قراءة في كتاب

علي حمدان الرئيسي: عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو عن الحقل الجامعي

BOURDIEU HOMO ACADEMICUS

(لأننا نملك القدرة على التفكير بحرية وفهم العديد من الأشياء، فسيتم إبعادنا بشكل منهجي عن طريق فيلترة النظام الاكاديمي التعليمي والمهني المحكمان للغاية. نظام يدمر الأشخاص المستقلين والذين يفكرون بأنفسهم، والذين لا يعرفون كيف يكونون خاضعين)... نعوم تشومسكي

في هذا العمل المميز لبيير بوردو، محللا النظام الاكاديمي اوالحقل الاكاديمي اذا اردنا استعمال مصطلحات بوردو الذي عرف بتطويرها،  يقدم لنا دراسة عميقة للحياة الفكرية المعاصرة. الحقل الاكاديمي ليس فقط عالم للحوار والتعلم وانما هو مجال لممارسة السلطة حيث يتم بناء السمعة الاكاديمية والمهنية ويتم الدفاع عنها كما يتم تدميرها.

يقوم  بوردو بفحص الخلفيات الاجتماعية لزملائه الاكاديميين وانشطتهم الفكرية، من فوكو، ودريدا، ولاكان، والتوسير، وديلوز، الى شخصيات اقل شهرة ولكن ليس اقل نفوذا. يقوم بوردو بتحليل خلفياتهم الاجتماعية ومناصبهم الحالية، وعدد البحوث التي نشروها، واي دار نشرتها، علاقاتهم بالمؤسسات، ظهورهم الإعلامي، وعلاقاتهم السياسية الخ.

هذا يمكن بوردو من رسم خارطة للحياة الفكرية في فرنسا، وليقوم بتحليل راس المال الثقافي والسلطة، خطوط الصراع وانماط التغيير الذي يسود الحياة الجامعية في فرنسا.

هذا الكتاب يرسم صورة واضحة وديناميكية للحياة الفكرية في فرنسا، ويطور منهج عام لدراسة الثقافة والتعليم. انه كتاب مهم لطلبة وعلماء علم الاجتماع، والتعليم، والسياسة، ولأي شخص مهتم بدور المثقفين في التعليم العالي.

بيير بوردو(عالم اجتماع فرنسي) يجادل بان الميول السياسية للأشخاص تعتمد على وضعهم الوظيفي في المجال الاكاديمي، وليس عكس ذلك. مميزا بين ثلاث مستويات تراتبية من مجالات السلطة، فهو يضع المجال الاكاديمي في الوسط بين الحقل السياسي والحقل الاجتماعي. مفترضا تسلسلا هرميا لأعضاء هيئة التدريس، أولئك في اعلى السلم هم الاقرب الى السلطة السياسية. يدعم  بوردو حججه معتمدا على بيانات تم جمعها من مصادر عامة متاحة تم تقديمها على هيئة جداول.

أساتذة الجامعة، يجادل بوردو بانهم تابعون في مجال السلطة لمدراء الصناعة والاعمال، ولكن رغم ذلك "فهم يتميزون  مؤسسيا بامتلاكهم لراس مال ثقافي"، وبالتالي هم مهيمنون ثقافيا على فئة الكتاب والفنانين. هؤلاء الاكاديميون الذين في قمة الهرم الاجتماعي، يمثلون نسبة اعلى من مؤشرات حالات الاندماج الاجتماعي والمقبولية.

يزعم بوردو، ان هناك مبدأين متناقضين في التسلسل الهرمي الذي يسود مجال التعليم الجامعي: الهرمية الاجتماعية (Social Hierarchy )، تلك التي تعزى الى راس المال الموروث والى راس المال الاقتصادي والسياسي الذي يملكه هؤلاء، وهو ما يتعارض مع التسلسل الهرمي الثقافي المحدد في الهرمية الثقافية، المتوافقة مع مرجعية راس المال العلمي والشهرة العلمية.  

في دراسته هذه، يعرض بوردو الاكاديمي للقراء على أساس انه موضوع (Object). وذلك من اجل التأكيد على ان السلطة الاكاديمية وادعائها بالموضوعية ليس امرا متأصلا في الافراد، وانما تعود الى عملية بناء اكاديمي على محددات  معينة يتصف بها الباحث، والمرتبة التي يشغلها في الحقل الجامعي. ان الحقل الجامعي الذي يتصف بالتراتبية الهرمية، هو نتاج لمواقع السلطة، او راس المال الاكاديمي، او الوجاهة، التي يحصل عليها الباحث ويحافظ ويدافع عنها من خلال المنصب، هذا المنصب الذي يهيمن  على المناصب الأخرى. بالإضافة ان هذه السلطة الاكاديمية يتم المحافظة عليها عن طريق اختيار دقيق، وعملية تطويع مصاحبة لها. هذه العملية تتم عن طريق الاختبارات والمتطلبات المتنوعة المطلوب اجتيازاها، وكذلك كتابة اطروحات يجب ان توافق اهواء الاكاديميين المهيمنين المرتبطين بسلطة القرار.

