قضايا

عبد السلام فاروق: ريادة مصر الثقافية بين الماضي والحاضر

  الثقافة المصرية قديمة ضاربة بجذورها فى عمق الأرض منذ آلاف السنين..  وهي ثقافة مؤثرة يمتد تأثيرها لما وراء الوطن العربي إلى جميع قارات العالم، ليس فقط بسبب الحضارة الفرعونية وما تركته من آثار مبهرة، ولكن حتي على صعيد التأثير المعاصر؛ وإن شخصيات مثل نجيب محفوظ وأم كلثوم وأحمد زويل باتت لهم شهرة عالمية متجاوزة لحدود المكان والجغرافيا، وأمثالهم فى مصر كثيرون. واللهجة المصرية يستطيع أي إنسان أن يميزها بسبب انتشارها الإعلامي منذ بداية عصر السينما والتليفزيون والإذاعة، فكانت مصر من أوائل الدول التي استثمرت ملكاتها وقواها الناعمة فى مجال الإعلام والسينما.

 الريادة فى مصر راسخة رسوخ الجبال الرواسي، وهي ليست ريادة مصطنعة أو مستحدثة، وإنما هي بديهية وطبيعية لما حباها الله به من نعم وخصائص وإمكانات.

مصر الثقافة

 نعم مرت علي مصر شعباً وأرضاً ونيلاً عهود متتالية تأثر فيها النسيج المصري الثقافي بعدة ثقافات؛ فرعونية ويونانية ورومانية وفارسية حتي انتهت للثقافة الإسلامية التي تنوعت فى ذاتها إلى مراحل وعهود منذ العصر العمري إلى الأموي إلى العباسي فالإخشيدى والطولوني ثم الفاطمي فالأيوبي فالمملوكي ثم العثماني، وبعدها جاء نابليون والاستعمار البريطاني، لتمتزج بالشعب المصري طوائف وجاليات أجنبية وعربية كان منها الإيطالي واليوناني والإنجليزي والفرنسي والتركي والشامي، وامتزج هؤلاء بالشعب المصري حتي باتت عائلات بأكملها ذات أصول أوروبية هي عائلات مصرية خالصة وتنقطع صلتها بأصولها الأوروبية أو العربية إلا بمصر.

 استطاعت مصر دائماً أن تصهر فى نسيجها الفريد شعوباً ولغات وثقافات عدة دون أن تفقد هويتها ومزاجها وطابعها المميز. والبراعة فى اليد المصرية والعقل المصري سارية حتي على الأميين غير المتعلمين؛ فالفلاح المصري هو الأبرع، والفنان المصري ابتدع فنون الزخرفة والنقش على النحاس والحجارة وطورها، وشهدت على براعته آثار فرعونية ويونانية وقبطية وإسلامية من مختلف العصور نفذتها أيادٍ مصرية ماهرة.

 ثقافة مصر لا تحتاج لأدني مجهود لتظهر وتطفو على السطح؛ فهي موجودة فى كل شارع وحارة وركن فيها. ولهذا كان النشاط الثقافي السنوي نشاطاً طبيعياً يأتي كانعكاس لما تفيض به القلوب والعقول والأيادي من إبداع تزخر به مصر دائماً.

تعدد روافد الثقافة

 لا شك أن وزارة الثقافة في قيادتها للمؤسسات الثقافية تضع خطة لاستغلال كل روافدها ومواردها لخدمة الجمهور المصري بمختلف مراحله العمرية. من خلال مهرجانات ومعارض وفعاليات وندوات وإصدارات ومنتجات ثقافية عديدة تغطي جميع محافظات مصر..

 ربما يكون معرض الكتاب هو الفعالية الأبرز إعلامياً لما تحمله من زخم وشهرة، لكن حتي على مستوى المعارض، فإن وزارة الثقافة ممثلة فى الهيئة العامة للكتاب تقوم بتنظيم معارض أخري محلية تزيد عن عشرين معرضاً فى عدد من محافظات مصر، كما تشارك في عدد من المعارض الدولية خارج مصر بإنتاج كثيف، تمثل فى إصدارات هيئة الكتاب وهيئة قصور الثقافة ، وهي إصدارات كثيرة وعناوين تنوعت في مشاربها وواتجاهاتها بين الإصدار الأدبي والعلمي والترجمات.

 لم يقتصر أداء وزارة الثقافة على ما هو قائم من أبنية ومراكز ثقافية منتشرة فى المدن والمحافظات والقري، بل أقامت ورممت وجددت عدة منشآت ثقافية جديدة خلال السنة الماضية زاد عددها على خمسة عشر منشأة. إلى جانب هذا فقد تعاونت الهيئات الثقافية وعلى رأسها هيئة الكتاب مع وزارة الأوقاف لإصدار مؤلفات وسلاسل تنويرية مختلفة لنشر الوعي والثقافة الإسلامية الوسطية.

رؤية مصر 2030

 إنها أنشطة ثقافية تجري وفق مخطط استراتيجي ينطوي تحت رؤية مصر 2030. بحيث أن كل وزير من الوزراء يستكمل ما حققه الوزير السابق، فلا تضارب ولا تعارض ولا عشوائية وإنما خطة استراتيجية متكاملة تسير تبعاً لمنهج ورؤية بعيدة المدي.

