قضايا

حاتم حميد محسن: ماذا يعني ان يكون الفرد انسانا؟

عندما يسألنا أحد "منْ أنت؟"، نجيب بتسميات متعددة مثل أسيوي، ذكر، نباتي، طالب. هذه التسميات يسهل فهمها وتساعد الآخرين لتوصيفنا بسرعة. لكن هذه الوصفات تلامس السطح فقط. انها تخبرنا عن سمات مادية عامة او أدوار اجتماعية او خيارات فردية، لكنها حقا لا تغوص في أعماق السؤال: ماذا يعني أنت؟ او بشكل عام، ماذا يعني حقا ان تكون انسانا؟ هل نحن فقط كائنات حية، ام ان هناك ما هو أكثر – مثل روح او هناك أساس آخر عميق لوجودنا؟ هل نحن نُعرّف بالعلاقات التي نبنيها، بأفعالنا، او بإمكاناتنا؟ ادراك ما يعنيه ان نكون اناسا يؤثر في الكيفية التي نتعامل بها مع أنفسنا ومع الآخرين، وكيف نبني المجتمع، وكيف نتفاعل مع التكنلوجيات الناشئة مثل الذكاء الصناعي. هذه المقالة تنظر في أبرز مظاهر كينونة الانسان عبر طرح حجج أساسية مستقاة من مختلف الفلاسفة.

هل نحن أكثر من مجرد أجسام؟

أحد أكبر الأسئلة حول طبيعة الانسان هو ما اذا كنا كائنات مادية خالصة ام ان هناك شيء غير مادي يحدد هويتنا. لو انت تتصور تناولك لمانجو ناضجة. انت سوف تتصور لونها الأصفر وتتذوق حلاوتها من خلال التجارب الذاتية "لرؤية الاصفر" و "تذوق الحلاوة". هذه التجارب وغيرها توفر الاساس لما يسميه الفلاسفة منذ ديفد شالمر بـ "مشكلة الوعي الصعبة". هذه المشكلة تسأل، "كيف ولماذا تنتج عمليات الدماغ تجارب ذاتية؟" بدلا من مجرد ردود أفعال لحوافز جسدية/ ميكانيكية غير مجربة.

اولئك الفلاسفة الذين يجادلون لتأييد التوضيح المادي الخالص – اُطلق عليهم الماديون – يشيرون الى ارتباط قوي بين حالة الدماغ والحالات الذهنية. لنتخيّل في كيفية وقوعنا في حالة إغماء تام بسبب التخدير، او كيف نتأثر بشدة بسبب إصابات الدماغ، او المخدرات. هذه الأمثلة تشير بقوة الى ان حياتنا العقلية هي نتاج بايولوجي، وعلم الأعصاب يؤكد هذا ببيان ان أفكارنا وعواطفنا وتصوراتنا ترتبط بفعاليات معينة للدماغ في مناطق محددة منه. البعض يرى هذا دليلا مقنعا بان عملياتنا الذهنية هي ببساطة أحداث مادية معقدة. لكن الناس لا يتفقون كلهم على هذا. النقاد يجادلون ان محاولة اختزال الوعي بفعالية الدماغ وحده يتجاهل شيئا هاما جدا – التجارب التي تشكل أذهاننا. هذه لا تشبه فعالية الدماغ  التي هي مرتبطة به، فكيف يمكن ان يكون هذا النشاط؟ كذلك، لا توجد صفات مادية للمحتويات الذهنية، لذا بأي معنى هادف يمكن ان يقال بانها مادية؟

لمعالجة الاختلاف، يتخذ البعض موقفا ثنائيا، فيه عدة أشكال. تؤكد ثنائية الخواص بانه مع ان كل شيء مصنوع من مادة، لكن الدماغ يمكنه امتلاك كلا الصفتين الذهنية والمادية. ومن جهة اخرى، هناك ثنائية الجوهر التي تؤمن بان الانسان يتألف من جوهرين اثنين متميزين: الجسم المادي، والذهن غير المادي. بعض ثنائيي الجوهر، مثل ديكارت (1596-1650)، يذهب أبعد من ذلك ويضع الذهن في روح خالدة مستقلة عن الجسد بحيث تكون الروح هي مقر التجربة الذاتية.

ان مفهوم الروح ارتبط بعدة مفاهيم ميتافيزيقية وأخلاقية. في الهندوسية، مثلا، يرتبط مفهوم الروح  بمفهوم الكارما وإعادة الميلاد. هنا يُنظر الى الروح كوجود مستمر ينتقل من جسم الى آخر. يعتمد نوع الجسم الذي يذهب اليه سواء كان انسانا او شيء آخر، على تراكم الكارما. هذه العقيدة توفر ارشاداً أخلاقيا للعديد من الناس، لأن الافعال الفاضلة ستؤدي الى نتائج جيدة في حياة المستقبل، بينما الافعال السلبية ستقود لمعاناة في المستقبل. العملية تشبه إستعمال الآخرين لمفهوم الروح .