بوردو يناقش أيضا كيف ان المجال الجامعي يعيد انتاج نفسه. الية خاصة تحافظ على نزاهة المؤسسة، بما فيها المحاباة، ووسائل الاستقطاب، والتي دائما تهدف الى اختيار الرجل "الناجح" الذي يتم اختياره بصورة مختلفة من قبل الممارسين للمهنة.

المشرفون المهمون، الذين يشرفون على تطور طلابهم، ويضمنون ان طلابهم يحترمون حقل الجامعة" قانون الخلافة" يملكون سلطة الغاء او الموافقة على العمل الاكاديمي لطلبتهم، مهنته، وسمعته كأديمي رسمي. لذلك على الطالب ليتطور في عمله الاكاديمي، وليراكم راس ماله الاكاديمي عليه احترام امر التراتبية في المجال الجامعي، وعليه ان يتكيف، ويتبنى الخصائص، او الصفات المقررة من قبل مشرفيهم و من قبل الاكاديميين في مجالهم. الخصائص التي على الاكاديمي الناشئ اتباعها تم اختصارها من قبل بوردو في مفهوم ما يسميه بالهابتس (Habitus ): " هو نظام اجتماعي مشترك وهيكل معرفي يولد الادراك والتقدير والافعال". هذا النظام ، الذي يقوم الطلبة والأساتذة بالحفاظ عليه من خلال الالتزام بالهابتس المقرر، ولارتباطه بالراس المال الاكاديمي ضمن التسلسل الهرمي في الجامعة، والذي تعزز من ديمومته هيكلة السلطة في مجال الجامعة.

هذه الأمثلة حول علاقات السلطة في مجال الجامعة ماهي سوى جزء من النمط الهيكلي. الا ان السعي نحو اختيار مشرف، والقيام بنجاح في تحقيق المتطلبات الاكاديمية، وذلك في سبيل الحصول على راس المال الاكاديمي وللاعتراف الاكاديمي الرسمي، هناك عملية معروفة ومقبولة من قبل الباحثين، والتي يجب الاخذ بها بجدية. "للقراء الذين استثمروا في الحقل الاكاديمي، وبطريقة لا واعية"، كما يجادل بوردو، فانهم اعتمدوا الهبتوس في مجال التعليم الجامعي، وانخرطوا مهنيا في المجال الاكاديمي يمكن لهم بوضوح شرح كيف ان السلطة، وعملية الامتثال، تعطي وتشرع مهنة الاكاديمي وتميز تراتبيته ضمن الجامعة. والأكثر أهمية هنا تأثرعملية انتاج المعرفة والتي هي المهمة المركزية في عملية التقصي لدى بوردو ومحاولته "لوقف عملية انتاج المعرفة من ان تكون أداة للسلطة".

ان هيكل السلطة في المجال الجامعي، وتبني الهابتوس في المجال الاكاديمي الذي انتج وشرعن امتثال الباحث سلبيا، والتي اثرت على الإنتاج المعرفي، من المحتمل ان تعيق عملية البحث العلمي، حيث ان الباحثون عليهم الحصول على راس المال الاكاديمي الذي يؤهلهم للقيام بأبحاثهم المعينة ويتمكنوا من نشر بياناتهم في المجتمع الاكاديمي. بالإضافة، ان تبني الهابتوس الاكاديمي يضعف احتمالات تطوير مناهج بحث بديلة ووجهات نظر مختلفة. حيث ان الباحثون عليهم الالتزام والامتثال للخصائص والمعايير المقررة من الهيئة الاكاديمية. ان ديناميكية السلطة في حقل الجامعة هي التي تقرر من هو الاكاديمي المعترف به، وما الذي يشكل البحث المقبول. عمل بوردو يكشف بان المعايير الموضوعية الاكاديمية والمرتبطة بالباحث وانتاجه البحثي هي غير موضوعية،  وانما تم اعدادها ذاتيا عن طريق ديناميكية القوة والامتثال الموجود في  الحقل الجامعي.

بوردو لا يزود القراء بمنهجية  للمناورة او الكيفية التي يتم بها حل ديناميكية السلطة في الجامعة. الا ان هدفه هو التخلص من "الأرواح الشريرة"، بمعنى انه يسعي الي ان يقوم الاكاديمي بالانشغال النقدي، وان يعي العالم الاكاديمي الذي يعيش ضمنه. هو يقدم للقراء فرصة ليتسألوا بوعي ما الذي يحفز أسئلة البحث، المناهج، والإستنتاجات.

ان عمل بوردو يعتبر بمثابة  مثال على "تدخل اكاديمي" ، حيث يشجع الباحثين على التفكر في وضعهم الحالي ضمن الحقل الجامعي، ومراجعة المعايير التي ترشد ابحاثهم. لذلك عمل بوردو من الممكن ان يحفز على تغيير جوهري بالنسبة للمعايير الاكاديمية في البحوث. الا ان الاكاديميين عليهم التفكر في موقعهم من السلطة، ماهي المعايير المطلوبة للبحث العلمي، من الذي من الممكن ان يشارك في عملية انتاج المعرفة، ومن هي الجهة التي يمكن لها التحقق من هذه المعرفة.

***

مراجعة علي حمدان الرئيسي

...................

المصدر:

*Bourdieu, Pierre, (1984). Homo Academicus. Peter Collier, trans.

Stanford, California: Stanford University Press.

في المثقف اليوم