قراءة في كتاب

الاسلام وثقافة التسامح: مداخل تأصيلية

1645  اصول التسامحقراءة لكتاب أصول التسامح في الاسلام

مدخل: تعج المكتبات في العالم الإسلامي بالعديد من الكتب التي تناقش مواضيع مرتبطة بالعلاقات الإنسانية وكذا الاجتماعية، لكن الملاحظ أن غالبية هذه الكتب غربية المصدر ومترجمة للعربية، وقلما يصادفنا كتاباً يناقش هذه المواضيع من خلفية ثقافية إسلامية تأصيلية عدا بعض الإصدارات منها الحديث وأخرى المعاصرة حول الحوار والتعايش والتعاون، لكن موضوع التسامح في الإسلام أغلب الكتابات التي عرفها الفكر الإسلامي  الحديث والمعاصر كانت عبارة عن ومضات وإضاءات خاطفة كمقالات وأوراق بحثية سريعة لغرض مؤتمر أو ملتقى دون التعمق في البعد الأصولي للمفهوم إسلامياً، مما جعلها لا تتناول أو  تدرس التسامح كقيمة وفلسفة وثقافة راسخة، ولم تعتمد في منهج قراءتها لسؤال التسامح على المنهج العلمي الرصين بحيث تتبع الموضوع في المصادر الإسلامية وتستوحي قواعده وأصوله في المنظومة المعرفية  والأخلاقية الإسلامية، على أساس هذه الحقيقة تزينت المكتبة الإسلامية مؤخراً بإصدار جديد لسماحة الشيخ الدكتور عبد الله أحمد اليوسف عنوانه: "أصول التسامح في الإسلام"، ليسلط الضوء على حقائق ثقافية وتاريخية واستراتيجية مطمورة في الخزانة الثقافية الإسلامية، وبمنهج أكاديمي  نقدي متين، حيث انطلق الدكتور وهو العارف بالفقه أيضاً متتبعاً آثار مفهوم التسامح، ومناقشاً لعدة مساحات مرتبطة بالمفهوم، كاشفاً من جهة مستوى التقصير في ترصين الوعي الإسلامي بالموضوع، ومن جهة أخرى عاكساً مدى شمولية وإنسانية الشريعة الإسلامية الحضارية، والكتاب الصادر عن دار أطياف بلا شك يمثل مرجعاً علمياً مهماً يغني الباحثين والدعاة والإعلاميين والأكاديميين من نفسانيين واجتماعيين لأنه شمل جلّ أبعاد المفهوم وناقش غالبية الإشكالات والإشكاليات التي قد ترد بخصوص سؤال التسامح على مستوى الاجتماع الإسلامي العام.

من خلال هذه القراءة المقتضبة سنحاول عرض أغلب ما ورد في الفصول الخمسة للكتاب مع مناقشة بعض الأفكار وتقديم بعض الملاحظات ليس انتقاصاً من المضمون وإنما ترصيناً وتركيزاً  للفكرة والقيمة الأخلاقية حتى تتجلى معادلة التسامح الإسلامية؛ لأن الكتاب صدوره وحده إضافة نوعية واستراتيجية للمشهد الثقافي الإسلامي، ودفعة قوية للتجديد الثقافي لدى المسلمين المعاصرين.

خريطة مباحث الكتاب:

كتاب "أصول التسامح في الإسلام" من القطع الكبير ٢٩٥ صفحة، يستهله المؤلف بالآية القرآنية ٢٢ من سورة النور{ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ  } يتوزع في خمسة فصول تسبقها مقدمة مع عرض لمنهج الدراسة:

- المقدمة ومنهج الدراسة: بشكل مقتضب قدّم الشيخ الدكتور عبد الله اليوسف كتابه بتبيان مدى أهمية الحديث عن قيمة التسامح في الزمن المعاصر وخصوصاً على المستوى العربي والإسلامي في ظل التحديات المتعددة التي تهدد السلام والتعايش في جغرافيتنا وأجيالنا الصاعدة، ثم يستعرض أهم أبعاد الدراسة من المنهج البحثي المتبع، وأهمية مبحث التسامح وأهدافه، مع عرض أهم الدراسات السابقة لمفهوم التسامح سواء عربياً وغربياً مع توضيح هيكلية البحث.

