قضايا
محمد رزيق مبارك: تأملات في الأنا والذاكرة والخيال

في نص «أول التكوين[1] »
عذُبت العبارات وتآلفت جواهرَ ثمينةً ضمن جمل رصينة شكّلت بنيانَ شذراتٍ تطفح بالمعاني الراقية، الحسناء بحسن لفظها، لينتسج منها نصٌّ عبقُه عربية صِرْف دُقّت أوتادها على التخوم بين النظم والنثر. مضمونها حكي ينبعث من الأعماق مُتحرجلاً بين الإفصاح والإضمار، أمام ذاكرة مزاجية الهوى عنيدة لا تنْصاع من دون إرادتها؛ تنتقي ما ترغب في الإفراج عنه مما تكتزنه لصاحبها، وتختار بعناية شديدة الزمان والمكان الذي تفرج فيه عمّا ترغب فيه من مكنوناتها.
يحيل عنوان النص «أول التكوين» إلى فهم أولي يوجّه انتباه القارئ إلى دلالات عدّة؛ منها عبارة «أول»، التي توحي بأنّ هناك بعدَ أول التكوين، وسطٌ وآخِر وربّما أكثر حسب ما يصدر عن الكاتب وأناه من تباوُح حول المشترك بينهما؛ ناهيك أن الكاتب قد تعرض لمحطات من حياته في نصوص ثلاثة سابقة: رائحة المكان وليليات ثم على صهوة الكلام. وأما عبارة «التكوين» فتتجّه دلالتها إلى بدء الخليقة كما في أسفار التكوين، أو في كتب التاريخ التي تأتي على ذكر البدايات الأولى لتشكّل الكون والخلق، أو قصة «حي بن يقظان» التي تقف على نشأة وتكوين «أسال» البطل. والواقع، إنْ كان عبد الإله بلقزيز ينأى بنفسه أن يكون من كُتّاب السيرة أو أن تكون السيرة الذاتية من صميم اهتماماته؛ فإنّ «أول التكوين» عبارة عن مجتزأ من سيرته الذاتية؛ يعرض بعضاً من حياته منذ البدايات الأولى إلى المرحلة الجامعية.
جميل أن يعود المرء إلى ماضيه الغابر يقلب بين ثناياه ربما يساعده على فهم حاضره واستشرافه مستقبله. كم هو جميل أن يحاور الإنسان ذاته؛ حوارَ مكاشفة وبوْح صريح ينتابه أخذٌ وردٌّ في قول كل شيء عاشه الشخص من دون زيادة أو نقصان. يستنِدُ في ذلك إلى قوة الذاكرة ومدى استجابتها وطواعيتها كلما استدعتها أناه، ويعمل الخيال على ترتيب الوقائع والأحداث بالصورة والشكل الذي ترتضيه النفس/الأنا. إذ «ثمة مسافة بين ما يتخيّل المرء وما يحقّقه، لا يقطعها غير شوقه»[2] إلى هذا الماضي الخصيب. إنّ الأنا تنزع أحياناً إلى إخبار الأصدقاء عن ذكرياتها؛ لكن لها من الذكريات ما تخشى أن تخبر به ذاتها نفسها، فبالأحرى الآخر. من هنا حُقَّ للأنا أن تحتفظ لها بخصوصية البوح أو الإحجام عن الكلام، فالمعيش الإنساني لا يُقال كلّه. لكن سؤالاً مشروعاً ورد على لسان الكاتب: «ماذا تريد من إيقاظ ماضيك؟»[3] يعطي القارئ مشروعية طرح تساؤلاتٍ من قبيل؛ هل «أول التكوين» هو محاولة من عبد الإله بلقزيز ليجيب عن أسئلة عالقة في ذهن القارئ لم يستطع أن يفكّ شفرتها؟ أم أنه حوارٌ داخليٌّ تستنطق الأنا أناها الأخرى التي عاشت فيها وصاحبتها الرحلة في هذا الوجود؟ أم أنّ ما يكتب هو «حيلة لخروج النِّرجِسية من شرنقتها، ورؤية «محاسنها» في مرآة صقيل؟»[4] ، وهنا نكون أمام رغبة الكاتب في الكشف عن الكامن والمتواري في شخصيته؟ أم تراه اعتذار وتفسير من جانبه إلى القارئ يُسلِس القلم ليقول له هو ذا أنا كما درجتُ من أول تكويني حتى يومي هذا الذي دخلت فيه عليك بكتاباتي إلى مكتبتك؟ وقد يكون له غرضٌ آخر كالذي خاطب به أناه وهو يعدُّ لهذا الماضي ما يليق به من مواراة بين طيات الكتب والرفوف: «أن تصنع له متحفاً أو أن تنظم له حتفاً يليق؛ أو تراك تلبس جُبّة المؤرّخ لتجمع أمشاجاً بعثرتها ريح الزمان على قارعة الطريق؟»[5] .
