قضايا

علي الطائي: المكرُ المقدس!!

في كل المجتمعات التي تعيشُ وطأة الدكتاتورية ينصبُّ جهد الطاغية على خلق قطيعٍ من المؤمنين بأفكاره على سبيل القسر، فهو إيمانٌ خلق من القهر والخوف والقلق والترقب. أما في الجمهوريات التي يصنعُ فيها القطيعُ مؤمناً بقداسة الحاكم، فهذا المجتمع يتميزُ بالطاعة غير المشروطة، لأنها جاءت عن وعيٍ وإيمانٍ عميقين بهذا الكبير والمقدس. هذا النوع من القطيع من العسير أن يتغيرَ مكنون إيمانه، لأنه إيمانٌ خلقَ من جهلٍ مقدس. والمعروف حسب التاريخ الديني في كل الأديان أن رجال الدينِ على وعيٍ تامٍ بمتطلبات ترويض هذا القطيع أو ذاك. يميل المقدسُ مع ريح السائد من رغبات المجموع. فيعملُ على تدعيمِ أركان هذا المفهوم بعدد كبير من المعتقدات، من قبيل اختلاق المعجزات الوهمية، والكرامات الزائفة، وتأليف الحكايات الخارقة للعادة، حتى تمتد إلى أعمال خيرية باسم المقدس.

المعروف بل ومن لوازم أي دينٍ وطائفة، أن تكون لديه مصادر مالية بدونها لا يكتبُ النجاحُ والاستمرارُ له. تتعدد مصادرُ المال عند هذه المؤسسة المقدسة. مرة تسميها باسم النذر المقدس، ومرة باسم الزكاة، وأخرى باسم الصدقة، وأخرى باسم الخمس، والغنائم وغيرها. ولو اقتنعنا بأن الشريعة هي التي فرضت هذه الحقوق المالية، فمن ذا الذي يقنعني أن هذه الثروة توزعُ حسب قواعد الشريعة المالية؟!.

عرفنا من الروايات التي تنوء بها ثنايا الكتب التاريخية أن الخلفاء بعد النبي محمد، وخاصة أبو بكر وعمر وعلي، كانوا يقسمون كل ما يجمعونه من أموال بين أفراد المجتمع بكل شفافية ووضوح، بحيث يعرفُ كل إنسانٍ مقدار حقه وراتبه لو جاز التعبير. ورغم كل هذه الشفافية، تجدُ عدداً من الأفراد يشككون بأمر القسمة. في ذلك الزمن لم يهتم أو يفكر الحاكم ومنهم رسول الله بأمر استثمار هذه الأموال في التجارة مثلاً أو الزراعة لأن الناس كانوا فقراء، يؤمنون بالله الغني!!، وبمن يملأ أفواههم ليس إلا. أما في هذه الأيام وبالنظر إلى مقدار الأموال التي تجمع من الحقوق الشرعية بكل أصنافها، فالأمر لا يمكن أن يجري كما كان في ذلك الزمان. نعيش الآن في مجتمع رأسمالي منتج يتسابق مع عجلة التطور وحركة الأموال، واشتراكيٍّ على سبيل نجاة قد انجرف قسراً إلى الرأسمالية دون مقاومة. وحين نعود إلى المقدس، والمتولي لأمر هذه الأموال الطائلة، والتي تقدر بمليارات الدولارات، فلن نجد فرقاً بينه وبين النظام الاقتصادي العالمي، من ناحية استثمار كل هذا الكم من الأموال. ومن الجيد والمطلوب جداً أن تستثمرَ هذه الأموال في السوق المالية، تحسباً لمُجدِباتِ الزمن. لكننا حينما نتكلم عن حقوق مقدسة، تسمى حقوق الله والفقراء واليتامى والمساكين وابن السبيل وطلاب العلم والمرضى وما إلى ذلك من المحرومين، فإن الأمر لابد أن يختلف كثيراً. الفقراء والمساكين في المجتمع والمحرومون ومن لم يجدوا وسيلة للكسب، يشكلون الكثرة الكاثرة في مجتمع المسلمين هذه الأيام وخاصة في العراق. هذه الأموال المقدسة فُرضت إليهم، ولا دخلَ لأي أحد بها إلا ما كان من أمر جمعها وتوزيعها بينهم حسب الأصول الشرعية. لكن أن يصلَ الأمرُ إلى استثمار الأموال المقدسة في مشاريع (مقدسة) تحمل (أسماءَ مقدسة)، وتبنى في (مدن مقدسة)، وتكتب على أبوابها (لافتات مقدسة)، ويُعلنُ عنها في (القنوات المقدس)، ويديرها (كادر مقدس)، ويكتبُ عنها في (الكتب المقدسة)، وينادى عليها وإليها من (أماكن مقدسة)، ويُقصُّ شريطُها المقدسُ بأيدي المقدس، وتباعُ قداستُها إلى هؤلاء الفقراء أصحاب الحق الأول والأخير فيها فهذا هو (العهرُ المقدس) أو (المكرُ المقدس) حسب رأيي (غير المقدس)!!.

 تفتتحُ مستشفى تحمل اسماً مقدساً، ومن أجل تطمين القطيع وترويضه مدة عامٍ واحد فقط تقدمُ إليه الخدمات الطبية مجاناً (على افتراض تقديمها بالفعل)، ثم تتحولُ إلى مستشفى تمتصُ ما تبقى من دماءِ هؤلاء الفقراء ، أصحاب الحق المالي المقدس، فهذا ما لا يمكن أن أنعته إلا بالمكر المقدس!! وإلا لمَ لا تستمرُّ بالمجان؟

وليت عقيل ابن أبي طالب يعيش هذه الأيام لما حُرمَ من هذا المال الذي طلبه من أخيه الخليفة العادل، ولما احتاج إلى التذلل إلى معاوية فلدينا ألف معاوية وألف.

***

بقلم د. علي الطائي

 22-5-2024

في المثقف اليوم