- الفصل الأول: مفهوم التسامح

استهل المؤلف كتابه بالتعريفات حيث تتبع المفهوم لغة عبر معرفة الجذر اللغوي لمفردة التسامح واستطاع  حصر عدة معاني من أكثر من معجم، واصطلاحاً كذلك حاول الشيخ الدكتور اليوسف تجميع الاصطلاحات القديمة والحديثة والمعاصرة ليوجز مفهوم شامل ومعبر للتسامح، وفي القرآن الكريم على الرغم من أن مفردة التسامح لم ترد بلفظها، يوضح المؤلف أن عشرات المفردات توحي بمداليلها وأبعادها إلى معنى قيمة  التسامح مستشهداً بعدة آيات قرآنية، بينما في السنة الشريفة أوضح الشيخ الدكتور عبد الله اليوسف إلى أن قيمة التسامح وردت بالمعنى والمدلول والمفردة، وأورد عدة أمثلة عنها من الأحاديث والحكم والكلمات، وكذا شواهد رائعة عن قيمة التسامح من السيرة النبوية، وتلخيصاً لما سبق ختم المؤلف الفصل بمعنى التسامح بايحاءاته الإيجابية العابرة لأبعاد الحياة الإسلامية والانسانية.

- الفصل الثاني: قواعد التسامح في الاسلام

اللافت للنظر أن هذا الفصل يختزن قوة الكتاب العميقة لأنه يقعد المفهوم ويؤصله، كما يدفع بمعنى التسامح في المنظور الإسلامي إلى حقل المعرفة بكل جدارة وإستراتيجية حيث ينطلق الباحث:

1 - من قاعدة قرآنية شاملة ومتعددة الآفاق والأبعاد في المنظومة التشريعية الإسلامية بل إنها بلا شك قاعدة القواعد في ماهية الإسلام كدين ورحمة وشرعة للعالمين،  {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} هذه الآية جاءت كعنوان رئيس مهم في رسم حقائق التسامح الإسلامي الإنسانية الحضارية، حيث استطرد المؤلف جلّ الشبهات من خلال تحليل مفصل بأقوال المفسرين والمفكرين وشواهد من التاريخ بمركزية هذه القاعدة القرآنية في حركة الإسلام مفهوماً ودعوة  وسلطة تجاه الآخر  المختلف، مفنداً شبهات الإعلام المسموم الذي حاول ولا يزال ساعياً إلى الإشاعة على أن الإسلام انتشر بحد السيف، وخير دليل على هذا الافتراء صرامة ووضوح مضمون هذه الآية الكريمة، وما تؤكده من قيم التسامح الأساسية في المنظومة العامة للإسلام.

2 - القاعدة الثانية التي أوضحها الشيخ الدكتور عبد الله اليوسف هي القاعدة الفقهية "قاعدة الإلزام" والتي تنطلق من خبر"ألزموهم بما ألزموا به انفسهم" كما اعتمد في إثباتها على روايات معتبرة، كما استشهد بمواقف من التاريخ الإسلامي من سير الأئمة والفقهاء، مستعرضاً قيم التسامح عبر صور تعكس شرعية التعددية المذهبية وحق الآخر في الاختلاف.

3 - من خلال قراءة مقتضبة لماهية الأخلاق في المنظومة الإسلامية العامة وعبر استعراض معنى الأخلاق وفقه الأخلاق والمصلحة الأخلاقية وضع الدكتور اليوسف القاعدة الثالثة الأساسية في تأصيل مفهوم التسامح الإيجابي، بل إن المنظومة الأخلاقية تعتبر المؤهل والمحفز الأكبر في رسم منهج التسامح وتعبيد الطريق إليه،مما دفع بالمؤلف إلى تخصيص فصل كامل عن أخلاقيات التسامح تركيزاً للوعي وتفعيلاً للإرادة الإيجابية.

