قراءة في كتاب

رغيد النحّاس والبدْر وأفكار في زمن فيسبوك

35 رغيد النحاصبعد إصداره أحد عشر كتابا في أستراليا، توزعت بين التأليف والترجمة، وأربعة وعشرين عدداً من مجلّة "كلمات" للكتابة الخلاّقة بالعربيّة والإنكليزيّة، أطل علينا الدكتور رغيد النحّاس مؤخراً بكتاب جديد من أعماله صدر باللغتين العربية والإنكليزية ضمن منشورات "كلمات" في سدني، حمل عنوان "بدْر"، وضم 96 قصيدة نثر، قدمت قراءة لها الشاعرة والمستشارة الأدبية الأسترالية ليات كيربي، مؤكدة أن فلسفة الحب وماهيته القاطعة، وما يجب أن يتطلب من الأحبة، تتمثل لدى النحّاس في التناظر الإعجازي بين الطبيعة والكون. ولهذا، فكل الأشياء ذات صلة ببعضها الآخر، أو يمكن أن تتحقق هذه الصلة إذا توفرت الإرادة لدى البشر.

وهي إذ ترى أن الثمار المتوخاة للنحّاس فيما كتب، هي أن يكون الكل في الواحد، والواحد في الكل، وأن يبقى الحب الأصيل حبّأ سرمدياً، في وجوده الدنيوي، كما هي سرمدية مدار القمر، فإنها ترى في جانب مواز أن القصائد مكتوبة بمزيج من العاطفة والعزم اللذين يضخان الحياة في جوهر الأشياء، مع الكثير من الظرافة، وحضور دائم للذهن الذي يصور الكل في لوحات راقصة.

عندما ننتهي من قراءة النصوص، نجد أنفسنا متفقين إلى حد بعيد مع ما ذهبت إليه الشاعرة كيربي، في ضوء قراءتها لهذه المجموعة التي تعتمد التكثيف والإيجاز، وتتزين صفحاتها بتسع صور فوتغرافية بالألوان، التقطتها عدسة الدكتور النحّاس، و جاءت متناغمة مع النصوص، لتشكل تجانسا إبداعيا مفعماً بالقدرة على الإدهاش والإيحاء المؤثر، هذا إلى جانب صورة بالأسود والأبيض، التقطها لمجلس الشعب السوري 1966، ونشر على الصفحة المقابلة لها نصاً قصيراً، له أبعاده العميقة بالنسبة للانتماء والاغتراب الفكريّ والماديّ. يقول:

دمشق و "بدْر" حبيبتي

امرأة واحدة؛

تحبّني لكنّها لا تريد

الوقوع في غرامي ...

حملت المجموعة عنواناً فرعياً باللغة الانكليزية هو"أفكار في زمن الفيس بوك". وعندما نقرأ المجموعة نجد أن موقع التواصل الاجتماعي هذا، كان من محفّزات كتابتها، ولكن الأهم من ذلك،أن نصوصها عكست بين طياتها تجارب حياتية لها خصوصياتها ومغازيها في الحب والحياة، وتمحورت حول مقارنة قصّة الحب نفسها بين قرنين من الزمن، مع ما ينتج عن وسائل الاتصال، من البريد التقليدي إلى الإلكترونيّ، من تأثير على تطور العلاقة. وتصير القصّة مداراً شمولياً تنعكس فيه ومن خلاله عواطف وأفكار، تنطلق من الحب إلى آفاق أرحب، وتتلخص الأزمنة والأمكنة والأحداث في امرأة تغدو محوراً للحياة ومحوراً للكون، تدور حول الأشياء، وتدور الأشياء حولها.

في تقديمه المركّز للمجموعة، يعبر الدكتور النحّاس عن قناعته بأن وجه "فيسبوك" سيتغيّر بعد أربع وأربعين سنة من الآن، كثيراً، بل ربّما سيزول بشكل كامل. ويقدّم لنا بطل قصّة الحب بالضمير المتكلّم، وكيف أنه سبق أنْ تعرف قبل مثل هذا القدر من السنين، على إنسانة تكبره بثلاث عشرة سنة، يوم كان تلميذاً جامعيّاً في العلوم، وكانت هي أستاذة في الفلسفة، وكيف كان اهتمامهما المشترك بالشعر يقرّب بينهما، على الرغم من أنّهما كانا يعيشان في بلدين مختلفين، تراسلا شهوراً عديدة، ثم انتقلت هذه الانسانة للعيش في مدينته نفسها، والتدريس في الجامعة التي كان يدْرُس فيها.

