قضايا

نبيل علي صالح: الصيغ السّياسية الحزبيّة العقائدية العربيّة

إشكالية فكر وعجز تجربة وفواتير باهظة

 غصّت الحياةُ السياسية العربية منذ مطالع القرن العشرين بالصيغ والتجارب الحزبية السياسية التي تشكلت على خلفية تحولات سياسية وعسكرية واجتماعية عربية ودولية، لم يكن فيها للعرب والمسلمين الدور المهم والكبير لناحية إثبات الحضور والمشاركة في البناء الوطني والقومي.. فقد كان للدول الكبرى الأثر الأكبر والأشد تأثيراً في اقتسام كعكة النفوذ والمصالح الاقتصادية في منطقتنا هذه..

ومن الواضح أن نشوء الأحزاب العربية في تلك الفترة لم يكن يحظى بالشعبية المطلوبة لإحداث التغيير الداخلي المنشود، بل كانت بمجملها صدى للآخر، رغم رفعها شعارات نوعية كبرى لناحية الاستقلال والتحرر، ومحاولة تنظيم انقسامات المجتمع وصراعاته الأفقية والعمودية، ومن ثم ضرورة العمل على البناء والنهضة..

أطلق على تلك الأحزاب التي حملت لبنات الاستقلال الوطني الأولى بالأحزاب الوطنية التي حكمت بعض بلداننا العربية بعد نهاية عهد الاستعمار الخارجي..

لكن الواضح أن الصيغ والتجارب الحزبية الأشد تأثيراً وقوة في مجمل الحياة السياسية العربية كانت تجارب حكم الأحزاب الواحدية التي رفعت شعارات كبرى للبناء السياسي والاجتماعي العربي، باسم التحديث والتنمية والتقدم والنهضة العلمية، فسيطرت على كل الفضاء السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، باسم تحقيق مشروع التنمية والاستقلال الوطني، في مقابل إشباع حاجات المواطنين في المأكل والمسكن والتعليم والصحة، ولكن للأسف دونما تحقيق لأدنى تلك الشعارات الكبرى..!!. حيث بقي الصراع والعنف والعصبيات الحزبية والتاريخية مهيمنة رغم محاولات قمْعها وحبْسها في القمقم.

لقد قامت الأحزاب العقائدية الشمولية "المشحصنة" بنزع السياسة من المجتمع، واقتصار ممارسة السياسة على إطار واحد، ممسك بكل مفاصل المجتمع، ومنعه خارج هذا الإطار، باعتباره القائم على السلطة "متعهد التنمية"، أي أنها بنت وجودها كله على حكم الفرد والإيمان بقدراته الخارقة، وأنتجت هياكل إدارية بيروقراطية واسعة وعميقة، وبنت أيضاً أنظمة قوية متماسكة وصلبة، ولكن كل ذلك جاء على حساب تضعيف ما تبقى من مؤسسات وهياكل الدولة-الأم، مما أفقدها قدرتها على السير الطبيعي الطوعي نحو أهدافها التنموية السياسية والاقتصادية كأية دول أخرى، عبر الاشتغال اليومي الروتيني الطبيعي على تأمين مصالح الناس والمجتمع، خاصة وأنها (أي الدول الشمولية العقائدية) قدمت نفسها على أساس أنها "دولة-رعاية" و"دولة-أم"، اجتماعية وعملية..

هذا الفهم والنهج والموروث السياسي القومي الذي سلكته أحزاب القومية العربية بالذات (يسارها ويمينها على حد سواء)، والذي لم يبدأ مرحلة الانحسار الحقيقي الآن، بل منذ زمن الناصرية وخروج حزبها من السلطة في مصر، مروراً بحركات التحرر القومية في عدة دول عربية أخرى، أقول: هذا الفهم والمنهج المكرّس لعقلية الاستفراد وسلوكية الحكم الشمولي الواحد هو الذي مهّد الطريق وهيأ الأجواء لتعمق الأمراض الاجتماعية والسياسية وإثارة الضغائن الداخلية وتفجر الغضب الشعبي ضد فواتير حكم تلك الدول الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهي فواتير باهظة التكاليف والأثمان على كل المستويات والأصعدة.. حيث أضحى كل الناس يتساءلون عن ماهية الحصيلة الإنتاجية الوطنية والقومية لعقود طويلة من تطبيق استراتيجيات السياسة والاقتصاد والتنمية والتقدم العلمي وغير العلمي المفترض أنها كرستها وتبنتها وطبقتها تلك الأحزاب المشخصنة.. فماذا تحقق؟! وأين هي الإنجازات النهضوية العمرانية التنموية الكبرى بالمقارنة مع دول أخرى سبقتها أشواطاً في البناء والتنمية والتقدم والتطور العلمي ووإلخ؟! هل تمت الاستفادة من ثرواتها ومواردها الهائلة في طريق الصالح العام المجتمعي أم في طريق الذات الفردية؟!..

