قراءة في كتاب

محمود محمد علي: سياحة في كتاب دراسات في الأديان لعبد الحميد مدكور (2)

4- تحليل مباحث الكتاب:

في مقدمة الكتاب راح عبد الحميد مدكور يجول بنا عبر التاريخ الإنساني للكشف عن العلاقة بين الإنسان والدين من خلال مجموعة من التساؤلات عن الدين الذي جرى إقامة علاقة بينه وبين الإنسان، ومن أمثلة هذه الأسئلة: ما الدين؟ وما صوره؟، وما مقوماته؟ ومتى ظهر؟ وهل هو دين واحد أو أديان؟ وما علاقته بالعلم والفلسفة والأيديولوجيا؟ ثم ما علاقته بالظواهر التي سبقته أو عاصرته في بعض المجتمعات البدائية كالأساطير أو الخرافات أو السحر ونحوها، وما علاقة الدين بالتطور؟، ولماذا وقع فيه كل هذا التنوع والاختلاف؟، وما علاقة الدين بالحضارة؟، وهل هو دافع لها أو معوق لوجودها؟ وما مكانة الدين في ظل بعض الحضارات أو المذاهب والفلسفات التي تتجه وجهة مادية؟ وما مدى قدرة على الاحتفاظ لنفسه إذا قع في قلوب المتذبذبين به، أيا كان هذا الدين، وأيا كانت الحضارات التي يعيش في ظلها، وأيا كان الناس الذين يعارضونه ويقاومونه أو يتمسكون به، إلى آخر ما يمكن أن يثار من أسئلة أو تساؤلات، تكشف – في جملتها ومجموعها عن أهمية الدين – بصفة خاصة – بحيث لا يمكن تجاهله، أو التقليل من أهميته، حتى لو كان موضع اعتراض أو مقاومة (11).

وإذا كانت الأسئلة كثيرة – على هذا النحو – فإن الإجابات قد أسفرت عن انبثاق سبعة مباحث: فجاء المبحث الأول عن تعريف الدين، وفي هذا المبحث حاول المؤلف أن يصور الدين تعريفه على نحو يكشف عن جوهره، ويحدد مقوماته وعناصره وخصائصه بحيث يرتبط ارتباطا وثيقا بنوع الثقافة التي يوجد في ظلها، وبنوع الفكر الذي يعتنقه من يريد التعريف، ثم يرتبط كذلك في نظر الكاتب بالانتماء الديني، وبالظروف الاجتماعية، فالحديث عن الدين الوضعي في نظر الكاتب يختلف – في بعض العناصر المهمة – عن الحديث عن الدين الإلهي أو أديان الوحي، وكذلك الكلام عن الأديان التي شاعت لدى البدائيين يختلف عن الأديان التي صاحبت مستويات متقدمة من الحضارة (12).

ثم قام المؤلف في هذا المبحث بتقديم نماذج من تعريفات الدين التي تتفق أحيانا وتختلف أحيانا في الثقافة العربية الإسلامية (13)، وقد خلص منها إلى أن:" الدين هو الإيمان بذات عليا، يشعر المؤمن نحوها بالتقديس والتعظيم، ويؤدي إلى ما تستحقه من الخضوع والدعاء والخشية والرجاء، وسائر أنواع العبادة، وينتظر منها الجزاء على ذلك (14) .

ثم قام المؤلف بعرض تعريفات الدين في الفكر الغربي، (15)، ويتوصل إلى حقيقة مهمة، حيث يقول:" وهكذا تتعدد التعريفات وتتنوع وتتناقض، وقد يصل بعضها إلى حد التوقف عن تعريف الدين، اكتفاء بدراسته من حيث النشأة لدى البشرية، أو من حيث مظاهر التدين، ويذكر بعضهم لذلك أسبابا منهجية منها: أن التعريف العام للدين لا يكون إلا لا يكون إلا بصفته محاولة تقريرية غير وافية بالغرض، أن الكلمة حمالة أوجه، ولأن أي عرض لما هو ميتافزيقي هو تشويه وزيغ، لأنه لا يتيسر للباحثين الإلمام بتجربة الإنسان الدينية إلا من خلال الطقوس والرموز التي يُعبر بها عن " المقدس" وهى لا تمثل جوهر التجربة الدينية (16).

ثم يستطرد المؤلف فيقول:" وعلى ضوء هذا كله نجدنا بحاجة إلى الوقوف على أرض ثابتة، ونحن نبحث في الدين . وعلينا أن نعود مرة أخرى إلى ما سبق تقريره في كلام الدكتور محمد دراز الذي قال فيه إن الدين الحق هو الإيمان بذات إلهية جديرة بالطاعة والعبادة، وإنه يجمع بين الحالة النفسية، أي الاعتقاد والشعور والتدين والحالة النظرية التي تحدد –من جهة – صفات تلك القوة الألهية، وتحدد – من جهة – جملة القواعد العملية التي ترسم طريق عبادتها (17).

أما الفصل الثاني فهو بعنوان " الدين بين الفطرة والاكتساب "، وفي هذا الفصل يبين لنا الدكتور عبد الحميد مدكور هل الدين فطرة في النفس الإنسانية، وأن الإنسانية ولدت على الدين، والتوجه إلى إله خالق، أو أنها نشأت هكذا نشأة طبيعية ليست لها صلة بالأديان ولا بالوحي ولا بالألوهية، ثم اجتهدت في أن تكتسب هذه الصفة التي تليق بالإنسان بوصفه كائن متدين وكائنا أخلاقيا (18) .