ولايخفي علينا أن ذلك تبعته علاقة حبّ عارم وفّرت لبطل قصّة الحب أجمل أيّام حياته، وأن تلك المرأة كانت توأم روحه، صديقته، وحبيبة عمره. لكنْ، وفي أحد أيّام عيد الحب، أنْهَتْ علاقتهما. ذهب لزيارتها ومعه باقة من الورد الجوريّ لتُعْلِمه أنّ كلّ شيء انتهى بينهما. واليوم، وبعد مرور أربع وأربعين سنة، لا زال يعاني من خسارتها. كلّما استخدم فيسبوك، أو ماسنجر، أو سكايب، يتذكّر عذاب انتظار رسائلها التي كانت تصله بالبريد التقليديّ. ويسأل نفسه أيضاً: "كيف يمكن أنْ تبدأ علاقة وتنتهي خلال أسابيع، مقارنة مع بضع سنين، بفضل التقانة الحديثة؟"

ونجده يلقي أضواءً أكثر على هذا الموضوع، في نص نثري نشره على الصفحة 16 تحت عنوان "واحد بالبليون"، يشير فيه إلى أنه كان يتصفح ذات يوم صفحة فيسبوك عائدة لصديقة محترمة، وأراد أن ينقر علامة استحسان لما قرأ، فلاحظ أن المنشور حديث العهد، ولم يعلق عليه، أو يستحسنه أحد بعد، فتأهب لأن يكون أول من يقوم بذلك، وكان سعيداً حين سارع إلى نقر أيقونة "لايك". ولكن يا للعجب! في اللحظة عينها التي ظهر فيها اسمه على أنه أول الناقرين، ظهر إلى جانبه اسم حبيبته منذ أربع وأربعين سنة، التي طالما اعتبر أن حبهما، الذي أضاعته، كان فرصة واحد بالبليون.

وينهي هذا النص النثري بقوله: "بإمكانكم تصور دهشتي حين كنت أتوقع أن اسمي سيظهر لوحده لكنني رأيت الاسم الآخر يتوهج لحظة قبل أن يستقر الاسمان سويا جنبا إلى جنب. سرني أن كلينا كنا نقرأ ونحب الكلام نفسه. هل أقول إن فيسبوك وفر لنا فرصة أخرى من بليون فرصة؟"

أصبحت هذه المرأة جسده وسجنه، وهكذا نجده مع اعتذاره من أبي العلاء المعري في مقدمة نص حمل عنوان "رهين المحبسين" ، يخاطبهابقوله:

لبستكِ على جسدي جلداً،

صرتُ منه أتنفس.

وأستنشقَ ذهني روحكَ شغفاً

زاوَجَت روحي،

فصرت رهين محبسين:

أنا وأنتِ ...

سامحني أبا العلاء إن كان محبسي

حسناء من لحمٍ ودمْ،

فيها أرى الوجود ولا

ألزم منزلاً

ومع حرص المبدع النحّاس على أن تكتفي قصائد المجموعة بنفسها، دون حشو، أو ترهل، أو استطراد لا ضرورة له، نجد بينها ست قصائد تألفت واحدتها من شطرين فقط، دون أن يطلق عليها تسميات مثل "قصيدة الومضة"، أو "هايكو". ومنها قصيدة بعنوان "الفجر" جاءت كالتالي:

تستيقظين في ذاتي،

فيكتسب الفجر لوناً آخر

وفي نهاية المجموعة تأتي "الخاتمة" على شكل قصيدة قصيرة تعبر عن استمرار لوعة الفراق القاتلة، ولكن، ومن سخرية القدر، أنّ ما يبقيه مستيقظاً هو حلم مستمر بالأمل، رغم أنّه "الميْت الحيّ". وجدير بالذكر أنّ النحاس استعمل تعبيراً إنكليزيّاً، من استنباطه،لم يستعمل من قبل – حسب علمنا -، ليكون عنوان النسخة الإنكليزيّة لهذه الخاتمة (مقابل "المَيْت الحيّ"): "Dead-in-Waiting". وهذه ليست المرّة الأولى التي يأتينا فيها بتعابير مبتكرة.

ويخبرني النحّاس أنّه أحياناً يكتب بالإنكليزية أوّلاً، وأحياناً بالعربيّة. بعد ذلك يكتب الأفكار نفسها باللغة الأخرى، ولهذا لا يمكن اعتبار أنّ كلّ نسخة هي مجرّد ترجمة عن اللغة التي كتبت القطعة فيها أصلاً. ويعتبر النحّاس أنّ هذه الطريقة، على كلّ حال، هي المثلى في النقل الأدبي من لغة إلى أخرى، إذا أردنا اعتبارها ترجمة.

الغلاف والتصوير والتنضيد والإخراج كلّها من أعمال النحّاس، ما يتناسب مع أفكاره التكامليّة في معالجة القيم الحياتيّة التي يريدها متكاملة كما البدر، رغم حبّه للهلال ولنصف القمر كما خبّرني.

في "بحيرة لوغانو" يقول:

تظهرين هلالاً أو نصف قمر حيناً

لتطمئنيني أنّك لا زلت هناك.

ومع أنّك في ذهني دوماً،

وتسكنين روحي،

سأنتظر اكتمالك.

فأنا الذي يريد كلّك.

 

خالد الحلّي – ملبورن

في المثقف اليوم