يحيلني الحديث الشجي بين الأنا والذات، والذي حرْجَل بين البوح الحذر بما جادت به الذاكرة وما أحجمت عن التصريح به، إن عمداً أو غفلاً، إلى ترويسة لطيفة وردت ب«كتاب الحكمة العربية» نقلاً عن «روضة العقلاء» الذي ذكر قصةً عن ابن السمّاك حول بحّار رمى الشباك والأغلال لعل الحظ يبتسم له، فأخرجَتْ شباكه جمجمة راح يسائلها عمّا كان منها وبها. ذلك هو عبد الإله بلقزيز؛ وهو يستغور الماضي يستحضر أناه ويبث شكواه إليها وشجونه علّها تسعفه في كتابة سيرة ذاتية تقارب مسار حياته بكل موضوعية وشفافية؛ وهل يسهل على المرء أن يقرّ ويصدح بكل ما عاشه فيشركه مع القارئ/ الآخر؟ ليس من وسيلة موثوقة توصل إلى محاورة الأنا لذاتها سوى الذاكرة إن طاوعت، وسمحت لك بما فاء عن الحاجة فهي «إذ تصنع الأسباب لكي ترى ما تُريكَه، تنتقي لك من مخزونها نزراً لا يكفي لشفاء الغليل»[6] ؛فتستدعي الخيال لقدرته على استغوار الخبايا الدفينة قصد رتق الشريط المخروم الذي بين يديك؛ لإنّه إذا كان الخيال «بساط الريح الحقيقي [...] الذي يسبح بك حيث شاء وشئت؛ يرحل بك إلى الماضي القديم، ومنه إلى المستقبل البعيد بله إلى عالم الغيب»، فهو الأداة التي تسعفك في تركيب الصور الماضية ويعرضها عليك في حُلّة قشيبة.
السيرة لغة ذاكرة وخيال:
إنْ أنت عكفت على كتابة سيرتك الذاتية فأنت تتهيأ لتتعرى أمام قارئ تكشف له عن ماضيك القريب أو البعيد. وهذه الكتابة تمر عبر قناة الذاكرة، الذاكرة الفردية أو الذاكرة الجماعية. على التحقيق، أنّ «مصير الذاكرة هي ألا تبقى خاصة بواحد فقط»[7] ؛ لأنّها مشتركة مع الأغيار الذين عاشواْ معنا اللحظة أو صنعوا بمعيتنا أحداثها. يبقى أن تستحضر الزمان والمكان وشهود الأحداث التي طبعت حياتك وشكّلت محطات فارقة في مسارك لأنّك «أنت الأمكنة التي عمرتها ومررت بها ومرّت بك... وأنت الأزمنة وقد تعاقبت على جسد أنت هو»[8] . كذلك تتشكّل قصة الحياة التي ننمو ونكبر معها. وكم يتلكأ المرء وهو يغمس الريشة في دواة الحياة الماضية ليسائل نفسه عن الهدف من هذه الأوبة إلى الماضي، يسرّ القول في نفسه: «ماذا تريد من بقايا ماض قديم أو أثيل دثر في الذاكرة، أو استودع فيها رميماً يعصى على استعادة قافرة»[9] . ومع هذا التردّد يأبى عبد الإله بلقزيز إلّا أن يخوض غمار مساءلة ذاكرته متوخياً ما استطاع سبيلا إلى الموضوعية والشفافية؛ إذ يُفصح بصريح العبارة عن ذلك: «كن في أوْبِك إلى أوّلِك شهم القلب والنحيزة، لئلا يلتاع الماضي من زورتك ويتقبض مزاجه»[10] .
لم يتغاض عن الإشارة إلى أعطاب الذاكرة التي حصرها في رهافتها ورقة عودها إذ يخشى عليها من الشدة فلا تنقاد لصاحبها كما يريد، ومن هناك يوصي بعدم الاشتداد عليها ومعاملتها برفق ولين؛ فقد تحرف وتلقي بك في المتاهة أو تضنّ عليك لضجرها من سؤالك أو لعلَّها انخرمت وضاع منها المخزون فأنّى لها أن تجيب طلبك. الذاكرة سيدة في مملكتها، وهي صاحبة السيادة على الماضي تعطي منه بمقدار؛ لهذا وجب عليك أن تأخذ «ماضيك كما تأخذ الأنثى بين يديك، وقدِّم له طقوس الحبّ ما تلين به العرائك، وضع أشياءه أمامك، بكل هدوء، وتصفحها بقلبك وصل رحمك بها وبك حين كنتها وكانتك»[11] . قد يتحقق لك المراد من الذاكرة، فتُقدّم لك صوراً أو بقايا صور من الأيام الماضية، وبين تردّدك في البوح أو الإحجام عن قول كل شيء؛ فإنّك في حاجة إلى الخيال لأنّ «الذاكرة مقاطعة تابعة للخيال»[12] .
