قراءة في كتاب

ناجي ظاهر: تأملات في جوهر النقد الادبي

يقوم الكاتب الفرنسي فابريس تومريل. في كتابه النقد الادبي. بجولة مُثرية ومغنية في مملكة النقد الادبي. مستعرضًا العديد من المدارس النقدية وآراء النقاد والكتاب الفرنسيين خاصة. ترجم الكتاب الاستاذ الجامعي الكاتب الهادي الجطلاوي وصدر عن دار التنوير للطباعة والنشر. في تونس. عام 2017. وهو مُوجّه للطلاب الجامعيين وعامة القراء. لهذا يغلب عليه الطابع التعليمي البيدادوجي. ويقول مترجمه إنه نظرًا لطبيعته العلمية، حرص في تعريبه له على توخي التأني في العمل والوفاء بالمعنى في أدق جزئياته مُراعيًا في أداء المعنى روح التركيب العربي وخصائص الجملة العربية.

يصول مؤلف الكتاب ويجول متنقلًا بين المدارس النقدية الفرنسية وأعلامها البارزين أمثال جيرار جينيت ورولان بارت، معرّفًا بهذه المدارس وما قدّمته لعالم النقد الادبي. يزيد في قيمة تنقّله هذا أنه يقدّم في الصفحات الاخيرة من كتابه البالغ عدد صفحاته 368 صفحة من القطع المتوسط، تعريفات مباشرة وواضحة لكلٍّ من المدارس الادبية التي تحدّث عنها في كتابه.

مؤلّف الكتاب يتوقّف عند ثلاثة أصناف رئيسية من النقد ذي النفوذ في الادبي الفرنسي، في النصف الثاني من القرن العشرين خاصة. هي النقد الصحفي. النقد الجامعي ونقد الكُتاب. رائيًا أن النقد الصحفي هو الاشد تأثيرًا في الحياة الأدبية، لا سيّما وأن هناك الكثير من الجامعيين المثقفين الذين عملوا في مجال النقد الصحفي أمثال سانت بف وبرونتير وتيبودي، ويتوقّف مطولًا عند تقسيم قوتيه للنقاد إلى أربعة أصناف. أولها الصحفيون الاخلاقيون، الناطقون بالوعظ الجميل والذين لا يتردّدون في إقامة شخصية الكاتب مقام أثره الادبي، وهؤلاء يعطون بعض القيمة لكتاباتهم الفضائحية التعيسة المُرتجلة الذين يعرفون أنه لن يقرأها أحد لو لم تتضمّن إلا آراءهم الشخصية. الصنف الثاني هو الصحفيون الصالحون الذين يريدون وضع الكتاب في خدمة تطوّر البشرية. والصنف الثالث هو الصحفيون اللامبالون، وهم اولئك الذين رأوا و أرادوا وأدركوا وأحسوا كلّ ما يمكن رؤيته وإدراكه وإحساسه وسمعه. اما الصنف الرابع والاخير هم الصحفيون المنقبون، وهم اولئك الذين، بدعوى الانصاف، يرفضون كلّ اثر جديد ويلقون بالأثر الجيّد في مستقبل غير مضمون، وينقل المؤلف في هذا السياق رأي الناقد ايريك فاي وهو، انه على النقاد أن يقوموا حاليًا بدور الوساطة ما بين الكاتب والقارئ، وان يسمعوا، من وراء صخب وسائل الاعلام ذات الاستهلاك العمومي، أصواتًا ذات نبرة طريفة.

بعد هذا يتوقّف المؤلف عند الذنوب التي يتهم بها النقد الصحفي وهي، البخل والكسل، الجشع، الشبقية، الكبرياء، العصبية، السطحية، الانحياز والتنميط، وضعف الثقافة.، وفيما يتعلّق بالذنب الشبقي ينقل المؤلّف عن ميشيل بوتور قوله إن النقد الصحفي للأدب مرتبط أشد الارتباط بالأدب التجاري، إنه يعمد عرضا، إلى مراقبة الوصفة أو تركيبة المواد، مثله مثل إدارة المراقبة لإنتاج مشتقات الحليب أو الانتاج الصيدلاني. فيما يتعلق بذنب الكسل يوحي المؤلف أن النقد الصحفي عادة ما يكون صدى للقيم الثابتة للكتّاب المعروفين وللأعمال الكلاسيكية ولأحسن المبيعات، بدلا من السعي لاكتشاف المواهب الجديدة.

الصنف النقدي الثاني الذي يتوقّف عنده المؤلف هو النقد الجامعي، عن هذا الصنف يقول إنه لئن سخر رولان بارت من بطء النقد الجامعي، فان قراك يعيب عليه عيبًا أعمق هو رغبته في تفسير ما ليس قابلًا للتفسير، أما قومبرويتز فقد ندّد بالطابع العلمي المزعوم للنقد ويُحمّل الجامعة مسؤوليته. يقول للحقيقة نقول إن أساتذة الجامعة، مثل غيرهم من العلماء، يشبهون السمكة التي تخرجها من الماء، فكلّ واحد منهم، يموت حالما تُخرجه من اختصاصه، وينقل المؤلف في هذا الصدد قول برينير وهو إن الجامعيين هم أساتذة الكلام النقدي الفارغ، إنهم اولئك الذين يعذّبون اللغة الفرنسية بتغيير دلالة الالفاظ والتلاعب بها.