الانسان ككائن عقلاني

احدى الأفكار الشائعة حول ماهية الانسان المتفرد هي ان ما يميز الانسان بعيدا عن الحيوانات الاخرى هو قدرته على التفكير العقلاني. طبقا لهذا المنظور، الخصائص المحدِدة للانسانية هي القدرة على التفكير العقلاني المجرد وما ينتج عنه من فعاليات مثل اللغة والثقافة والايديولوجيات والرؤى العالمية.

هذه الرؤية لها جذور تاريخية عميقة، وتُنسب الى فلاسفة بارزين مثل ارسطو وديكارت وعمانوئيل كانط.

ارسطو مثلا، ميّز الانسان عن الكائنات الاخرى بمقدرته على اللوغوس "العقل". طبقا لارسطو، نحن نمتلك قدرة عقلانية متفردة لا تمتلكها الحيوانات الاخرى. الحيوانات تمتلك ارواحا حساسة تسمح لها بممارسة الاحساس، وبالتالي المشاركة في العالم: لكن الانسان لديه كل من التصورات الحسية والفكرية التي تسمح له بفهم ما هو جيد أخلاقيا من خلال استعمال العقل. الحيوانات لا يمكنها ان تكون جيدة او سيئة أخلاقيا لانها تفتقر الى المظهر العقلاني للتفكير الذي يجعلها واعية أخلاقيا.

هذه الرؤية "العقلانية" تدعم الاستثنائية الانسانية وهي الفكرة بان الانسان مختلف جوهريا، وعادة متفوق على الأشكال الاخرى للحياة. ديكارت فصل الانسانية عن الكينونات الاخرى، مجادلا انه من بين كل المخلوقات الارضية فقط الكائن البشري لديه الوعي. حسب رؤيته، الحيوانات "الدنيا" ليست الاّ مكائن طبيعية خالية من التجربة. انها تفتقر الى أي امكانية للفعل الاخلاقي لأنها تفتقر الى اللغة وبالتالي للقدرة على التفكير – لأنه حسب ديكارت انت تحتاج اللغة لتمتلك العقل،وتحتاج العقل لتمتلك الروح، والروح لتمتلك ذهنا مدرِك.

تاريخيا، نُظر الى العقلانية ايضا باعتبارها مقتصرة على جماعات معينة من البشر، استبعدت المرأة والرجال ذوي المنزلة المتدنية. فمثلا، ارسطو الذي كان ارستقراطيا، اعتقد ان بعض الناس ليست لديهم قدرات او ان قدراتهم محدودة دائما في تحقيق العقلانية التامة، خاصة المرأة و "العبيد الطبيعيين". هو جادل بانه رغم ان هاتين الجماعتين يمكنهما التصرف في قرارات عقلانية، لكنهما تفتقران الى عنصر التفكير المنظم الكامل ويمكنهما فقط اتّباع الأوامر، ولا يمكنهما ايضا فهم الخير الأخلاقي. فلاسفة النسوية جادلوا ان هذا النوع من التفكير لا يتصل بالبحث عن الحقيقة، وانما هو حول تركيز هياكل السلطة الأبوية وتعزيز الانحياز الذكوري. هم يجادلون بان هذه العقيدة النمطية تقيّد الإمكانيات والفرص المتوفرة للافراد بالارتكاز على جنسهم. الاستثنائية البشرية هي ذاتها مرتبطة بمركزية الانسان وبالنزعة النوعية التي ترى ان الانسان ذو أهمية كبيرة ومتفوق على أشكال الحياة الاخرى. هذه الرؤية الهيراركية بدورها تبرّر الهيمنة والإخضاع لاولئك الذين اعتُبروا "أقل من الانسان".

هذا ليس فقط وصف مفترض لطبيعة الانسان، انه يحمل باستمرار مضامين معيارية تعزز الامتيازات و هياكل السلطة القائمة . الادّعاء بانه "لتكون انسانا هو ان تكون عقلانيا" هو مثير للإشكالية، لأنه يفضل جنس معين او عرق او طبقة، ويستبعد جماعات معينة مثل الاطفال والمتخلفين ذهنيا، بالاضافة الى استبعاد الحيوانات من الإعتبارات الاخلاقية.