4 - على أساس قاعدة "حجية العقل" ومكانته المهمة بعد النقل، والمرتبة المعتبرة بل المركزية في الفكر الإسلامي، كما هناك من المدارس الإسلامية من يعتبره مصدراً من مصادر التشريع للدور الأساسي والمحوري له في آفاق الاجتهاد التشريعي، ناهيك عن حقوق التفكير والاختلاف ذات الارتباط الوثيق بالعقل، كل هذا بنى عليه الشيخ الدكتور عبد الله اليوسف ماهية وأهمية الجذر الرابع لمنهج التسامح.

مختصر القول في الفصل الذي أراه مركزياً في الكتاب أن الباحث الشيخ الدكتور عبد الله اليوسف استدل على قيمة التسامح في الإسلام بدليل قرآني قطعي وآخر فقهي اجتهادي وثالث تربوي مقاصدي ورابع فلسفي واقعي إن صح التعبير.

- الفصل الثالث: أخلاقيات التسامح

عبر تمهيد لماهية الأخلاق في الإسلام يبحث المؤلف عدة أخلاقيات أساسية في رفد نهج التسامح الإيجابي أو الاستراتيجي إن صح القول، سوف نعرض زبدة ما رسمه الدكتور اليوسف من تشابك وتفاعل بين فاعلية الأخلاق وتحقق قيمة التسامح واقعياً:

1 - خلق التواضع: ارتكزالمؤلف في حديثه وعده لأهم أخلاقيات التسامح على خلق التواضع كمفعل لقيمة التسامح، حيث توسع الباحث نوعاً ما في تبيان قيمة التواضع إسلامياً من خلال المصادر الإسلامية العامة.

2 - خلق الحلم: هذا الخلق بعد تعريفه لغوياً وتأكيده من المنظور الإسلامي، ركّز الدكتور اليوسف على أنه إذا أصبح نهجاً اجتماعياً عاماً سيحقق قيمة التسامح؛ لأن تعداده من أهم الأخلاقيات لا يقصد منه الفرد فقط بل أساساً المجتمع.

3 - فضيلة الصبر: انطلاقاً من مركزية فضيلة الصبر في الرؤية الإسلامية لبناء الفرد وإنجاح العلاقات في المجتمع، قام المؤلف بعرض معنى الصبر وأقسامه وعلاقته بنهج التسامح مستخلصاً بعد ذلك بضرورة إشاعة فضيلة الصبر في المجتمع لحاجة نهج التسامح إليها حفاظاً على السلام الأهلي وتحقيقاً للقضايا الكبرى وتركيزاً للأمور العامة.

4 - العفو والصفح: بعد تبيان الرؤية القرآنية لفضائل ومحاسن العفو والصفح، ثم تعريف العفو، عرض الدكتور تسع فوائد وآثار للعفو والصفح على الاجتماع العام في تفعيل نهج التسامح بقوة واستدامة.

5 - الرحمة والرفق: بشكل مختصر يستعرض أهمية فضيلتي الرفق والرحمة في الحياة الاجتماعية مما ينعكس على اتساع واقع نهج التسامح، وذلك من خلال الاستدلال بعدة آيات قرآنية وأحاديث شريفة تحث على اتخاذ الرفق والرحمة سبيلاً لبناء مجتمع تسامحي.

6 - الكرم والجود: في قراءته لفضيلة الكرم كأخلاقية من أخلاقيات التسامح، ربط بين فلسفة الكرم وأهمية شؤونها في المجتمع بحيث يتحقق العيش الرغيد والحياة الكريمة، فإن ذلك ما يساعد في سريان نهج وثقافة التسامح بين الناس، كما علل بعرضه لماهية الكرم والجود في الرؤية الإسلامية وتأكيد الشريعة في عدة مواضع وبحزم على ضرورة تنشيط هذه الفضيلة وتوسيع نطاقها لأنها تعتبر من خصال المسلم الحقيقي.

7 - الإحسان إلى الناس: أشار الدكتور اليوسف في مقاربة خلق الإحسان بنهج وثقافة التسامح إلى أن المقصود ليس الإحسان الذي يكون من الغني نحو الفقير فقط وإنما هو الإتقان كما ورد باللغة في شتى مناحي الحياة بمعان واسعة وعميقة والفضل ما بعد مراعاة العدل والإخلاص في التعامل مع الصدق.