 هناك عدة محاور لهذه الرؤية، لعل من أهمها محور "حماية وصون التراث الثقافي المصري". وهو المحور الذي حققت فيه وزارة الثقافة نجاحات عدة، منها نجاحها فى تسجيل احتفالات مسار العائلة المقدسة على قوائم التراث الثقافي غير المادي، وكذلك تقديم ملف آلة السمسمية لمناقشة تسجيلها ضمن نفس المخطط. وفي نفس الإطار تسير إصدارات هيئة الكتاب فى نفس الإطار الذي يعيد تقديم التراث المصري وتحقيقه في عدد من السلاسل الجديدة من حيث الشكل وطريقة التقديم لتلائم الجيل الجديد من الشباب.

 محور آخر انضمت فيه وزارة الثقافة لمبادرة "حياة كريمة"، فوجهت أنشطتها وفعالياتها نحو العشوائيات والمناطق الحدودية، هكذا نظمت الوزارة فعاليات وصل عددها لنحو خمسة آلاف فعالية، مع تزويد مكتبات المدارس والجامعات بنحو سبعين ألف كتاب، بخلاف المهرجانات والندوات.

 وفى هذا الإطار وقعت وزارة الثاقفة عدداً من بروتوكولات التعاون مع وزارات ومؤسسات داخل وخارج مصر. أفرزت عدداً من المنتجات الثقافية والفعاليات وليالي العرض المسرحية ومعارض الفنون التشكيلية.

أين دور رجال الأعمال؟!

 تحدثت مراراً عن دور الاستثمار الثقافي الخاص فى النهوض بمجالات الثقافة المتعددة فى مصر. فلا يمكن إلقاء العبء كله على الدولة والحكومة بمواردها المحدودة خصوصاً فى ظل أزمة اقتصادية عالمية تؤثر ولا شك فى محيطنا الإقليمي..

  لا أعلم فى حدود ما أتابعه أحداً من رجال الأعمال يوجه جزءاً من استثماراته نحو ترقية الفنون والأداب فى مصر، باستثناء نجيب ساويرس ورعايته لمهرجان الجونة، وجائزته الأدبية السنوية المعروفة، ومثل هذه الفعاليات، على قلتها وشحها وتركيزها على هدف محدود من أهداف الثقافة، إيجابية وتستحق الإشادة. ولا يمكننا اعتبار امتلاك بعض رجال الأعمال لقنوات فضائية أو صحف خاصة من باب المشاركة الفعالة فى نهضة المجال الثقافي، لأن لهذه المؤسسات اتجاه دعائي يخص منشئيها من رجال الأعمال. لكنني أتحدث عن الثقافة بمعناها الأوسع. فما المانع أن تنضم جمعية رجال الأعمال للمؤسسات التي يحدث بينها وبين وزارة الثقافة بروتوكول تعاون قائم على خطة مرسومة، في مقابل مزايا حكومية يتم تقديمها لرجال الأعمال المشاركين فى صورة إعفاءات ضريبية أو حملات دعائية وإعلانية لشركاتهم ومنتجاتهم؟!

 ثم لماذا لا يشارك رجال الأعمال المثقفون بأنفسهم، بعيداً عن وزارة الثقافة، فى الرقي بالثقافة المصرية من خلال إدخال التقنية والتكنولوجيا فى هذا المجال بشكل هادف للربح؟!

 إن الصورة الذهنية الموجودة فى عقول رجال الأعمال أن الثقافة نشاط خدمي غير ربحي يمتص الأموال ولا يكتسبها، وهذا تصور خاطئ تماماً؛ خاصة فى ظل التقدم التقني والتكنولوجي الذي جعل الثقافة بمختلف مجالاتها من أقوي القطاعات الإنتاجية تحقيقاً للمكاسب والأرباح، وقد تكلمت فى هذا الشأن فى مقالات عديدة سابقة، ويمكنني وغيري تقديم عشرات الأمثلة لمشروعات ثقافية ذات أرباح مهولة، لكنها تتم فى أوروبا وأمريكا والصين وغيرها من البلاد المتقدمة، فلماذا لا نقلدهم ونحذو حذوهم، ما دامت لدينا الأدوات والموارد البشرية والطبيعية لهذا الأمر؟

معاً نستطيع

التطوير يسير على قدمين. ولا يمكن أن نكتفي "بالحجل" على قدم الحكومة وحده، دون تحفيز القدم الأخري، القطاع الخاص، بالاستثمار فى المجال الثقافي. لأن فى انتعاش الاستثمار الثقافي انتعاش للاقتصاد المصري. وبنظرة سريعة لمؤسسات عالمية كبري مثل أمازون التي بدأت نشاطها بالاستثمار فى الكتب، لتصبح فى غضون سنوات من كبريات شركات التجارة الإليكترونية. أو مؤسسات وادى السيليكون التي استثمرت فىى الثقافة الشعبية باتجاهها نحو السوشيال ميديا، نستطيع أن نؤكد أن استثمارنا فى الثقافة معناه الاستثمار فى البشر، وهو لعمري أقوى أنواع الاستثمار وأكثرها نجاحا واستمراراً.

 المثقفون أنفسهم ليس بأيديهم إلا طرح الأفكار الخلاقة والدعوة لتحقيقها على  الأرض، لكنهم فى حاجة لمن يملكون رؤوس الأموال لتحويل الأفكار المجردة والأحلام إلى واقع، وهم فى حاجة لأصحاب السلطة والقرار لوضع الأفكار والرؤي النظرية محل التنفيذ.

 معاً نستطيع، مثقفون وقادة ورجال أعمال. نستطيع أن نستعيد ريادة مصر الثقافية لا فى محيطنا الإقليمي وحده، بل وعالمياً. لأن مصر كانت ولا زالت  ملأي بالإبداعات والمبدعين فى كل مجالات الفن والأدب والعلم.

***

د. عبد السلام فاروق

 

في المثقف اليوم