الصنف الثالث من النقاد الذين يتوقّف المؤلف عندهم هم الكتاب الذين دأبوا على السُخرية وحتى الهجوم على النقاد. وهنا ينقل المؤلف عددًا من الاقتباسات عن الكتاب الذين هاجموا النقاد. منهم جي دي موباسان، الذي وضع في تعبير مجازي، الخط الفاصل فصلًا قاطعًا بين المعرفة وصناعتها، وبين مَن يعرف ومَن يصنع وبين الملاحظ والمبدع. يقول، هل يكفي أن ترى قاطرة تسير حتى تمتلك معرفة الهندسة، إن الناقد يظن أنه عرف ما فيه الكفاية بمجرد أنه رأى قطارات عديدة تمر. اما قويتي كما ينقل المؤلف عنه، فإنه يقول، في هذا السياق، إن الناقد يصنع مقالات طويلة فارغة ومملّة حتى يتخلّص مِن كلّ المعرفة التي جمعها، قبل يوم، في مكتبة من المكتبات. يقول المؤلف إن الكُتّاب يلحّون بشدة على دناءة النقاد الكبرى، فيرون أن النُقّاد لا يتحمّلون مسؤولياتهم وذلك لأنهم واعون أن مقالاتهم تكتسي طابعًا زائلًا وأن أخطاءهم سرعان ما تقع طي النسيان، وهم، بالإضافة إلى ذلك، لا ينتقدون الكاتب "النبي"، بقدر ما ينتقدون الكاتب المتأخر ويمدحون الاقوياء وينتقدون المجهولين. كما قال بودلار.

***

مَن هو الناقد.. ينقل المؤلف عن جان بلمان. تعريفَه للناقد في مقال نشره عام 1995. هو أن الناقد ليس قارئًا مثلَ سائر القراء. إن الناقد هو ذلك القارئ الذي يدوّن نتائج قراءته حتى يتسنّى لغيره مِن القراء ممن يكونون متعجّلين أو غير متفرّغين تفرّغه في دراسة النص أن يجدوا فرصة لقراءته قراءة مغايرة. بعبارة أوضح، أن يقرؤوه قراءة أفضل وأثرى. إن الناقد مُعالج وهو مُبلّغ كذلك وفق مصطلح رولان بارت، وهو أشبه ما يكون بصفيحة حساسة تنفعل لكلّ ما تقرؤه، كما أنه يُعيد تقييم الاثر لمعاصريه، إنه مزوّد بقدرة كبيرة على العطاء سواء كان كاتبًا صحفيًا أو أستاذًا. أما مهمة الناقد فإنها تتمثّل في مراجعة تاريخ الادب مراجعة دائمة لتحيين النصوص الكلاسيكية، وإعادة اكتشاف الكتاب المغمورين، وذلك بإلقاء كُتاب آخرين طي النسيان، إن الناقد. يشارك من خلال المحاضرات التي يلقيها والحصص الاذاعية والتلفزية التي يشارك فيها، يشارك ويساهم في تحقيق النجاح المادي والمعنوي للأعمال الأدبية، إذ يمكنه أن يساهم في رفع حجم المبيعات وفي شهرة الكاتب كذلك، بل حتى في الاعتراف به مؤسساتيًا بمجرّد أن يكون الناقد عضوًا في أكاديمية من الاكاديميات أو لجنة من لجان الجوائز الادبية.

يؤكد المؤلّف في مطلع كتابه أن النقد يؤسّس السلاح الاقوى ضد القراءة الساذجة والاستراتيجيات التجارية وذلك لأن النقد جزء لا يتجزأ من أهم النظريات الجمالية والفلسفية ولأنه يُمنهج تعليمنا ويعلّمنا فنّ القراءة، بعبارة أخرى، لأنه يرتقى بنا إلى المعنى بأن ينقل إلينا المعارف التقنية الضرورية والقوانين والسنن الخاصة بكلّ جنس وبأن يوفّر الادوات التي تسمح لنا بتنزيل الاثر في علاقته بكاتب معيّن ومجتمع معيّن أو عصر مُعيّن.

***

يتعرض المؤلف في كتابه بشكل مركز إلى ما شهده التاريخ النقدي الادبي من تطوّرات ويرى أن النقد تطوّر منذ الكلاسيكية، التي اثرت التقعيد الادبي، إلى فضاءات حافلة بالتحرّى العبقري، كما يتحدّث عن الوضع المُقلق للكتاب في عصرنا. يقول إن الاعلام والاشهار قضيا اليوم على النقد سواء كان في صورته الحقيقية أو المقنعة، وهذا ما يفسّر إغراق السوق الادبية المتنوعة بالكتب، مضيفًا إنه بصرف النظر عن البحوث النقدية الحقيقية التي لم تعد تُنشر إلا عند بعض صغار الناشرين، فإن عددًا وفيرًا من الكتب المدرسية قد حلّ محلها متوجّهًا إلى جمهور التلامذة بل حتى الطلبة بغرض الاعداد للبكالوريا وغيرها من الامتحانات، ويشير المؤلف إلى حدث بدا مُقلقًا في هذا العصر المُناهض للثقافة، هو انسحاب الأدب تدريجيًا من وسائل الاعلام، وحينئذ ما الذي سيبقى من النقد الادبي.. إذا كانت الروح النقدية والادب قد أخذت طريقَها للاضمحلال.

***

كتب: ناجي ظاهر

في المثقف اليوم