على التحقيق إنّ الخيال هو استحضار لغائب كان ماثلاً أمام أعيننا ثم توارى إلى الذاكرة تخزنه وترعاه ما بقيت قوية؛ لكنْ ما إن نحاول القبض على عنانه حتى ينطلق جامحاً سابحاً بنا في آفاق دروب قد تكون مجهلة لدينا. هكذا يقول عنه بلقزيز، وهو يسترجع لحظة من اللحظات التي يطرق طيف الخيال بابه، حين «أضع خاطري على وسادة، وأدعه يتقلب في حديقة الخيال حراً طليقاً. وحين ينهك في التحليق، أُسلمه إلى الكتاب كي يترجّل الخيال ويستريح، قليلاً، من شقوة الإصابة بالمستحيل»[13] . لا يكفي أن يحضرنا الخيال ونسرح معه في عوالمه التي مَثّلْنا دوراً رئيساً فيها فنقوم بتقييدها، إذ لا بد من إجادة تقييده وتنضيده على أحسن حال. إنّ الخيال يتفلّت كما الماء يتفلت من بين فروج الأصابع، ومع ذلك فإنّه خير مساعد لإطباق القبض على المحال، يقول بلقزيز عن دوره: «كلما غرفت من سلسبيل الخيال، تخفّفت من قيود المرئي، ليتّسع المدى أمامي وينداح عن دمي غبش المحال»[14] . ويصاب بقلق الرتق والتصفيف إلى درجة العزوف عن تدوينه بالحبر على الورق، ف«كلما جرّبتُ ترقيع فتوق الخيال، أصابني دوار الفراغ المطلق وانهدّ بالي واضطرب...وأتعبُ كلما شرعتُ في ربط خيوط الخيالات، ويصيبني من فشلي القنوط»[15] . إنّ فعل الرتق فعل تخييل، وله من التأثير في عملية الرتق الأثر القوي؛ يقول بلقزيز: «يذهب بي التخييل إلى مناطق نائية لم تطأها قدم. هكذا يخيل إليَّ وأنا أمسحها بناظري. أترجّل عن صهوة الخيال، لكنّي أمسك بعنانه لئلّا يزايلني ظلّه فينقطع عني الزاد»[16] . لم يشغل الكاتب نفسه بالسؤال هل ما يجمع من بقايا ماضيه أحداثاً عاشها حقّاً أم هي من خُدع الخيال ومكره المتساوق مع الذاكرة؟
عبد الإله بلقزيز ليس كاتب سيرة كما يخبر بذلك عن نفسه «لستَ كاتب سيرة، ولن تكون، ولكنّك من دون أولك مأفون. لستَ كاتب سيرة، لكنك تتلصّص على بعض ما جاد به الزمان عليك واستنقذته من آفة النسيان»[17] ؛ لكنّه يملك لغة متينة قلّ نظيرها في الكتابات المعاصرة. فهو يكتب في مجالات متباينة من حيث موضوعاتُها، يكتب في السياسة والفكر والرأي والرواية وغيرها. وعنده، لكل مجال أسلوبه ولغته؛ كأنّي به يسكن اللغة وتسكنه، بها يشعر ويحس، وبها يتذوق ويشتم، وبها يسمع ويرى. يملك زمامها، فلا يدعها تهرب به حيث تشاء، مع علمه بأنّ اللغة وهم ساحر آسرٌ وخطير يسكنها السحر والخيال كما يسكنها البيان والبديع. اقتناعاً منه أن طريق الإبداع يتعدى القواعد التي تتأسّس عليها اللغة؛ لكنه أعمق وأبعد يشمل عناصر شتى تنوء عن الحصر والإحاطة.
***
د. محمد رزيق مبارك - باحث من المغرب
.......................
[1] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. (الدار البيضاء: المركز الثقافي للكتاب، 2023). يتكون النص من ثلاثة أقسام جاءت كالتالي: (فاتحة الذاكرة ص 7؛ من هناك ص 11؛ هنا والآن ص 97)، فصولها عشرون وصفحاتها 158.
[2] جبران خليل جبران. رمل وزبد. ترجمة ثروت عكاشة. (القاهرة: دار الشروق، ط6، 1999) ص 17.
[3] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 7.
[4] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 8.
[5] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 7.
[6] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 8.
[7] بول ريكور، الذاكرة، التاريخ، النسيان. ترجمة جورج زيناني. (بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، 2009)، ص 16.
[8] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 7.
[9] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 8.
[10] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 8.
[11] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 9.
[12] بول ريكور، الذاكرة، التاريخ، النسيان. ص3.
[13] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 16.
[14] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 57.
[15] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 21.
[16] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 59.
[17] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 10.