لقد دفعت كثير من مجتمعات العرب المحكمة عقائدياً وشمولياً الأثمان والتكاليف المادية والمعنوية لتلك السياسات الاجتماعية من مستقبلهم ومستقبل أجيالهم الاقتصادي والاجتماعي، وهم الذين تحمّلوا أيضاً عبء المعاناة الشديدة المتواصلة من هيمنة وسطوة قوانين الفشل التنموي والاقتصادي وأحكام الاستثناء وسطوة البيروقراطية المستبدة، وتعطيل العمل بالقوانين والدساتير، والقفز فوق العدالة، بعد الهيمنة على الفضاء العام للمجتمع، وإخراجه بالقوة من فضاء السياسة العام الذي كان من المفترض أن يتحمل هؤلاء الناس أنفسهم -عبر مختلف أنواع الجسور والتوسّطات ما بين الدولة والمجتمع- مسؤولية المشاركة في تحديد مسيرته واتجاهاته وبرامجه ومختلف سياساته.. لكي يكون لهم دور مهم في بناء بلدهم ومجتمعهم..

وبالنظر لعدم وجود إمكانية لنشوء تلك التوسّطات المجتمعية المدنية القادرة على تأمين مصالح المجموع العام في مواجهة سطوة النظام وهيمنته على كل مفاصل الدولة، بحيث أصبحت الدولة القائمة دولة النخبة لا دولة الأمة، كان من الطبيعي أن يلجأ الناس إلى تكوينات مجتمعية أهلية محلية تساعدهم في قضاء حوائجهم وكسب معاشهم وقوتهم، وتلبية الحدود الدنيا من عيشهم..

إن انزياح الدول العقائدية المشخصنة –كسلوك عمدي انتهجته نخب الحكم الطغيانية- عن مهمتها الأساس في البناء المؤسسي المدني المتين الراسخ والقائم على حكم المواطنة والقانون والحقوق، وخدمة تطلعات أبنائها وتنمية اجتماعها ومواطنيها، وتحقيق درجة متقدمة من التطور السياسي والعدالة الاجتماعية والمساواة لهم، بعد تأمين متطلبات عيشهم الوجودي المادية والرمزية كمواطنين أحرار متساوين في الحقوق والواجبات، من دون تمييز ولا تفرقة طائفية أو جهوية أو اثنية أو قومية، واتجاهها لتكون دولة "النخبة" الخاصة و"الطليعة الحزبية الثورية" العاجية، إن ذلك الانزياح المقصود هو الذي دفع وبقوة الغالبية العظمى من مكونات مجتمعها الاثنية والطائفية والأقوامية والمذهبية إلى كراهية تلك الدول النخبوية، والحقد عليها، وتبني عداوتها بصورة عمياء، بل والرغبة العارمة في مواجهتها وإسقاطها.. أي إصدار حكم إعدام نهائي بحقها.

وقد جاء انحسار الدولة أو المرحلة السابقة من السلطة في خضمّ تلك الصراعات الدموية، نتيجة الدفع بعامل القسر والإكراه والضغط الذي مارسته تلك الأحزاب الشمولية النخبوية التي استنزفت دولها، بحق أبنائها ومجتمعاتها الأهلية.

من هنا يمكن القول بأن التعايش الاضطراي الذي فُرض على مجمل المكونات السياسية والتكوينات المجتمعية في تلك البلدان (أقليات عرقية ودينية وأقوامية ومذهبية) التي حكمها حزب واحد وفرد واحد ومنظومة واحدة حديدية صلبة، لم يستمر طويلاً حتى انكشف ما تحته من تصدعات وتخلخلات وتشظيات، كانت محجوبة زمناً طويلاً بحجاب سميك من شعارات: المصلحة القومية العليا، وحتمية المواجهة التاريخية والصراعات الكبرى، وغيرها.. ولكن سرعان ما تبين أن حضور تلك المكونات القديمة المخفية في ذاتية الأفراد والمجتمع أقوى وأرسخ وأكثر تجذّراً من حضور أية شعارات ومقاصد وأهداف سياسية عامة أو خاصة بهذا الحزب أو ذاك، وأنّ كلَّ محاولات السيطرة عليها أو تطويعها أو إلغائها طوعاً وقسراً لم ولن تجدي نفعاً على الإطلاق.. كما تبين أن اندماج تلك التنوعات والمكونات المجتمعية لم يحدث بصورة عملية واقعية، ولم يكتمل بصورة طبيعية حقيقية في صلب المشروع الوطني العام، بسبب سياسات القهر والردع والكبت والقسر والوصاية والهيمنة السلطوية الفوقية التي طبّقتها عليه تلك النخب المستأثرة بالثروة والقوة والسلاح.

ولأنَّها استُبْعِدتْ قسرياً، لمْ تشارك تلك المكوّنات في بناء الهيكل الوطني التاريخي العام لبلدانها الأم، حتى مع بعض حالات الاختراق التي نجحت فيها تلك السلطات في كسب ود بعض ممثلي تلك المكونات القومية والدينية، ولكن بقيت الغالبية العظمى منها مستبعدة عن ساحة المشاركة الوطنية، ومقصيّة عن ساحة العمل الوطني العام التي يفترض أن يتشارك فيها الجميع، وأن تتسع للجميع بحكم أن النتائج ستؤثر على الكل سلباً أم إيجاباً..

