قضايا

مراد غريبي: ما بعد مالك بن نبي.. قصة مثقف (2)

يذكر مالك بن نبي في حوار أجري معه نشرته مجلة الشباب المصرية سنة 1971م، بقوله (إن المشكلة التي استقطبت تفكيري واهتمامي منذ أكثر من ربع قرن وحتى الآن هي مشكلة الحضارة.. فالمشكل الرئيسي بل أم المشكلات التي يواجهها العالم الإسلامي هي مشكلة الحضارة، وكيف تدخل الشعوب الإسلامية في دورة حضارية جديدة. هذه القضية باختصار هي التي وجهت لها كل مجهوداتي منذ ثلاثين سنة). هذا الإفصاح يعكس مركزية الشاغل الحضاري في تفكير مالك بن نبي لأكثر من ربع قرن، ولا ريب أن أغلب المهتمين بفكر بن نبي وجدوا أنفسهم أمام صدمة ثقافية جديدة، على سبيل المثال لا الحصر الدكتور المصري سليمان الخطيب الذي اختار ابن نبي موضوعا لرسالته في الدكتوراة ناقشها في القاهرة سنة 1988م، ونشرها سنة 1993م، حملت عنوان: (فلسفة الحضارة عند مالك بن نبي.. دراسة إسلامية في ضوء الواقع المعاصر)، وفي مقدمة دواعي اختيار هذا الموضوع ذكر الخطيب قائلا: (إن هناك ما يمكن أن نطلق عليه مؤامرة الصمت والتجاهل تجاه فكر مالك بن نبي ونشره في ربوع العالم الإسلامي… وأن النخبة المثقفة في العالم الإسلامي لا تعرف إلا القليل من فكر مالك وإسهاماته الثقافية، فما بالنا بالقاعدة الشبابية التي تجهله كلية)[1]. هذه جزئية تاريخية عما أشرنا إليه في الحلقة الأولى، كما يعبر الدكتور اللبناني وجيه كوثراني في مقالة نشرها سنة 1990م بعنوان: (لماذا العودة إلى مالك بن نبي؟ الذاكرة والنسيان والتواصل في المشروع العربي الإسلامي)، رأى فيها أن (مالك بن نبي في فهمه وتمثله للثقافة الإسلامية في أبعادها الإنسانية والعالمية، لم ترق لا لمثقفي التيار القومي، ولا لمثقفي التيار الإسلامي آنذاك، فبقيت محاصرة أو على هامش الفعل السياسي. وأن مالك بن نبي لم يُقرأ جيدا وبموضوعية لا في زمن فكره، زمن ثورات العالم الثالث القومية والوطنية، ولا في الزمن اللاحق زمن الثورات الإسلامية والصحوات الإسلامية الجديدة)[2]. لذلك مالك بن نبي الشخص المثقف عانى من العلمانيين والإسلاميين على حد سواء في العقود الأخيرة من القرن الماضي وإلى يومنا هذا، وصدق الدكتور كوثراني بقوله أن فكر بن نبي لم يقرأ جيدا، فلا يمكن أن يحسب فكره أو يتبنى من أي اتجاه لأنه كان شديد الولع بالتميز والتحرر والفعالية والدقة والعمل والحركة..

هناك ثلاثية فكرية لمالك بن نبي ذات خصوصية بالغة في الطرح والتحليل والتطلع، وهي (مشكلة الثقافة) و(شروط النهضة) و(مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي) لما تمثله من السمات المميزة لهذا الفكر النهضوي العربي والإسلامي، لذلك نجد مالك بن نبي يعتبر الثقافة هي " ذلك النسيج الكلي لتوجهات المجتمع من عادات وتقاليد وقيم وأفكار،فهي المحيط الذي يعكس حضارة معينة"[3]، وهي المسؤولة عن تكوين الفرد الذي ينتمي إلى مجتمع ما، لا يمكن بطبيعة الحال أن تنتج ثقافة من العدم، ولا يمكن أيضاﹰ أن يفلت فرد من أفراد المجتمع من سيطرة الثقافة وقيودها الاجتماعية التي ترجع إلى أصولها التاريخية، فهي المعيار الذي تقيّم من خلاله المجتمعات، ويستلهم من خلالها دور ووظيفة كل فرد في المجتمع.