الانسان كجزء من الطبيعة

هناك فكرة مضادة، وهي ان الانسان ليس خاصا ابدا – على الاقل ليس بالطريقة التي نتصوره بها. التوضيحات الطبيعية تعيد تكامل الفرد الانساني الى العالم الطبيعي، اما كنظام مادي معقد، او كجزء من الكون الشامل. الشمولية panpsychism هي العقيدة بان أي مادة لها شكل من الوعي . هذا لا يعني ان الصخور والذرات لها أذهان مثلنا وانما ان هناك مستوى أساسي من الوعي او التجربة حاضرة في كل الأشياء. هذا المنظور وغيره من المنظورات الطبيعية يؤكد على الاستمرارية بين الانسان والانواع الحية الاخرى ويرفض فكرة الإنقسام الأساسي بينهما. وهكذا خلافا لديكارت نجد ديفد هيوم (1711-76)، في عمله (رسالة في طبيعة الانسان،1739)،يؤكد ان كل من الانسان والحيوان قادران على التفكير والفهم ، هما يختلفان فقط في الدرجة وليس في النوع. باروخ سبينوزا(1632-77) يذهب أبعد من ذلك ويجادل ان الانسان وبقية العالم هما جزء من مادة واحدة – سواء أسميتموها "الله" او "طبيعة" – وان كل شيء في الكون محكوم بنفس القوانين. هو ايضا ينتقد النزعة لإسقاط  الحوافز الشبيهة بالانسان على الطبيعة – مثل القول ان الحيوانات تتصرف بدافع "الانتقام" – مجادلا ان هذه الرؤية البشرية المركزية تشوّه فهمنا.

نحن حتى عندما نقوم بشيء فريد كبشر، مثل قدرتنا على التفكير المجرد، ذلك لا يعني بالضرورة تفوقنا الأخلاقي او اننا يجب ان نمتلك تعاملا أخلاقيا مختلفا. الفيلسوف النفعي جيرمي بنثام (1748-1832) جادل بان الاعتبارات الأخلاقية يجب ان لا ترتكز على المقدرة على التفكير وانما على المقدرة على المعاناة. هو كتب : "السؤال ليس "هل يستطيعون التفكير؟" ولا "هل يستطيعون التحدث؟" وانما "هل يمكنهم المعاناة؟"(مدخل لمبادئ الأخلاق والتشريع،1789). مثل هكذا منظور يوسّع نطاق الاعتبارات الاخلاقية لتضم جميع الكائنات الحية وليس فقط الانسان. مع ذلك، تمديد الاعتبارات الاخلاقية لكل الكائنات الحية يثير ايضا معضلات أخلاقية معقدة . فمثلا، الصناعة الزراعية واجهت اعتبارات أخلاقية في قضايا تربية وتحسين الحيوان بالاضافة الى وجوب التعامل مع استدامة البيئة وتأمين الغذاء.

الانسان كجزء من المجتمع

في كتابه (السياسة) وصف ارسطو الانسان بـ "الحيوان الاجتماعي". في هذه الرؤية، التفاعل الاجتماعي هو الخاصية المحدِدة لنوعنا. نحن في الحقيقة لدينا ميل فطري لتطوير جماعات معقدة تتضمن أنظمة القوانين وتقسيم العمل. فلاسفة آخرون قدموا رؤى لاتزال مستمرة في تحديد فهمنا لطبيعة الانسان والمجتمع. توماس هوبز (1588-1649) كانت لديه نظرة متشائمة معتقدا ان الناس يندفعون ليشكلوا أنظمة اجتماعية طبقا للمصلحة الذاتية والخوف والرغبة بالسلطة.

في ليفياثان (1651) وصف هوبز الحياة في دولة الطبيعة (ما قبل الدولة السياسية) بـ "المنعزلة والفقيرة والسيئة والوحشية والقصيرة" بدلا من إنطلاقها من الإيثار الفطري. وفي نفس الخط من التفكير، عالم نفس الاطفال بورتن وايت يؤكد ان صفة "الأناني" موجودة في الاطفال منذ الولادة، والتي تتجسد من خلال أفعال هو يصفها كـ "انانية صارخة".

وعلى الجانب الآخر لهوبز، جين جاك روسو (1712-78) اعتقد ان الانسان بطبيعته خيّر ورحيم، لكن المجتمع يفسده. تصوّر روسو دولة الطبيعة كدولة مسالمة يعيش فيها افراد منعزلون، جاؤوا مجتمعين فقط عندما تطوّر المجتمع، وهو الشيء الذي اعتبره أصل اللامساواة والشر.

كارل ماركس (1818-83)، ركز على الكيفية التي تصوغ بها العلاقات الاجتماعية طبيعة الانسان، مجادلا ان الناس يُعرّفون بنشاطاتهم الانتاجية وعملهم، وان طبيعتنا تتشكل بالانظمة الاقتصادية والاجتماعية التي نعيش فيها وليس بسبب اننا نمتلك جوهرا ثابتا.

