قراءة في كتاب

نبيل الربيعي: محمد السعدي وأرشيف حكاياته النضالية (1)

يتحدث ابن الهويدر محمد السعدي عن حياته ونشأته في مذكراته الموسومة (بيني وبين نفسي.. حكايات من أرشيف الحركة الشيوعية العراقية) الصادر عن دار الرافدين في بيروت عام 2021، (397) صفحة من القطع المتوسط. وكان الإهداء إلى شريكة حياته جنان، وتقديم الدكتور عبد الحسين شعبان.

يتطرق السعدي عن تاريخ منظمة الهويدر للحزب الشيوعي العراقي أبان التحالف الجبهوي مع حزب السلطة (1973-1978م)، مسلطاً الضوء على دقائق الأمور والحركة الانصارية في كردستان العراق، من خلال اطلاعي على المذكرات وجدتها وثيقة تأريخية مهمة لحقبة زمنية وثقها السعدي في كتابه هذا.

فمنذ أول الطفولة كان مدققاً في اختيار أصدقائه، حتى أن حدساً ما يسبق الوعي وراء هذا الأختيار، فضلاً عن طبيعته الشخصية وما نشأ عليه من أعراف اجتماعية، تجعل من علاقاته في مرحلة الشباب واطلاعه على الفكر الماركسي ذات طبيعة قد دفعته إلى المطالعة والتثقيف الذاتي.

يؤكد في ص25 من كتابه بأن (الطفولة هي التي تحدد مصير الفرد، وفقاً إلى سيجموند فرويد، فقد ولدت وعشت وترعرعت في عائلة فقيرة مكونة من أحد عشر فرداً، في بيت طيني سقفه لا يقي من الأمطار ولا الأنواء)، فمن خلال ترعرعه في هذه العائلة الطيبة التي خلقت منه إنساناً طيباً محباً للفقراء والمحتاجين، مضحياً من أجل شعبُ حرُ يعيش بأمان وسلام، ربما كانت لبؤس الحياة قد خلقت منه إنساناً حالماً بعراقٍ جميل.

المذكرات عبارة عن موسوعة تاريخية فلسفية أدبية توثق تاريخ ادباء ومثقفي قريته، ومن خلالها يسلط الضوء على المصادر الأدبية والفلسفية التي أثرت على مسيرته الأدبية والثقافية والنضالية، كما يذكر في ص27-28 من ذكرياته قائلاً: (تأثرت بكتابات الرائد الاشتراكي سلامة موسى، ثم جان جاك روسو صاحب نظرية العقد الاجتماعي، ولكن كان أكثر من ترك أثراً في حياتي آنذاك، هو سلمان الفارسي أحد أصحاب النبي محمد... وهنا شخصية أخرى تركت أثراً في نفسي وفي ذاكرة كل من تمعن في خصالها، إنه أبو ذر الغفاري، لشجاعته وزهده ومواقفه وخصاله الحميدة).

من خلال المذكرات وجدته صادقاً مع مشاعره ومع نفسه في طرح افكاره أو اعترافه بطريقة اعتناقه للشيوعية قائلاً في ص28: (منذ بداية طريقي في الإيمان بالشيوعية، كنت أجهل أركانها الفلسفية والاقتصادية والفكرية، لكنني تأثرت بها عاطفياً، واعتقدت بمثلها الاجتماعية من خلال مناقب الشيوعيين ومآثرهم في قرية الهويدر وما يحملون من مُثل وأخلاق وشجاعة طيبة).

يحمل السعدي من خلال مذكراته اسلوباً أدبياً راقياً، يشد القارئ الكريم في متابعة حروف كلماته، فهو يسيح بالقارئ من خلال اسلوبه الجميل عبر بساتين الهويدر وشاطئها الجميل، ثم ينقلك في ص31 إلى قصص وحكايات القراء الحسينيين أمثال وطن وحمزة الزغير وقصيدته الموالية لحزب السلطة (يا حسين انهضت من أجل العدالة)، ومديحه للبعث وبكر وصدام، لكن في ص32 من مذكراته يذكر معلومة قد غابت عن ذاكرته بنسب أم كلثوم ورقية بنات النبي محمد إلى ابن عمه علي. ثم ينقلنا إلى بداية الوعي والانتماء السياسي ولقاءاته مع المناضل باقر إبراهيم وحديثهم عن متطلبات المرحلة مطلع سبعينيات القرن الماضي ودور الاتحاد السوفياتي في الضغط على قيادة الحزب الشيوعي العراقي لعقد التحالف الجبهوي مع حزب السلطة، فيذكر في ص35 رأي إبراهيم بالتحالف قائلاً: (إنها إنجاز وطني وقومي إذ لا بد من التضحية وتقديم التنازلات على حساب المواقف والمبادئ)، لكن بعد تقديم التنازلات ماذا كانت نتيجة التحالف غير إبادة الشيوعيين كما تمت إبادة قياداتهم والقاعدة عام 1963، فقد ذكر في ص36 اعترافات إبراهيم علاوي في كتابه (المقايضة) قائلاً كان (حجم الضغط على الشيوعيين من جانب المركز الأحمر "الاتحاد السوفيتي"، وللأسف لم يؤخذ رأي القاعدة الحزبية في المفاصل الأساسية مثل عقد الجبهة أو الدخول إلى مجلس الحكم الانتقالي بعد الاحتلال كما حصل عام 2003م).

وفي ص41-42 ينقلنا السعدي إلى عام 1978م والهجمة على القاعدة الحزبية بعد فتح مجال للقيادة للخروج من العراق عبر مطار بغداد وبعلم السلطة، وحينما يسأل السعدي القيادي باقر إبراهيم الموسوي (أبو خولة) حول موقفه من الجبهة: (هل أنت نادم على مشروع الجبهة مع البعثيين؟ أجابني: لم أندم عليها قطّ، بل بقيت عالقة وراسخة في ذاكرتي... لو كانت الجبهة موجودة في عراق معافى سياسياً، لما تعرض شعبنا إلى تلك الحروب والويلات والحصار والطائفية والاحتلال، فضلاً عن أنها عززت من قوتنا جماهيرياً ووسعت رقعة تنظيماتنا. وليس الخلل على مبدأ التحالفات في تاريخ الشيوعيين، بل إن الخلل كان في قادة تلك التحالفات وموضوع الاستراتيجية وجدلية التكتيك)، هذا التفاؤل كان لموقف المناضل باقر إبراهيم الموسوي، لكن السؤال هو هل كانت القيادة تأخذ برأي القاعدة في مثل هكذا قرار استراتيجي مهم قد عرض الحزب إلى انتكاسات متلاحقة؟ علماً أن قيادة البعث كان هدفها من وراء التحالف القضاء على أكبر قاعدة جماهيرية وطنية تمثل الشيوعيين العراقيين.

تتنوع مذكرات الصديق محمد السعدي تنوعاً شديداً في انشغالاته لتوثيق حقبة زمنية مهمة من مسيرة الحركة الشيوعية العراقية، من خلال الفضاءات التي تمتد وتتسع إلى حدٍ كبير لتشمل جانباً شاسعاً من حياته بعد الانتقال إلى الجبل مع الثوار، ليحمل بندقيته ويشارك تجربته في القتال، فينتقل إلى تجربة شديدة الامتداد من تفاصيل الشأن العام السياسي والفكري، فكانت سعة تجربته في الجبل قد تغلغلت عميقاً في وجدانه.

هناك قراءة وملاحظات أخرى مهمة تفيد القارئ الكريم وصاحب المذكرات ستنشر في حلقات قادمة.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

حلة 5/12/2023

في المثقف اليوم