ومن هذا المنطلق، استلزم الأمر  توجيه تلك الثقافة وفقاﹰ لخصوصية كل مجتمع، ومالك بن نبي يعني بفكرة التوجيه تجنب الإسراف في الجهد والوقت[4] وذلك  عبر تحريك بوصلة التاريخ بإتجاه الهدف المتمثل في البناء الحضاري، لكن قبل التوسع أكثر في مسألتي الثقافة والحضارة لدى مالك بن نبي، ضروري جدا تسليط الضوء على موضوع أساسي يتمثل في عالم الأفكار عند مالك بن نبي والذي من خلاله سيسهل علينا الاقتراب من عناصر الثقافة والحضارة وحيثياتها في فكر مالك بن نبي..

الأفكار عند مالك بن نبي:

لقد تناول مالك بن نبي مسألة الأفكار في العديد من مؤلفاته إن لم يكن كلها، لكن هناك مؤلفات اتسمت باستكشاف عالم الأفكار في مشروع مالك بن نبي وهي على سبيل المثال لا الحصر: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، مشكلة الثقافة، وكمنويلث إسلامي،  في مهب المعركة..

وينطلق مالك بن نبي في مقاربة الأفكار على ضوء الأدب العربي بقصة حي بن يقظان من خلال تحديد معالمها وأبعادها بقوله عن قصة: أخذت مغامراتها اتجاها مخالفا فهي لم تبدأ من الواقع إلا بعد  أن نفقت الغزالة التي تبنت الطفل المنعزل كأم ترعاه: " فكان يرتاد المراعي الخصبة، ويجتني لها الثمرات الحلوة، ويطعمها. ومازال الهزال والضعف يستولي عليها ويتوالى، إلى أن أدركها الموت، فسكنت حركاتها بالجملة، وتعطلت جميع أفعالها، فلما رآها الصبي على تلك الحالة، جزع جزعاً شديداً، وكادت نفسه تفيض أسفاً عليها.]...]  فكان ينظر إلى أذنيها وإلى عينيها فلا يرى بها آفة ظاهرة، وكذلك كان ينظر إلى جميع أعضائها فلا يرى بها بشيء منها آفة. فكان يطمع أن يعثر على موضع الآفة فيزيلها عنها، فترجع إلى ما كانت عليه فلم يتأت له شيء من ذلك ولا استطاعة" لم يعثر حي بن يقظان على موطن الداء: لكن ابن طفيل يجعلنا نتتبع صعود ذهنه كيما يكتشف شيئاً فشيئاً (الروح) ثم (خلود الروح) وأخيرا (فكرة خالق). إن الزمن يجري هنا في مراحل من ذلك الصعود بالفكر إلى لحظة شبيهة بلحظة (زرادشت) عند نيتشه حينما نزل من جبله حاملاً رسالته. فحي بن يقظان سيذهب مع رفيق دربه (آسال)، حاملا إلى مواطني ورعايا الحكيم (سلمان) ثمرة تفكيره..[5]

ليعرب مالك بن نبي بالقول: إن العالم هنا، عالم تتركز فيه الأشياء حول الفكرة، فحي بن يقظان لا يتغلب على كآبة الشعور بالوحدة بصناعة طاولة[6]، بل ببناء الأفكار واكتشافها. إنه عالم لا يتحدد فيه الزمن لصالح شيء ما.[7]

لينتهي لاحقا إلى أن الفكر الغربي يجنح على ما يبدو أساسا إلى الدوران حول مفهوم الوزن والكم. وهو عندما ينحرف نحو المغالاة فهو يصل حتماً إلى المادية في شكليها: الشكل البرجوازي للمجتمع الاستهلاكي والشكل الجدلي للمجتمع السوفياتي، وحينما يكون الفكر الإسلامي في أفوله كما هو شأنه اليوم فإن المغالاة تدفعه إلى التصوف، والمبهم، والغامض، وعدم الدقة، والتقليد الأعمى، والافتتان بأشياء الغرب.[8]