فكرة هوبز في الانسان المدفوع بمصلحته الذاتية قادت الى دفاعه عن الملكية المطلقة، روسو في فكرته عن خيريتنا المتأصلة حفز أفكار الديمقراطية والحرية الفردية، ماركس في العمل قدم نقدا للرأسمالية. كل واحدة من هذه الرؤى تسلط الضوء على مظاهر مختلفة لما نعنيه بالانسان ودور المجتمع في تحديد سلوكه .

خلق انسان جديد

التكنلوجيات الجديدة تدفعنا للتفكير بمعنى الانسان. الهندسة الوراثية والذكاء الصناعي يتحديان الافكار التقليدية. فمثلا، التعديل الجيني يمكن ان يعزز سمات مادية او فكرية في الانسان – لكنه ايضا يطمس الحدود التي تفصل بين ما يشكل الانسان "الطبيعي" وغيره. مثل هذا التعديل الوراثي قد يقود الى تمييز ولامساواة ان لم يُنظم بشكل جيد.

رواية فرنكشتاين لماري شيلي (1818) تسلط الضوء على هذا المأزق – إهمال مخلوق فرانكشتاين من جانب خالقه، حين نُبذ بسبب مظهره وجيناته غير الطبيعية. هذا يُظهر تحيزا محتملا ضد الاطفال المعدلين وراثيا. اذا تم تعريف الناس طبقا لإمتلاكهم وصفة بايولوجية طبيعية، فهذا ربما يؤدي الى استبعاد مثل هؤلاء الاطفال المعدلين وراثيا وحرمانهم من حقوقهم.

قلق آخر يتعلق بخلق ذكاء صناعي بوعي مشابه للانسان او حتى يتفوق على قدرات الانسان الادراكية. اذا كانت أنظمة الذكاء الصناعي تطور وعيا ذاتيا، كيف وأين نرسم الخط الاخلاقي بين الانسان والماكنة؟

ما بعد الانسانية التي تستكشف اتحاد الانسان مع التكنلوجيا، تفترض اننا ربما في يوم ما نحمّل وعينا الى منصات رقمية، وبذلك نتغلب على نواقصنا البايولوجية وربما حتى على الموت. تجربة فكرية قام بها الفيلسوف الامريكي سيدني شوميكر تقدم منظورا حول استمرارية الهوية في مثل هذا التحميل. في هذا السيناريو، ماكنة تمسح المعلومات الشخصية من دماغ شخص وتنقلها الى دماغ آخر. اذا كانت الاستمرارية السايكولوجية تمنح هوية شخصية عندئذ فان الفرد الناتج عن هذا التحويل سيُعتبر الشخص من الدماغ الأصلي. لكن هذه هي المشكلة الرئيسية: افرض انه بينما يتم مسح دماغك ويتم خلق نسخة رقمية منك لكي تُنقل الى دماغ جديد، هناك لحظة عندما لم تكن خصائصك العقلية – افكارك، مشاعرك، وتجاربك –  نشطة ابدا. لذا، هل انت مجرد ميت؟ وهل انت فقط على وشك ان تُبعث فيك الحياة  – ام انهم فقط يعملون نسخة منك؟ الموقف يسلط الضوء على مضامين ميتافيزيقية وأخلاقية معقدة لتحميل الأذهان.

نظرا لهذا النوع من المشاكل، والعديد من المشاكل الاخرى، يستبعد العديد من مؤيدي الاستمرارية السايكولوجية للهوية الشخصية انتقالنا الى الكومبيوتر او من خلاله. هم يزعمون ايضا لكي تكون الهوية الشخصية مستمرة حقا، فان هناك حاجة لأساس مادي لا يتوقف لخصائصنا الذهنية. ان فكرة تحميل أذهاننا الى مركز رقمي ايضا يمثل العديد من التحديات الاخلاقية حول اسئلة مثل، لو نجحت العملية، كيف سيكون دماغنا وجسمنا المادي الأصلي؟ سيبرز هنا سؤال الحقوق والمسؤوليات لهذه الكائنات الرقمية. وكيف نتعامل مع خلق الحياة الرقمية او انهائها؟

هذه أسئلة أخلاقية عميقة تحتاج الى تفكير دقيق من كل من الفلاسفة وعلماء الكومبيوتر. في عالم حيث تتطور التكنلوجيا بسرعة، يمكننا ان نرى ان التحقيق المستمر في طبيعة الانسان اكثر أهمية من أي وقت مضى. وعندما نبحر في التحديات الاخلاقية والسياسية للمستقبل، فهي ليست فقط حول ايجاد أجوبة وانما ايضا حول طرح الأسئلة الصحيحة.

***

حاتم حميد محسن

........................

What does it mean to be human? Philosophy Now, Apr/May2025

في المثقف اليوم