قضايا

آية مصدق: الحرب، لعنة الإنسان الأزلية.. لماذا فشل البشر في العيش بسلام؟

لم يكن إنسان النياندرتال يعلم، حين التقط حجرًا ووجهه نحو رأس أخيه، أنه كان يبتكر أكثر الظواهر البشرية فتكًا ووحشية: إنها الحرب، لعنة الإنسان الأزلية، والظلّ الأسود الذي يلاحق البشرية ويوصم تاريخها بالدماء. إذ لم تخلُ صفحات التاريخ البشري من الصراعات والحروب، سواء في شكلها البدائي من خلال نزاعات المجموعات والقبائل، أو في شكلها المنظّم في حروبٍ ومعسكراتٍ يقودها زعماء وتخوضها جيوش منظمة. وأمام هذه الذاكرة التاريخية المشوّهة، يلحّ في أذهاننا سؤالٌ جوهري: ما السبب وراء الحرب؟ وكيف فشل الإنسان، عبر تاريخه ورغم تطوره، في أن يعيش بسلام؟

الإنسان، الكائن الوحيد الذي يشن الحروب:

تخبرنا الدراسات الأنثروبولوجية أن الحرب ظاهرة بشرية خالصة؛ فإن وُجد العنف في مملكة الحيوان، إلا أنه عنف غير منظم، لا يتجاوز كونه دفاعًا عن النفس أو رغبة في الطعام. بينما يتميز العنف لدى البشر بطابعه التنظيمي، فهو يتجاوز العنف الطبيعي الموجود لدى الحيوانات، ويحمل أبعادًا ثقافية ودينية ورمزية.

جذور الحرب والعنف في التاريخ:

ظهرت الحروب والنزعة للعنف والقتل منذ فجر التاريخ البشري، حيث لم يكف الإنسان عن اختراع وسائل جديدة لقتل أخيه الإنسان؛ بدءًا من العصي والحجارة والسكاكين البدائية، وصولًا إلى أسلحة الدمار الشامل. وتروي لنا الحفريات والمكتشفات الأثرية في مناطق مثل شمال السودان وأوروبا وجود صراعات عنيفة قامت في لحظات مبكرة من التاريخ بين قبائل وجماعات مختلفة ثقافيًا، وهو ما يعني أن هذه الصراعات كانت واسعة النطاق، ومرتبطة بظهور الزراعة وتكوّن المجتمعات الزراعية وصراعها على الأراضي الخصبة والموارد الطبيعية لكن، هل هذه الدوافع هي المحرك الوحيد لآلة الحرب؟

الدوافع النفسية: نزعة العنف كما يراها فرويد:

عندما سُئل سيغموند فرويد (بالألمانية: Sigmund Freud)‏ (6 مايو 1856 – 3 سبتمبر 1939) مؤسس التحليل النفسي، في أعقاب الحرب العالمية الأولى من قِبل ألْبِرْت أينْشتاين (بالألمانية: Albert Einstein) (14 مارس 1879 – 18 أبريل 1955)٠ عن: "ماذا يمكن فعله لحماية الجنس البشري من الحرب؟ وهل نظريته في التحليل النفسي قادرة على إيقاف التدمير والعنف في المجتمعات البشرية؟"، أجاب فرويد بكل سوداوية:

"للأسف، هذا مستحيل، لأنني رأيت جذور الحرب في طبيعة الإنسان نفسه".

تأتي هذه الإجابة كنهاية بحث علمي لتشريح ظاهرة العنف لدى الإنسان كما أجراها فرويد، حيث يقوم العنف لدى الإنسان، حسب فرويد، على ثنائية: إيروس (الرغبة في الحياة) و ثاناتوس (قوة الموت). فالأولى تقوده نحو الحياة والحب والمتعة، بينما تقوده الثانية نحو التدمير والعنف والحرب. والعنف هو السلوك الذي يُعبّر من خلاله الإنسان عن الصراع الداخلي بين هاتين الرغبتين. ووفقًا لفرويد، فإن سبب العنف ناجم عن أن الحضارات البشرية تقوم على أساس قمع رغبات الإنسان، خاصة الجنسية، ولا يعتبر الكبت قضاءً على هذه الرغبات، بل قمعًا لها، وقد تنفجر في أية لحظة في شكل ممارسات عنيفة.