لقد قدم مالك بن نبي ثلاثة عوالم هي عالم الأفكار، وعالم الأشياء، وعالم الأشخاص. وعالم الأفكار عنده هو الأساس ويشكل مجموعة المعتقدات والمسلمات والتصورات والمبادئ والنماذج التي تحتويها عقول مجتمع ما في لحظة تاريخية ما، ويدخل في هذا العالم أيضا كل أنماط التفكير والقيم والمشاعر والأحاسيس، يعني عالم الأفكار مرتبط بالمجردات من الأفكار والقيم التي لا تتأثر بالأشياء والأشخاص بقدر ما تؤثر فيهم، وهذا هو العالم الذي ينبغي على الإنسان أن يدخله فيرفع من مستواه الحضاري والإنساني[9].

كما يعتبر بن نبي عالم الأفكار أساس أيديولوجي ينتجه أفراد المجتمع في عملية البناء الثقافي والحضاري، اْي أن عالم الأفكار هو رأسمال المفاهيمي للمجتمع. وعالم الأفكار عند مالك بن نبي دعامة أساسية يساهم في بناء وإعادة بناء المجتمع، فلا تتوقف القضية عند إنتاج أفكار بل يجب أن نوجهها طبقا لمهمتها الإجتماعية المحددة التي نريد تحقيقها[10]، وهنا يطالعنا موقفان متعارضان في الظاهر ولكنهما مع ذلك نتيجة لوجهة النظر الإجتماعية، حيث في البلاد العربية غالبا ما نصادف هذين الموقفين متجسدين في نموذجين مختلفين:

النموذج الأولى: هناك من يدعي أداء العمل السياسي مثلا دون أن يرجع في عمله إلى قاعدة أو فكرة معينة كاْن يكون النشاط فعالا وفاعله أعمى وهذا الفاعل غالبا ما يكون سليم القصد وحينئذ لا يفسر موقفه إلا بجهله في المشكلات الإنسانية. في حين أنه قد يحدث أن يعتلي المسرح مقاول ماهر في الدجل السياسي، يكتشف طيبة البسطاء وسرعة إنقيادهم، فهو يريد أن يحتفظ بهذا المنجم الثمين بأي ثمن، بينما يعلم اْنه لن يحتفظ به إلا بنشر الظلام، وطبيعي أن يفقد النشاط فعاليته إذا ما اْدار ظهره عمدا للمقاييس والقواعد اْي إذا ما اْدار ظهره للأفكار[11].

النموذج الثاني: هناك صورة أخرى تمثل نموذجا آخر من انعدام الفاعلية فهي بصفة عامة رجل مخلص وهبته الطبيعة فكرا خصيبا لكن لديه ذوق خالطه التلف العقلي فهو لا يتخيل الفكرة من والى تنسج عليه الظروف بل لنشاط الإجتماعي بل هي لديه لون من الترف يخلق المسرة وغرام بالأفكار أشبه بالغرام بجمع تحف ثمينة يقول بن نبي: (وإنني وصفت هذا الفكر بصورة أستعيرها، قلت اْنه ليس مصنعا تتحول فيه الأفكار إلى أشياء بل هو مخزن تتكدس فيه الأْفكار بعضها فوق بعض)[12] .

