قضايا

مجدي إبراهيم: الإمام والتصوف (8)

تكاد تكون روح التصوف المُثلى الحقيقية شفافةً خاليةً من التزييف،  تتجاوز الرسوم إلى التحقيق، مرموقة الأثر فى واقع النفوس الكبيرة والقلوب العظيمة والعقول المستنيرة بنور الهدى المحمدي، لم يمثلها فى الإسلام على الحقيقة مثل ما مثلها وجسّد قيمها الخالدة الإمام على بن أبى طالب رضوان الله عليه.

إنك إذا أردت موروثاً أدبياً فكريًّا روحياً أصيلاً خالصاً، يصل الطارق بالتليد، لم تُداخله عوامل خارجة عن القيم الدينية فى الإسلام فلتنظر فى أقواله.

كل أقواله صادرة عن عُمق البصيرة وجذوة الإيمان، تأمل ماذا يقول :  رحم الله امرأ أحيا حقًّا وأمات باطلًا، ودحض الجور، وأقام العدل. إذا أحبّ الله عبدًا ألهمه حُسن العبادة.

(فقد البصر أهون من فقد البصيرة). (أحسن الكلام ما لا تمجّه الآذان ولا يُتعب فهمه الأفهام). (احذر كلّ قول وفعل يؤدّي إلى فساد الآخرة والدّين)، (ثلاث يوجبن المحبّة : الدّين، والتّواضع، والسّخاء). وليس للقرابة شفاعة فى معصية الله، وإنّ عدوّ محمد صلّى الله عليه وسلّم مَنْ عصى الله، وإنْ قربت قرابته.

ومن أبدع ما قال فى دحر التشاؤم والقنوط وفى إرادة الثقة بالله والتسليم له، والاعتماد عليه، وحُسن الظن به : كل مُتوقع آتٍ : منتظر الفرح سيحصل عليه، وصاحب اليقين بفكرته ستتحقق، ومُسيء الظن سيناله، فتوقع ما تتمنى، فأقداركم تؤخذ من أفواهكم).

ولم تكن الحكمة الخالدة فى الحضارة الإسلامية آية من آيات النور والهدى والصفاء والبقاء إلا حين جرت فياضة بها كلمات الإمام علي، وهو أكثر الصحابة علماً وحكمة وتبتّلاً وزهادة، وأكثرهم كما كان يقول الإمام أحمد، أثراً بالنقل عنه، فلم ينقل لأحد من الصحابة كما نقل عن الإمام عليّ، وهو مع تربيته فى حجر النبيّ، صلوات الله وسلامه عليه، وتمكّنه من الحديث النبويّ، وتحريه واستوثاقه، لم يروِ عنه، كما تقول الروايات، سوى ستة وثمانين بعد الخمسمائة حديث.

وكان رضى الله عنه تلميذ ربّه، وأعلم أهل الأرض بكتاب الله، وأعرف العرفاء بأسراره، وهو القائل: (سلونى سلوني! سلونى عن كتاب الله، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلمُ أنزلت بليل أو نهار).

ومن زهده ومحبته للعلم ونفرته من الحطام كان يردد : العلم خيرٌ من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال. ولا شك فى أفضيلة الحارس على المحروس، وشرف العلم وفضله والانشغال به أكرم عند الله من جمع الحطام، لكن الناس لا يعلمون، حتى إذا علم الرّجل، زاد أدبه وتضاعفت خشيته، فإذا لم تكن عالماً، كما يُوصي عليه السلام، فكن مُستمعاً واعياً.

ونموذج كلام الإمام علي هو نموذج يحتذى فى المعرفة بأسرار خزائن العلوم فأقواله التى تمثل حكماً مختصرة لا تدل من قريب إلا على إحاطة وشمول، واختزال المعانى العميقة فى عبارات قصيرة فياضة بالدلالة والإيحاء كمثل قوله : (سوء الجوار والإساءة إلى الأبرار من أعظم اللّؤم. لن يحصل الأجر حتى يتجرّع الصّبر. بالعافية توجد لذّة الحياة. صحبة الأخيار تكسب الخير، كالرّيح إذا مرّت بالطّيب حملت طيباً. إيّاك ومصادقة الأحمق فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك.

أسفه السّفهاء المُتبجّح بفحش الكلام. آفة النّفس الوَلَه بالدّنيا. الدّنيا سجن المؤمن، والموت تحفته، والجنّة مأواه.

أفضل النّاس أنفعهم للنّاس. أشدّ القلوب غِلّاً القلب الحقود. كلّ شيء فيه حيلة إلّا القضاء. من وَقَّرَ عالِماً فقد وَقَّرَ ربّه. إذا رأيت من غيرك خلقاً ذميماً فتجنّب من نفسك أمثاله. الجاهل ميّت بين الأحياء. والمُحسن حيٌّ وإن نُقِل إلى منازل الأموات).

ومن كلامه، رضوان الله عليه، الذى يجرى مجرى الأمثال، وهو بالفعل  جواهر نادرة تبدو فيها جوامع الكلم، أوابد حكمة وخلاصة تجربة وحياة : (أشبه النّاس بأنبياء الله أقولهم للحقِّ وأصبرهم على العمل. وأعلم النّاس بالله سبحانه أكثرهم له مسألة. العقل أن تقول ما تعرف، وتعمل ممّا تنطق به. ينبّئ عن عقل كل امرئ لسانه، ويدلّ على فضله بيانه. عليك بمقارنة ذى العقل والدّين فإنّه خير الأصحاب. إنّ أحببت أن تكون أسعد النّاس بما علمت فاعمل. إنّ الله تعالى يُدخل بحسن النّية وصالح السّريرة من يشاء من عباده الجنّة. آفة العمل ترك الإخلاص فيه).

وهكذا تجرى حكم الإمام علي فى الأدب والأخلاق والمعرفة والإخلاص وفلسفة العمل ومطالب السعى والوعى والمنهاج، قوام من أفق أعلى ممدود الصلة بفيض التعليم النبوى موصول بالبقاء والخلود والقيمة الباقية، حِكم لا يبليها فعل الزمان وربما تعالت على الزمن واتصلت من فورها بمشاعل النور التى فاضت عنها في البدء والمنتهى؛ لكأنما هى الأسس الأولى تتأسس عليها خصائص المبدأ الخلقي في الإسلام، من حيث إنه مطلق لا يخضع لقيود الزمان والمكان بل فلسفته كلها صالحة لكل زمان ومكان، والعمل بها يُصلح الزمان والمكان، فضلاً عن أنها خصائص لا يختلف العقل حول قيمتها ولا يجد غضاضة فى الأخذ بها وتعاطي حكمتها، قانعة قبل التجربة، وتزيدها التجربة مع الممارسة وضوحاً وإشراقاً ونفعاً لبني الإنسان.

(وللحديث بقيَّة)

***

د. مجدي إبراهيم

في المثقف اليوم