قضايا

أيمن عيسى: علم اللسانيات.. نشأة المصطلح ومفهومه وتطوره

ما قبل ظهور علم اللسانيات

قبل أن يظهر اصطلاح علم اللسانيات الذى هو غربى النشأة، كانت هناك اصطلاحات أخرى ظهرت على يد اللغويين العرب، وهى: فقه اللغة، علم اللغة، علم العربية، علم أصول اللغة، العربية وأصولها. فكل هذه الاصطلاحات وما شابهها تدور وتسبح فى فلك واحد، وكلها مضمونها هو الدرس اللغوى. فالعرب هم أصحاب التأسيس لهذه الاصطلاحات التى تدور كلها فى فلك واحد، وهذه الاصطلاحات بما تعنيه هى الأصل والأساس الذى اعتمدت عليه أوروبا والغرب فى تحقيق نهضة متقدمة فى مجال الدراسات اللغوية، ضمن رؤيتها ومنهجها فى تحقيق نهضة حضارية شاملة فى مختلف المجالات، بدأت منذ عصر النهضة فى القرن السادس عشر الميلادى.

ظهور مصطلح علم اللسانيات

علم اللسانيات هو اصطلاح غربى النشأة كما تعرفنا، وقد ظهر على يد العالم السويسرى " دى سوسير 1857 – 1913 " فهو مؤسس المصطلح والأب الروحى لعلم اللسانيات. ولم يكتب الذيوع لهذا المصطلح إلا بعد رحيل دى سوسير بثلاث سنوات أى عام 1916م، ذلك حين نـُشر كتابه " محاضرات فى علم اللسانيات " وهو مجموعة محاضرات ألقاها على طلابه، ولم يُنشر هذا الكتاب فى حياته، ولكن بعد موته قام طلابه بجمع محاضراته التى ألقاها عليهم تحت عنوان " اللسانيات " ثم نشروها بعنوان " محاضرات فى علم اللسانيات " تكريمًا لأستاذهم واعترافـًا بفضله، من هنا طار المصطلح فى ربوع أوروبا وانتقل إلى أمريكا وغيرها، ثم عرف طريقه إلى العربية، إذن هو مصطلح وليد القرن العشرين أسسه " دى سوسير " مطلع القرن العشرين، ثم انتشر عام 1916م.

وأول استعمال لمصطلح اللسانيات فى المجتمع العربى، كان فى الجزائر، إذ ظهر لأول مرة عند إنشاء معهد العلوم اللسانية التابع لجامعة الجزائر عام 1966م، ومنه انتقل إلى المغرب وغيرها من الأقطار العربية.

ولعل من أهم أسباب ذيوع مصطلح اللسانيات، هو:

1 – خفته وسهولته على اللسان، حتى صرنا نقول " لسانى " بدلا من " عالم لغة " فالمشتغل بعلم اللغة وأصولها وهذا المجال، أصبحنا ننسبه إلى هذا الاصطلاح ونقول " لسانى " فنفهم أنه عالم لغة. وصرنا نقول " الدرس اللسانى " بدلا من الدرس اللغوى.

2 – أنه يجمع العديد من المباحث اللغوية أو بعبارة أخرى يجمع كل مباحث اللغة ويحتويها، فإن اختلف بعضٌ حول دلالة مصطلحات علم اللغة وفقه اللغة وأصول اللغة وعلم العربية وأن بينها فروقـًا جوهرية، فإنه يأتى مصطلح " لسانيات " ليقطع أى لغط ويأخذ كل المباحث تحت عباءة مصطلح "لسانيات"، عدا مبحث الإشارات الجسمية.

مغالطات تزعم لـ " ديوى " إرهاصات تأسيس المصطلح

يهمنا هنا تخليص مسألة التأسيس الاصطلاحى من أكدار وشوائب قاتلة علقت بها، ذلك أن البعض ذهب إلى أن الفيلسوف الأمريكى " جون ديوى 1859 – 1952 " قد استخدم مصطلح اللسانيات فى تصنيفه العشرى الذى قسَّم فيه العلوم إلى عشرة أقسام جعل منها اللسانيات فى المرتبة الرابعة. وهذا خطأ فادح لأن ديوى استخدم مصطلح " اللغات " ولم يستخدم مصطلح اللسانيات. والخطأ هنا بدايته عند السادة المترجمين الذين ترجموا كلمة مستخدمة بمصطلح حديث عُرف فيما بعد، فبدلا من أن يترجموها " لغات " قالوا " لسانيات " ولم يكن ظهر اصطلاح لسانيات وقت أن وضع ديوى تصنيفه هذا، هنا وقع الخطأ والخلط، فتوهم نفر من الباحثين أن ديوى له إرهاصات تأسيس المصطلح ثم جاء دى سوسير وحدد معالمه، وهذا خطأ قد بيناه.

هل يعنى ظهور مصطلح لسانيات انقراض المصطلحات السابقة؟

لا. وهذه مسلمة بدهية، فولادة ابن لا تعنى موت الأب. إن ظهور مصطلح اللسانيات لا يعنى انقراض وغياب المصطلحات السابقة، وخير دليل على ذلك هو أنها لا تزال قائمة حتى اليوم، حتى وإن انتشر مصطلح اللسانيات. كما أن المؤلفات الأولى التى حملت أسماء هذه الاصطلاحات قد حفظت لها البقاء والخلود، ومنها " الصاحبى فى فقه اللغة " لابن فارس، " فقه اللغة وسر العربية " للثعالبى. فضلا عن الكم الهائل من الدراسات والمؤلفات الحديثة التى تحمل من العناوين مثل: فقه اللغة، دراسات فى فقه اللغة، علم اللغة، دراسات فى علم اللغة، دراسات فى أصول اللغة. وغير ذلك من عناوين تسبح فى فلك هذه الاصطلاحات.

والذى نقرره هنا أنه لولا هذه الاصطلاحات لمَا ظهر اصطلاح اللسانيات الذى وضعنا مفهومه فى سياق حديثنا، فهو العلم الذى يدرس كل الظواهر والنظريات المتعلقة بالنشاط اللسانى. عدا مبحث الإشارات الجسمية فهو طريقة ولغة تواصلية تخرج عن إطار النشاط اللسانى. وختامًا للقارىء الكريم خالص المودة والتحية.

***

د. أيمن عيسى

 

في المثقف اليوم