قضايا

خالد اليماني: سوانح فلسفية (5)

في أغلب الثقافات الإنسانية على مر العصور، ومن خلال المؤثرين في تلك الثقافات المختلفة، تكوَّن ما نسميه اليوم بالعربية: الصلاة! وهو كما هو معلوم مفهوم متطور حتى عند العرب، الأصل لغةً: الدعاء، ثم القرآن والنبي عليه السلام اضفيا عليها دلالة جديدة، وهي العبادة والطقس الإسلامي المعروف.

ولعل الفهم الأعم لهذه الكلمة بشكل موضوعي، كما نفهم نحن اللغة العربية، كوننا عربًا درسنا في مدارسها، وقرانا من أدبياتها وتاملنا كلماتها، أنها تعني الإتصال.. والإتصال من المعلوم أنه بين جهتين، وفي هذا السياق بين المخلوق (العبد) والخالق (الرب) بلغة الدين الحنيف. وهذا المعنى العام للكلمة، إذا تأملناه قليلًا، يُجسّد ويشمل المعنيين الأوليين.

تحدد تصوراتنا عن العالم، ودلالات اللغة، حدود التجربة؛ سواءً كانت روحية أو عاطفية، أو أي تجربة حياتية عميقة أخرى كتجربة الحب أو الصداقة، وغيرهما.

وهذه الحدود ليست حدود العقل، ولا هي حدود التجربة، إنما هي حدود التصورات ذاتها، وحدود الثقافة المرحلية، وقصور الخيال بلا أدنى شك.

المتأمل في هذه الحياة القصيرة، يدرك تمامًا أن كل ما نقوم به في هذا العالم هو عبارة عن صلاة، أي عبارة عن محاولة للإتصال، بدرجات متفاوتة وجوديًا بحسب طموحنا الروحي وجاهزيتنا الفلسفية للتعاطي مع العالم أجمع بالشكل الذي هو؛ أي بصفته مدهشًا!

وهذه التصور الواعي عن الوجود، المتزمن «في- الآن»، تتراءى فيه كل التجاوب صلوات! وحينها تصبح كل السلوكات باعثة على التأمل والخشوع، ورؤية كل الموجودات بروح المطلق الباعث لها إلى الوجود، كرؤية اللحظة الآنية بوصفها سرمديّة.

هذا النوع من الحضور الوجودي يجعل من تجربة الإنسان بكل أوجهها، خشوعًا وصلاةً وحجًا وزيارةً لبيوت الله. فيصبح الحديث مع صديق صلاة، أو السماع للموسيقى أو السكوت في الليل لا من أجل هدف، والقراءة والكتابة، حتى النوم، ولم يسمّه الإنسان "خلودًا" عبثًا. بل أن كل تجربة الإنسان هي في جوهرها نزوع إلى الخلود!…وكل ذلك صلاة!

ولا ننسى نصيب التجارب المؤلمة من صلاتها بالمطلق، وكل التجارب الوجودية العميقة التي تمثل جسرًا بين التجربة في إطار الثقافة، وضمن حدود اللغة، إلى التجربة-في-الوجود. التجاوب الوجودية الصافية من كل المقولات المسبقة المختزلة لكثافة فضاء التجربة الوجدانية.

عندما تصبح كل حركاتنا وسكناتنا صلاة، وحين يكون الخشوع هو المنطلق الدائم والطبيعي في تعاطينا مع العالم، تصبح كل تجارب الحياة آياتٍ يخشع لها الإنسان تارةً باكيًا، وتارةً أخرى ضاحكًا أو غاضبًا أو حزينًا، والمرور بهذا المخاض الوجودي الضروري، هو ما يُولّد ما يسميه الإنسان بالخلاص، أو على أقل تقدير الإحساس به، كما هو حال العارفين وأهل البصيرة في كل زمان.

***

خالد اليماني

في المثقف اليوم