تصنيف الأفكار عند مالك بن نبي:

يروي لنا مالك بن نبي أنه: (قد سنحت لي الفرصة لأقوم بتجربة مع فريق من العمال الجزائريين الأميين حين اضطلعت مهمة تعليمهم القراءة والكتابة بفرنسا سنة1938م، وكلما تقدمت التجربة شيئا فشيئا التي تابعتها مدة تسعة أشهر، كنت أرى وجوه تلاميذي تتغير كانت الوجوه ذات وميض وحشي وقد تاْنسنت تدريجيا وقد اختفى بريقها الحيواني ليحل محلها شيئا ما ينم عن فكرة داخلية، من جهة أخرى فالشفاه أطبقت أو ازداد تقاربها والرأس الذي تلقى فكرة قد شغل عضلات الصدغ التي تعمل كنابض يشد نحو الفك الأعلى والفك الأسفل الذي يغلق الفم، حين إذ تتغير ملامح الوجه بطريقة ظاهرة يمكن على ما اْعتقد قياسها بالنسبة لمن يهتمون بالعلاقات الجسدية والنفسية، وبالإمكان أن نتوصل إلى الملاحظة نفسها بمقارنة مباشرة بين ملامح اْخوين يختلف المستوى المعرفي لديهم)[13]. كما يرجع  بن نبي  تخلف المجتمع الإسلامي  إلى الاهتمام المفرط بمشكلة الاستعمار والغفلة عن مشكلة القابلية للإستعمار وهذه الفكرة القاعدية لصياغة نظرته حول عالم الأفكار كلها..

1.الأفكار المطبوعة والأفكار الموضوعة:

لقد اشتغل مالك بن نبي بكل جد واجتهاد وعمق في كشف ملابسات مشكلة التخلف والفساد الذي أصاب المسلمين في أخلاقهم، مرجعا ذلك هو ابتعاد المسلم عن أفكاره وعقائده، فمالك بن نبي يرى أن عالم الأفكار أسطوانة يحملها الفرد في نفسه عند ولادته وتختلف هذه الأسطوانة من مجتمع لآخر ببعض النغمات الأساسية وتتناغم الأجيال والأفراد مع سلمها الأساسي، معبرا بالقول: "المثير للدهشة أن الموسيقى الهندوسية لا تشبه أي موسيقى أخرى وقد أحببتها دائما دون أن أدري لماذا. كل ما أعرفه هو أنها تخاطب أرواحنا بطريقة مختلفة، لأنها طبعت في ذاتية الهند بطريقة مختلفة وإن أسطوانة كل مجتمع تختلف عن أسطوانة مجتمع آخر وتتناغم الأجيال والأشخاص مع سلمها الأساسي وهم يضيفون إليها أنغامهم الخاصة)[14]. أي أن عالم الأفكار على حد تعبيره، أسطوانة لها أنغامها الأساسية ونماذجها المثالية وهي الأفكار المطبوعة، ولها أيضا توافقاتها الخاصة لدى الأجيال والأفراد وهي الأفكار الموضوعة.[15]

2. الأفكار الميتة والأفكار المميتة:

لقد انتبه مالك بن نبي إلى ما لم ينتبه له غيره، حيث عند استماعه لأحد خريجي جامعة الزيتونة وهو ينتقد قصيدة للشاعر اْحمد شوقي مدح فيها باريس، لأنه في هذه القصيدة  مجد الأثر المفسد لتلك الثقافة الغربية فأفسدت هذه القصيدة حسب رأي الزيتوني نسبة كبيرة من النخبة المسلمة، فيقول خريج جامعة الزيتونة:(ماهو خطاْ شوقي الكبير في نظر المستعمر والقابل للإستعمار الرفيع؟ (خطأهْ كما يقول هذا الخريج هو تمجيده الأثر المفسد لتلك الثقافة الغربية التي ربطت 90 بالمائة من النخبة المسلمة بإدراك أو بغير إدراك منهم في خدمة الاستعمار، وأن خطر هذا التأكيد يبرز في أن المظاهر تؤيده وما يهمنا من ذلك كله الواقع المرضي الذي يكمن وراء هذا التأكيد وتلك المظاهر إنها الأفكار الميتة وهي الأفكار التي بها خذلت الأصول، وهي الأفكار التي انحرفت عن مثلها العليا ولذا ليس لها جذور في العصارة الثقافية الأصلية والتي نتجت عن إرثنا الإجتماعي [16] .