- الفصل الرابع: أقسام التسامح

في هذا الفصل يستعرض المؤلف أقسام التسامح ويحددها في أربعة أقسام يسبقها بمفتتح تمهيدي للتقسيم، حيث يؤشر لأهمية مبادئ التسامح في المجتمعات التعددية ومنادياً بضرورات ملحة لترسيخ ثقافة التسامح في ظل التنوعات كلها.

- التسامح الديني: في هذا القسم من التسامح والذي أراده المؤلف ابتداءً، يذكر عدة تعريفات له وظهوره في القرن التاسع عشر الميلادي كونه لم يكن دارجاً في العصور السابقة، ويقرب مضمونه من خلال مفهوم التعددية، وكاشفاً سبق الإسلام في وضع تشريعات خاصة بهذا القسم من التسامح في قبال اليهودية والمسيحية، كما عرض الدكتور اليوسف نماذج وصور ومواقف رائعة لعظماء من التاريخ الإسلامي تعكس سماحة الإسلام وإنسانيته وحضارته الراقية والمحترمة للآخر مهما كانت خصوصيته بكل موضوعية وعدالة وإنصاف وعزة وصدق.

- التسامح الأخلاقي: بيّن المؤلف في هذا القسم أن أهم أساس من أسس ثقافة التسامح هو الأخلاق الطيبة الحسنة، واستدل بعدة صور من تاريخ الإسلام المضيء بالتعامل الإيجابي وسعة الصدر وقبول العذر (مع/من) الآخر.

- التسامح الإنساني: استكمالاً لأقسام التسامح والترابط المفاهيمي اعتبر الدكتور اليوسف القيم الإنسانية أساساً آخر من أسس التسامح كونها تحافظ على كرامة وحقوق واحترام الناس جميعاً دون اعتبارات الدين أو المذهب أو القومية أو اللون، وهذا القسم يزيد ترسيخاً للقسمين السابقين، منوهاً المؤلف على مركزية الأخلاق الإسلامية الإنسانية في كل تعامل مع الآخر غير المسلم.

- التسامح الإجتماعي: يرى المؤلف أن هذا القسم يتحقق بترسيخ ثقافة التعايش مجتمعياً ونشر ثقافة الحرية وقبول التعدد والاختلاف، وبالتالي تتشكل ثقافة اجتماعية جديدة تساعد على  بروز التسامح كنهج اجتماعي وثقافة حقيقية، ويؤكد على أن قيم وأخلاق الإسلام تعزز هذا القسم من التسامح.

- التسامح الفكري: آخر قسم خصه المؤلف للجانب الفكري الذي يرتبط بحق حرية الرأي والتعبير وشرعية تعدد الآراء في المجتمعات، وأن الاختلاف عندما يكون علمياً أو ثقافياً أو فكرياً يستدعي تطعيمه بقيمة التسامح حتى يتسنى تطوير الأفكار وتلاقح الرؤى مما يغني ذلك المجتمع، وقد أورد في هذا الخصوص عدة كلمات وشواهد لعظماء الإسلام كما أشار إلى ما نصت عليه المواثيق الدولية لحقوق الانسان، وختم بضرورة تفعيل هذا النهج في المجتمعات الإسلامية ذات التعدد والتنوع بشتى تمثلاته الدينية والمذهبية والإثنية.

- الفصل الخامس: ثقافة التسامح وبناء المجتمع

1 - الحاجة إلى التسامح: تركيزاً للرؤية الإسلامية الخاصة بالتسامح وأنه كقيمة أخلاقية، يؤكد المؤلف د.اليوسف أن التسامح هو بالأساس ضرورة دينية قبل أن يكون حاجة واقعية، مسطراً عدة أبعاد تبين سماحة الإسلام ومركزية التسامح في معادلة أسلمة الذات والمجتمع والحياة، ومؤكداً على ضرورة تجذير ثقافة قبول الآخر والالتزام بآداب الاختلاف.

