو صلب المشروع الفلسفي والحضاري عند حنفي، وهو مشروع ذو جبهتين : الجبهة الداخلية، والجبهة الخارجية، جبهة الأنا وجبهة الآخر، مشروع يسعى إلى ترميم صورة الأنا كما ورثناها من حطام الماضي السحيق بكل سلبياته وإيجابياته، وبناء صورة جديدة للآخر في إطار نسبيته وتاريخيته وشرطه المنتجة له... وللحديث بقية.

***

د. محمود محمد علي

.....................

المراجع:

1- حسن حنفي.. نحو إعادة بناء التراث/ يتفكرون.. يوتيوب.

2-احمد إبراهيم: مفهوم التراث والتجديد فى كتب المفكر الراحل حسن حنفى، اليوم السابع المصرية، الخميس، 21 أكتوبر 2021 04:50 م.

3- فهد عبد القادر عبد الله الهتار: أنسنة التراث وأثرها على الفكر الإسلامي المعاصر، مؤسسة الدليل للدراسات والبحوث.

في المثقف اليوم