وبهذا المعنى، تمثل الحروب تجسيدًا لصراع بين قوتي الخير والشر في الإنسان، وهي محاولة فاشلة في التوفيق بين حاجة الشعوب إلى السلام ورغبتها في التدمير، نتيجة لدوافع مكبوتة. فالعنف والنزوع إلى القتل، سواء بشكله الجماعي أو الفردي، جزء لا يتجزأ من التركيبة العميقة للنفس البشرية، التي تتكون من قوى لاشعورية ورغبات مكبوتة. ولعل هذا ما يفسر إقدام شخص في حالة الغضب الشديد على قتل فرد من عائلته، ثم يردد أنه فعل ذلك "دون وعي". فالغضب هو تجلّي ثاناتوس، وتحرير الوحش الذي يسكن الإنسان من سجنه. لقد قدم فرويد طرحًا نفسيًا لمشكلة العنف الإنساني، ليستقر بين ثلاثي القرن العشرين الذين بحثوا في مشكلة العنف؛ حيث كشف كارل هانريش ماركس (بالألمانية: Karl Marx) تُلفظ بالألمانية 5 مايو 1818 – 14 مارس 1883)؛ البنية الاقتصادية له، وأظهر فريدريش فيلهيلم نيتشه (بالألمانية: Friedrich Nietzsche) ‏(15 أكتوبر 1844 – 25 أغسطس 1900) البنية الأخلاقية، بينما اهتم فرويد بكشف البنية النفسية لظاهرة العنف البشري.

الدوافع الدينية للحروب، العنف المقدس:

لقد كانت الأديان جزءًا من الصراع البشري، حيث استُخدمت النصوص والرموز الدينية لتبرير العنف والقتل، وشرعنة الحرب باسم الإله.

والعنف، حسب الفيلسوف الفرنسي رينيه جيرارد (بالفرنسية: René Girard)‏ (25 ديسمبر 1923- 4 نوفمبر 2015)  في كتابه "العنف والمقدس"، لم يكن مجرد سلوك بشري عبثي، وإنما طقس مقدّس، تُقدَّم فيه القرابين ككبش فداء، بحيث يُحمَّل فرد أو جماعة معينة مسؤولية العنف الجماعي، فتُقدَّم التضحية بها لضمان الاستقرار والنظام.وبالتالي، ترتدي الجريمة والعنف رداء القداسة.وإن التاريخ شاهد على ظاهرة الحرب المقدسة؛ من الحروب الصليبية، إلى حرب الثلاثين عامًا، إلى حروب السنة والشيعة. كما تعبّر  مسلة النصر "لنارام سين" المنحوتة على حجر الديوريت الوردي، والتي يعود تاريخها إلى العهد الأكادي، عن الحرب المقدسة؛ حيث تُظهر الملك الأكادي وهو يدوس جثث الأعداء تحت حماية الآلهة. مما يدل على أن الشعوب والحضارات الغابرة فهمت أن الحرب تحتاج إلى شرعية أكبر من الأسباب الدنيوية، فلجأت إلى خلق جدلية السلطة والإله، التي استغلتها الشعوب التي جاءت من بعد.

الدوافع السياسية والاقتصادية: أطماع الهيمنة والأسواق:

مع تطور المجتمعات البشرية، ظهرت دوافع جديدة للحرب تجاوزت الدين والثقافة، وهي الدوافع السياسية والاقتصادية. فقد أصبحت الحروب وسيلة لإعادة رسم خرائط النفوذ، والسيطرة على الموارد والأسواق. فالأنظمة السياسية تستغل الحرب كأداة لترسيخ سلطتها، بينما تسعى القوى الاقتصادية إلى تأمين مصالحها من خلال التدخل العسكري المباشر أو غير المباشر.

وهكذا تحوّلت الحروب الحديثة إلى صراعات مصالح مموّهة بشعارات التحرير والديمقراطية، فيما تكمن خلفها رغبات السيطرة والهيمنة. وهو ما أشار إليه كارل ماركس الذي اعتبر الحروب امتداد لصراع الطبقي، حيث تتحكم البرجوازية العالمية بمصير الشعوب الضعيفة وتقحمها في بوتقة الحرب لضمان التحكم فيها والاستفادة من مواردها الطبيعية ومواقعها الاستراتيجية وهو ما فعتله الولايات المتحدة الأمريكية عندما تدخلت في العراق وافغنستان بدعوى نشر الديمقراطية والحرية، إلا أن غايتها الحقيقية كانت تأمين مصادر النفط وتغير خارطة الشرق الأوسط بما يخدم مصالحها.