2 - الاختلاف المذهبي والتعايش السلمي: ينتقل الدكتور اليوسف من النظرية الإسلامية إلى الواقع الإسلامي ساعياً بخطابه الإسلامي الرصين إلى قراءة الواقع ونقده النقد البناء كما يريد الإسلام للمجتمعات أن تكون، من خلال تسليط الضوء على مفاهيم التعددية المذهبية التي لا نجد مجتمعاً من مجتمعات المسلمين يخلو منها، ويقرب فكرة الوحدة من خلال الاستشهاد بأقوال العديد من العلماء والمفكرين المسلمين المتنورين الذين نقدوا  واقع الخلافات والصراعات المذهبية، مستخلصاً أنه لا خيار أمام الأمة سوى نهج التسامح من خلال قبول التعددية والتزامها مع وحدة التنوع.

3 -  التنوع الديني والتسامح الإسلامي: عرض المؤلف واقع التعدد الديني في بلاد المسلمين وقارن بين حال المسلمين في أوطانهم وبالغرب، ثم انتقل لتأكيد مرة أخرى وباستفاضة سماحة الإسلام من خلال تعامل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم  مع أصحاب الأديان الأخرى، منتهياً  إلى وضع بعض النقاط المهمة لإرساء قيم التسامح في المجتمعات الإسلامية فيما بين المسلمين وتجاه نظرائهم في الخلق أو أتباع الديانات الأخرى.

4 - التعددية الفكرية والإثراء العلمي: ناقش المؤلف أهمية التعددية الفكرية وما تنتجه من ثراء علمي، ومنه على ضرورة ترسيخ الحرية الفكرية وقبول الآراء والأفكار المغايرة وفق منهج علمي، وبذلك يكون اختلافاً ناشئاً عن قواعد علمية وليس اتباعاً لأهواء وتعصب، ليصل إلى خلاصة مفادها ثقافة التسامح والتعايش تنمو في المجتمع عندما تسود التعددية الفكرية في ظل الحرية الفكرية التي نادى بها الإسلام.

الفصل الخامس: نتائج وتوصيات الدراسة

1 - نتائج الدراسة: هذا المبحث من الفصل الأخير بمثابة خلاصة عامة للفصول السابقة اختزلها المؤلف في ٢٨ نتيجة.

2 - توصيات الدراسة: أوصى المؤلف في ١١ نقطة بعدة مقترحات تتعلق بمجالات حية في المجتمع وثقافته  لرفد ثقافة التسامح وترسيخها وكلها هامة وملحة في المرحلة الراهنة التي تعيشها المجتمعات الإسلامية.

ملاحظات ومقترحات:

1 - لم يبدأ الدكتور اليوسف كتابه بطرح عدد من الأسئلة، تشكل مفاتيح دراسته هذه، على الأقل سؤال يحدد المسار المنهجي.

  الذي يتناول فيه التسامح من رؤية فلسفية إسلامية في مقابل الرؤية الغربية، وسؤال التسامح بوصفه قيمة ثقافية تمس قضايا المسلم، بما في ذلك قضايا الطائفية والعلمانية التي تعد أحد إرهاصات مشروع التسامح والذي يعد بدوره أحد تجليات العولمة.

2 - يمكن أن نطرح سؤالاً محورياً على الدكتور اليوسف، هل التسامح -بالمعنى العلمي للمصطلح- بوصفه تمثل ثقافي مفتوح على مضامين التنمية والتطور والتمدن، وتفعيل هذه المضامين في مسرح الحياة الاجتماعية وحركتها الفاعلة، استطاع أن يوجد مساحة كواقع متحرك في بعض مفاصل حياة المسلمين أم لا يزال خطاباً يطفو إلى السطح الاجتماعي كلما احتدم الجدل بين الخطاب الإسلامي المعاصر ومشكلات الواقع؟

3 - منهجياً اكتفى المؤلف بعرض الشكل دون تبرير خطة البحث وهل منهجية الدراسة وصف وتحليل أم وصفية فقط؟

4 - ماذا عن إشكالية العلاقة بين التسامح والتطرف على ضوء مآزق التراث؟ أو كيف نتعامل مع تراث التطرف لكي نؤصل لثقافة تسامح إسلامية تخرج الفكر الإسلامي من تخلفه؟  لكن اختار الكاتب مقاربة إشكالية التسامح في الفكر الاسلامي من دون مناقشة مشاريع اللاتسامح المنتشرة في كل مجالات الحياة الاجتماعية.