رأى مالك بن نبي أن هذا الرأي في أحمد شوقي لم يكن رأياً شخصياً ولكنه رأي ترعرع  في عالم ثقافي استحكمت في داخله الأفكار المنسلخة عن جذورها، وهي ما أطلق عليها مالك بن نبي الأفكار الميتة مع أخرى استوردت بصورة سيئة من الخارج من عالم ثقافي آخر تركت جذورها فيه، فأضحت بذلك مميتة وقاتلة وهذا ما أسماه بن نبي بالأفكار المميتة التي دخلت على العالم الإسلامي وأضرت به..

الأفكار الميتة هي تلك الأفكار التي فقدت الحياة وقد ورثها العالم الإسلامي منذ فترة عصر الانحطاط اْي عصر إنسان ما بعد الموحدين، وتشكل الجانب السلبي في نهضته وهي اْخطر من الأفكار القاتلة (المميتة) . حيث يشرح لنا مالك بن نبي  عبر مثال حي  ظاهرة الأفكار الميتة في المجتمعات الإسلامية،  فالحاج الذي ينزل بميناء جدة يُسَّر حينما يفاجأ بقراءة إعلان معلق على أحد الأبواب مكتوب عليه: هيئة الأمر بالمعروف، ثم عندما يتقدم خطوة بالبلد، يبدأ في اكتشاف حقيقة يبدو إزائها الإعلان مجرد سخرية: إنه فكرة ميتة. لكن الأمر الأدهى عندما نبدأ إحياء عالم الثقافة المحشو بالأفكار الميتة بأفكار قاتلة مستوردة من حضارة أخرى[17].

ويرى مالك بن نبي أن الأفكار الميتة التي ورثها العالم الإسلامي من عصر ما بعد الموحدين هي الأخطر وإن هذه الأفكار التي لازالت - بإعتبارها أصبحت ميتة – تكوّن الجانب السلبي في نهضتنا، بعدما كانت تكوّن الجانب الإيجابي (القتال) في عهد التقهقر والأفول الذي مر على الحضارة الإسلامية، هذه الأفكار إذن كانت قاتلة في مجتمع حي قبل أن تصبح ميتة في مجتمع يريد الحياة، غير أنها بكل تأكيد لم تولد بباريس أو لندن بل ولدت بفاس والجزائر وتونس والقاهرة... لم تنشأ في مدرجات أوكسفورد والسوربون..و لكنها نشأت تحت قباب جوامع العالم الإسلامي وفي ظل صوامعه [18].

ولقد هيمنت الأفكار الميتة على المجتمع الإسلامي وقد ترتب عنها إنفصال بين الإنسان المسلم وأفكاره المطبوعة لذلك فهو اليوم يدفع ثمن انفصاله عن نماذجه الأساسية.

هذه حقيقة في منتهى الوضوح، إن كل مجتمع صنع بنفسه الأفكار التي ستقتله، لكنها تبقى بعد ذلك في تراثه الإجتماعي (أفكاراً ميتة) تمثل خطرا أشد عليه من خطر (الأفكار القاتلة)، إذ الأولى تظل منسجمة مع عاداته، وتفعل مفعولها في كيانه من الداخل، إنها تكون ما لم نجر عليها عملية تصفية، تكون الجراثيم الموروثة الفتاكة التي تفتك بالكيان الإسلامي من الداخل، لأنها تخدع قوة الدفاع الذاتي فيه. ويجب أن نطبق تفكير باستور في المجال البيداغوجي والتربوي،  وذلك كي ندرك الجانب المرضي في مشكلة الثقافة عندنا. وهذه الأخيرة يدل عليها مالك بن نبي بالصورة التي أعطاها الكاشاني عن الجانب  المرضي في المجال السياسي، إذ تمثلت فيه الجرثومية الداخلية أو(الفكرة الميتة) التي خدعت وخدرت قوى الدفاع الذاتي في ضمير الشعب الإيراني -ويرى بن نبي- اْنه من الجدير بالملاحظة أن دكتور مصدق لم يسقط تحت ضربات الاستعمار- المتمثل في أكبر شركة بترول في العالم- ولكنه خر تحت ضربات القابلية للإستعمار الناطقة بإسم الله والوطن [19].