ولهذا يأتي تأكيدنا الدائم على أن الأيديولوجيات الشمولية والقناعات الشعبوية الثابتة (دينية كانت أم علمانية) التي تبنتها دول النخبة العقائدية، وأحزاب العقائد الاصطفائية الخلاصية العربية (على المقاس والنمط الهتلري الألماني والشيوعي الستاليني السوفييتي العتيق الراحل لغياهب التاريخ) والتي حكمت بعض بلدان العرب والمسلمين بقوة الحديد والنار وقهر الناس والمجتمعات، وفرضتْ رؤاها وقناعاتها وسياساتها الذاتية والموضوعية الفاشلة والعقيمة (بحكم التجربة التاريخية المريرة التي مررنا بها معها طيلة ستين سنة تقريباً) على الجميع (أقليات وغير أقليات) لا تبني أكثر مما تهدم، ولا تقدم أكثر مما تؤخّر، ولا تطوّر المجتمعات والدول أكثر مما تجعلها عرضة باستمرار وعلى الدوام للفتن والاضطرابات والعنف والصراعات والحروب الأهلية بين وقت وآخر.. كما أنّ الأفكار والقناعات "الهوياتية" المغلقة (الزائفة بطبيعة الحال) لا تحضر الشعوب والأمم، ولا تمنحها صفة المدنية والحداثية، وتضع أمامهم كل معوقات التنمية الإنسانية.. خاصّة مع توظيفها لمقدرات الدولة لخدمة أجندات مصلحية ونفعية خاصة.. وهذا ما قامت به تلك النخب التي بنت نظماً قوية تضخمتْ وتورمتْ مختلف أبنيتها وأجهزتها الإكراهية الذاتية على حساب تآكل و"تقزيم" و"تفشيل" مؤسسات وهياكل الدولة الأساسية البنيوية التي تعيش في كنفها، وتستنزف خيراتها وتنهب مقدراتها.

إنّ تلك الأحزاب العقائدية -ودول ومجتمعات النخب العقائدية- لا يمكن أن تؤسس أو تبني فعلياً وواقعياً (كما جرى وحدث في كثير من دولنا ومجتمعاتنا العربية وغير العربية على امتداد عقود طويلة من حكمها التسلطي البوليسي الأرعن والدموي) مجتمعات التنمية الإنسانية، ودول الحكم المدني الصالح، لأنها تقوم وجودياً على النقيض الوجودي من فكرة الإنسانية ذاتها ومن فكرة التنمية نفسها، فالشمولية والمركزية والهيمنة والتحكم والتّسلُّط والفردية هي عناصر الحكم العقائدي، بينما التنمية تشارُك، وخدمات ومؤسسات، وتبادل أفكار ومعطيات، والتنمية تنمية الفرد، وتنظيم مهاراته، باعتباره حجر الزاوية في بناء وتطوير ومن ثم تنمية أي مجتمع، حيث أنه لا يمكن لأي بلد أن ينمو وينهض ويتنامى ويتقدم على طريق الرقي الحضاري العلمي والتقني من دون تنمية أفراده ثقافياً وعلمياً ومعرفياً، وهذا شرط أساسي لازم، وكذلك العمل أيضاً على رفع مستواهم ومداخيلهم عبر زيادة إنتاجية الفرد من خلال تهيئة وبناء مختلف قطاعات الدولة لخدمة وإنجاز ذلك الهدف الكبير.

كما لا يمكن السير في طريق التنمية الصحيح من دون وجود نظام معرفي قيمي عملي يمكنه دفع وتحريض وتحفيز أجمل وأرقى ما في داخل الفرد من طاقات ومواهب وإمكانات هائلة للبناء والعمل المنتج الخلاق.. فالإنسان العربي –الذي لم يرق ليصبح مواطناً بعدْ نتيجة عهود الطغيان وحكم الأيديولوجيات العقائدية الشمولية- يمتلك قدرات وطاقات خلاقة ومبدعة إذا ما تم استثمارها على طريق العمل والبناء والتطوير بعد معرفتها ووعيها من الداخل أولاً، وثانياً بعد خلق الأجواء المجتمعية الملائمة لنموها وتكاملها على مستوى الخارج والفعل العملي التجريبي.

ومسؤولية المثقف على هذا الطريق كبيرة، وهي تتركز على تنوير الرأي العام بكل ما من شأنه المساهمة في بناء الوعي الفعّال لدى أفراد الأمّة لمواجهة (وإسقاط) ثقافة العسكرة والقطيع و"الإمّعية"، وتفكيك منظومات العقليات الأيديولوجية التي تسببت في إعاقة هذا النمو، و"تفشيل" التنمية والتقدم الحقوقي المدني الحر.

***

نبيل علي صالح

كاتب وباحث سوري

في المثقف اليوم