5 - منهجياً أيضاً كان الأفضل جمع الفصلين الثالث والرابع في فصل واحد بعنوان مقاربة تأصيلية للتسامح في الإسلام ويخصص له ثلاث مباحث: دلائل التسامح، منطلقات التسامح وأسسه، معطلات التسامح، ليكون الفصل الثالث خاصاً بحقائق التسامح في الإسلام أو شواهده.

6 - منهجياً كذلك، الصورة الأولية والعامة للكتاب توحي بانتمائه لحقل فلسفة القيم بشتى مباحثها فكان من المفروض الانتباه لهذا البعد منهجياً ومقاربة التسامح من خلال العملية النقدية للرؤية الفلسفية الغربية على ضوء المنطق الإسلامي.

7 - الكتاب استجمع مباحث عديدة مهمة واستراتيجية مما يجعله مدخلاً عاماً للتسامح في الإسلام، مع استكمال التفصيل في مضامينه بأجزاء أخرى مستقبلاً لتكتمل الصورة والرؤية ضمن موسوعة التسامح في الإسلام.

8 - ماذا عن استراتيجية الدراسة وأهدافها، حيث الملاحظ أن الاستراتيجية التي عمل المؤلف على تحقيقها عبر منحيات منهجية ومعرفية استقاها من تاريخية الفكر الإسلامي في بعده العلمي والفلسفي، ومن نظرته الفاحصة لبعض المطارحات الفكرية دون المشاريع التي نشأت مرتكزة على المنتجات العلمية الاسلامية والغربية عامة، والرؤى الاكسيولوجية للحضارة الغربية المعاصرة. وقد اكتفى لتدعيم مقاربته التأصيلية ببعض الشواهد التاريخية والنصوص الدينية ومقاربات الفكر الإسلامي الحديثة لثلة من العلماء والمفكرين مركزاً على مطلبه المتمثل بتنشيط الحوار حول التعددية والحريات والاختلاف والتعايش والتعارف..

9 - محاولة المؤلف تندرج ضمن القراءات النقدية للراهن الإسلامي بروح إيجابية  وتركيزاً على المفاهيم الاستراتيجية من دون النظر في الأضداد وخلفياتها التاريخية والحضارية، وهي محاولة لا بأس بها من ناحية إدارية للازمة الحضارية للمسلمين، غير أن هناك إشكالات أخرى لا تقل أهمية، مثلاً تفكيك قيم الشر المخترقة للمرجعيات الحضارية الحية في الاسلام والتي تشكل الوعي الاسلامي، وتعبر عن ذاتيته، وهويته، لأن تحديات التطرف والطائفية والتسقيط والعنصرية تحتم على الفكر الإسلامي المعاصر مواجهتها. لانها تحديات تستلزم الانفتاح على الذات بكل مكوناتها وتنوعاتها أولاً، وعلى الكوني في أبعاده الحضارية التي تخدم الإنسانية ومن مقومات الفهم والفعل لثقافة التسامح.

10 - ما يمكن قوله في كل ما جاء به المؤلف من وصف أو تحليل لإشكالية التسامح وأهميته من خلال طرحه لمفهومه اللغوي والاصطلاحي وجذوره التاريخية والفكرية دون العلمية والفلسفية، ومدى ارتباطها بخصائص الرؤية الإسلامية قدم مقاربة جديدة لإشكالية التسامح ذات قيمة مضافة لاشتغالات سابقة ( كتاب مهم للعلامة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله  رضي عنه حول التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام، كتاب الدكتور شوقي أبو خليل التسامح في الإسلام -المبدأ والتطبيق- ومنها الراهنة (مشروع الأستاذ ماجد غرباوي وهو مشروع كبير ومهم انطلق من منابع التسامح واللاتسامح). وقراءات الأستاذ محمد محفوظ الطريق إلى التسامح.