أما الأفكار القاتلة فهي أفكار فقدت شخصيتها وقيمتها الثقافية بعد أن فقدت جذورها التي ظلت في مكانها في عالمها الثقافي الأصلي.

ويوضح مالك بن نبي أنه "ما إن نبدأ بمعالجة الأفكار الميتة في العالم الإسلامي حتى نصطدم بالأفكار المميتة وهي الأفكار المستعارة من الغرب وهي الفكرة التي فقدت هويتها وقيمتها الثقافيتين بعد ما فقدت جذورها التي بقيت في مكانها في عالمها الثقافي الأصلي ووفدت إلى عالمنا الإسلامي ، وأحيانا يجسد الأشخاص أنفسهم ظاهرتي هذه المشكلة فالفيروس الوراثي فيهم يمتص الميكروب الخارجي الوافد إليه اْي أن الفكرة الميتة التي يحملها تنادي وتستدعي الفكرة المميتة التي تلقاها المجتمع الإسلامي" [20].

و هنا يشير الدكتور الجزائري محمد شوقي الزين[21] في كتابه المهم (الثقاف في الأزمنة العجاف) إلى مسألة جدا مهمة بقوله: لا يجوز أن نتساءل لماذا توجد عناصر فكرية قاتلة في الثقافة الغربية؟ بل فليكن سؤالنا في صورة أخرى:  لماذا تمتص طبقتنا المثقفة في البلاد الإسلامية  هذه العناصر القاتلة؟ فالأفكار الميتة هي المعوق والأفكار القاتلة هي العائق والأفكار الميتة تخص القابلية للاستعمار والأفكار القاتلة تخص الاستعمار.

يبقى حسب  نظرة مالك بن نبي الفكرة الصادقة ليست دائما فعالة والفكرة الفعالة ليست دائما صادقة، فتظهر الفكرة في العالم فتكون صحيحة أو خاطئة فإذا كانت صحيحة تظل محتفظة بصحتها إلى آخر الزمان إلا أنها برغم ذلك قد تفقد فعاليتها خلال حياتها المديدة[22] ...   (يتبع)

***

ا. مراد غريبي – كاتب وباحث

...............................

[1] الميلاد زكي، مقال مالك بن نبي والطور النقدي، المجلة العربية العدد  532

[2] ن.م

[3]  كتاب شروط النهضة، ترجمة: عمر مسقاوي وعبد الصبور شاهين،،2013، دار الوعي،الجزائر صفحة 89

[4]  ن.م ص 84

[5]  بن نبي، 2002، كتاب مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ترجمة د. بسام بركة ود. أحمد شعبو، دار الفكر، دمشق صفحة 21-22

[6]  في المقابل المثال الأول عالج روبنسون بروزو وحدته بملء يومه بصناعة طاولة

[7] ن.م الصفحة 22

[8]  ن. م الصفحة 24

[9] ن.م الصفحة 16.

[10] فكرة كومنولث إسلامي، ترجمة  الطيب شريف، ط3،دار الفكر للطباعة والنشر،دمشق،2000، الصفحة 53

[11]م مشكلة الثقافة، ترجمة عبد الصبور شهين، ط5، دار الفكر للطباعة والنشر، دمشق،2000،ص 67

[12] مشكلة الثقافة، ص 68

[13]م. س، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص 59

[14]Malek bennabi: le problème des idées dans le monde musulman،page 51

[15]  مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص71.

[16]مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص 147

[17]  ن. م الصفحة 75

[18] في مهب المعركة،  ص 136

[19] في مهب المعركة، ص 136

[20] مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص 149

[21] ستكون لنا في الحلقات القادمة  وقفة مع نقد الدكتور الزين المهم لبعض أفكار مالك بن نبي

[22] تبسيط مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، مالك بن نبي، ترجمة وتلخيص عبد العظيم علي، ط1، دار الدعوة للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة،1997، ص 28

في المثقف اليوم