الثورة الصناعية: عصر الآلة والموت الجماعي

 مع اختراع البارود وتدشين عصر الآلة، تغيّر وجه الحرب من صراع تقليدي بالسيوف والرماح إلى جحيم تقني يُدار من المعسكرات والمصانع، وينتج الموت على نطاق واسع. ٠وقد تُرجم هذا التحول في الحرب العالمية الأولى (1914–1919)، التي وُصفت بأنها أول حرب ميكانيكية في التاريخ؛ حيث شكلت المدافع، والدبابات، والغازات الكيميائية، وحروب الخنادق، رموزًا جديدة لقتل مبرمج جاء نتيجة تغوّل الآلة، يقول الفيلسوف الألماني فالتر بنيامين (15 يوليو 1892-26 سبتمبر 1940)،: "الحرب الحديثة هي النتيجة الحتمية لتقنية لم تعد تخدم الإنسان، بل تسيطر عليه."

لم يمضِ وقت طويل على انتهاء الحرب الأولى، حتى انفجرت شرارة الثانية ببارود ألماني نازي، وبتوقيع أدولف هتلر، الذي أعاد شبح الحرب على أساس الانتقام التاريخي لألمانيا، والقومية المتطرفة، والانتصار للعرق الآري. لتتكرر المأساة بشكل أكثر وحشية ودمارًا، كُتبت سطورها الأخيرة في عام 1945، عندما أُلقيت قنبلة نووية بحجم كرة القدم على مدينتي هيروشيما وناجازاكي، فسوتْهما بالأرض، ليصمت العالم في صدمة أمام الرعب النووي.

القرن الواحد والعشرون: الحروب اللامرئية

لقد أصبحت الحروب في القرن الواحد والعشرين لامرئية، إذ فقدنا حتى القدرة على رؤية قاتلنا في لحظاتنا الأخيرة، بسبب تقنية الطائرات بدون طيار، التي تُدار من قواعد تبعد آلاف الكيلومترات عن ساحة المعركة. كما ظهر نوع جديد من الحروب: الحروب السيبرانية، التي تستهدف البنية التحتية الرقمية، والبيانات الدولية والشخصية، وهو ما يعيد تشكيل وجه الحرب في عصر ما بعد الحداثة.

تلك الحرب التي أصبحت أكثر "نظافة" في ظاهرها، فقد تخلّص المتحكمون في تقنيات الذكاء الاصطناعي والأقمار الصناعية من الدماء التي تُسببها المواجهة المباشرة، لكنهم في المقابل أغرقوا ضحاياهم في شلالات من الدماء لا آخر لها.

مثلما يحدث الآن في مدينة غزة الفلسطينية، التي أصبحت منطقة منكوبة، ومختبرًا دمويًا مفتوحًا يُجرَّب فيه الأسلحة الحديثة وتقنيات الذكاء الاصطناعي في تحديد الأهداف البشرية، تحوّل بمقتضاه الغزاويون إلى مجرد إشارات حمراء على شاشة، وأرقام في سجلات الموتى. والأكثر بشاعة من ذلك كله أنه يُبرر هذا العنف تحت شعار "الحرب على الإرهاب"، ذلك الشعار الفضفاض الذي تستخدمه القوى العظمى والاحتلال الصهيوني لتبرير الحرب على غزة والشرق الأوسط، بينما يختبئ خلفه قتل ممنهج تُديره خوارزميات وتبرره أهداف استعمارية.

في الختام، لقد أصبح الإنسان، المحكوم بثنائية إيروس وثاناتوس حسب فرويد، يمتلك أقوى الأسلحة وأشرسها، والتقاء السلاح مع غريزة الشر والتدمير، لا يمكن أن يؤدي إلا إلى مزيد من الدمار والقتل. فالحروب عبر التاريخ، بمختلف أشكالها وأسبابها وأسلحتها، مرورًا بالعصا وصولًا إلى الطائرات المسيرة، ما هي إلا الوجه الآخر للبشرية، الوجه الأكثر وحشية وظلامًا، تتحكم فيه نوازع الشر والهيمنة والرغبة في التملك والسيطرة.

لكن، لا يزال بالإمكان التخفيف من وطأتها، عبر تأسيس أرضية للحوار، وتعزيز القيم الإنسانية، والإيمان بالمصير البشري المشترك.

***

آية مصدق- تونس

 

في المثقف اليوم