11 -  وإن كان قد سبق الدكتور شوقي أبوخليل في قراءة قيمة التسامح في الإسلام وكذا الأستاذ غرباوي والأستاذ محفوظ وغيرهم في  مقالات ودراسات كاملة أو منفصلة غير أن الدكتور عبد الله اليوسف ببحثه الأكاديمي هذا، كان يرتكز بهذه الموضوعة على هدف بناء التصور، وكان أكثر ً توغلا في بعض المضامين خصوصاً الأخلاقية، ولعلي به قد استثمر عدة دراسات سابقة له بخصوص مقتضيات الحوار والاختلاف والتعايش والتعددية وقبول الآخر. كما أن قراءته لمبادئ وأخلاقيات التسامح وعلاقتها بالإسلام متميزة من حيث طرحها لإشكالية من أدق الإشكاليات وأسها في الفكر الإسلامي المعاصر إشكالية الحريات.

12 - قراءته للتسامح تنهج بالقارئ العربي والمسلم وغيرهما نهجاً بعيداً عن التوجهات والأفكار السلبية الميتة أو القاتلة -كما يعبرالمرحوم مالك بن نبي- أعني قراءة خالية من الأحكام المسبقة والشخصنة والأحادية الفكرية أو المراجع ذات التوجه الأحادي الطائفي مما يغرق القارئ في وحول الفوضى والجهل بإسم البحث العلمي، ولعل تأكيده المستمر بحاجتنا لثقافة التسامح ودعوته بتكاتف جهود جميع المؤمنين بقيمة التسامح والعيش المشترك تحمل في طياتها رؤية مزدوجة، تتمثل بمراجعة كل المشاريع والتصورات الخاصة بقضايا التنمية الاجتماعية ومنها التسامح وفق هويتنا الثقافية العربية والإسلامية، من جهة، ومن جهة أخرى، التعامل مع الرؤى المؤسسة على مرجعيات غربية  بروح نقدية معمقة، وعدم تقديسها، لهذا طبيعة هذا البحث أنه يعكس قراءة ذات موقف أصيل ومنفتح على العكس من بعض الدراسات التي كان هدفها تبيئة الثقافة الغربية بكل حمولاتها التاريخية والاجتماعية والثقافية والدينية.

13 - التوصيات كانت جد دقيقة بحيث ركّز المؤلف على مجالات حيوية كالتعليم والتربية والبحث العلمي والإعلام بشتى وسائله (هنا نشيد بقناة التسامح  للمفكر الإسلامي حسن الصفار التي لا زلت تبث عبر موقع يوتيوب، على أمل أنها تصبح قناة فضائية حتى يصل خطابها الإسلامي المعتدل والجامع والمتزن باحترام الآخر لكل أطياف الأمة) وكذلك في مجال التشريع القانوني لترسيخ مبادئ التسامح لأنها أساس الاجتماع المدني، كما نثمن دعوته لتأليف موسوعة خاصة بأخلاقيات النبي الأكرم (ص)، ونؤكد على ضرورة تطوير هذا البحث العلمي الأكاديمي ليكون نواة لموسوعة التسامح الإسلامي.

14 - نخلص إلى أنه بإمكان الدكتور اليوسف دعم دراسته بالتطرق -في طبعة جديدة مستقبلاً- لمسألة النزعة الإنسانية لمدى ارتباطها بثنائية الحرية-التسامح ضمن حقل الاشتغال العلمي الإسلامي المعاصر حول فلسفة الإصلاح من جهة، وأيضاً إشكالية العلمانية لتداخل مقتضياتها مع مبادئ التسامح وفق الرؤية الغربية من جهة أخرى، وعوداً لما سبق أن الدراسة رسمت معالم مشروع ثقافي استراتيجي بالنسبة لمستقبل المسلمين لأن ثقافة التسامح تختزن جلّ شروط النهضة والتنمية المستدامة للاجتماع العام لدى المسلمين. 

 

مراد غريبي

كاتب وباحث من الجزائر

 

 

في المثقف اليوم