وهنا يعرض المؤلف الرأيين فيبين الظروف التي تحيط بكل منهما، ثم ينتقل إلى الرأي الذي يراه في اعتقاده صائبا بما يدل عليه من الأدلة الواقعية والتاريخية والعلمية والنفسية التي تزكي وتؤيد هذا الرأي (19) .

وفي نظر الدكتور مدكور في حقيقة الأمر أن هناك رأيين مختلفين، الرأي الذي يقول إن الدين فطرة في النفس الإنسانية، وأن البشر ولدوا على التدين، والإقرار بالألوهية، والاعتراف بالعبودية لهذه الألوهية، وبعض الناس من الاجتماعيين والأنثربولوجيين الذين يدرسون النشِأة الإنسانية بحسب تصورات وتخيلات (20).

ويختار المؤلف الرأي الأول والذي يعضد فكرة الفطرة للنفس الإنسانية، ويدلل على ذلك (21) ؛ أما الفريق الذي يرى أن الإنسان لم يكن متدينا، وأنه ولد ولاة طبيعية ليس فيها معنى الإيمان بالألوهية، فإن بعض هؤلاء يقولون إن الدين لم يكن مغروسا في أعماق النفوس، وأن البشر توصلوا إلى الدين عموما، وأن الدين يلتقى شيئا فشيئا إلى الإيمان بإله واحد بعدة آلهة أولا، ثم بإله واحد بعد أطوار من مراحل امتدت أزمانًا طويلة، ومرت بتجارب عديدة ؛ خاصة أن العلماء قدموا تصورات وتفسيرات حول هذه المسالة، وان المحاولات ارتبطت بثقافة أصحابها وبمعارفهم، وظهرن مذاهب تغوص في أعماق التاريخ والنفوس وتهتم بالجوانب الاجتماعية، لكى تبين لنا كيف نشأت ظاهرة التدين في النفس الإنسانية، وقد استعانوا كذلك بالمشاهدات التي قام بها بعض الرحالة والمستكشفين في العصر الحديث للقبائل البدائية، وحاولوا أن يفهموا نشأة الإنسان القديم، مستعينين بما رأوه من القبائل البدائية، فذهبوا إلى قبائل بدائية في أفريقيا، والولايات المتحدة الأمريكية قبل اكتشافها،و قبل تطورها الحديث الذي وصل بالإنسان إلى بقاع الأرض كلها بما تمتلكه من أدوات وآلات (22).

ثم يبين المؤلف رأى هؤلاء (23)، وأول رأي من القائلين بالتطور يقول بأن الناس بدأوا التدين باعتقادهم في الأرواح، والأرواح بمعنى أنه كان لهم أجداد، وأنهم ينتمون إلى هذه السلالة التي ينتمي إليها الأجداد، وأن أجدادهم عاشوا عيشة ما، ثم انتقلوا إلى الحياة الأخرى، وأن أرواح هؤلاء تأتي إلى الناس في مناماتها، وهذا دليل على تلك الصلة التي توجد بين الأرواح وبين هؤلاء الناس، وأن ما يراه البدائي في نومه، إنما هو تعبير عن حياة حقيقية لها كل مقومات الحياة، كأن جده مازال حيا، وأنه يأتي إليه ليتصل بروجه، وهذا يعني إذا رآه في مكان بعيد فكأن الإنسان نفسه ذهب إلى هذا المكان البعيد، وأن هذه الروح التي تأتي إليهم تتميز بالشفافية والقدرة على الحركة،و أنها تملك القدرة على التأثير في حياة الناس بالنفع أو بالضر، ولذلك عبّد البدائي هذه الأرواح، فبدأت العبادة عند اصحاب الرأي كما يرى الكاتب بعبادة الأرواح، وتوجه إليها بطقوس يبتغى بها أن يصرف شرها، لأن الأرواح هي التي تؤثر في حياة الإنسان الحي، وأنه إذا قدم لها قرابين، فسوف تسوق إليه النفع، وأنه إذا أعرض عنها فسوف تعود عليه بالضر، وأن هذه الأرواح تأتي إليه في صور متعددة، وأنه يمكن أن يجلب هذه الأرواح عن طريق السحر وعبادة الأوثان، ولكن الإنسان قليلا قليلا، وشيئا فشيئا تدرج إلى الإيمان بعدد من الآلهة، وانتهى أخيرا إلى التوحيد (24) .

هذا التصور الذي وجد عند الفريق كما يرى المؤلف الذي يقول إن العبودية احساس بالألوهية، والوصول بآلهة، ثم بإله واحد وصل عن طريق هذه الأرواح، وهذا الكلام في نظر المؤلف غير صحيح لأنه قائم على مجرد تصورات ليس لدينا عليها أدلة، والعلم لا يتعرف إلا بالأدلة، ونحن لم نكن مع هؤلاء الذين نشأت عليهم الحياة، وهؤلاء ليس لهم أدني علاقة بآدم ولا غيره، ولكنهم يتصورن بأنهم كائنات وجدت هكذا، ومروا بتجارب وبمراحل من التطور التي وصلت بهم أخيرا من الأرواح إلى الآلهة، ومن الآلهة إلى إله واحد (25).

إذن ليس لدينا أدلة حسب قول المؤلف لأنه لم يكن أحد كما قال الله تعالى في القرآن الكريم " مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا " (الكهف، أية 51)، والتصور لا ينفع في مثل هذا الأمر، لأنه بيننا وبين هؤلاء آلاف وآلاف من السنين، ومن ثم لا نستطيع أن نتصور الحياة التي كان عليها هؤلاء (26).

وهناك من قال أن ظاهرة التدين وجدت في النفس الإنسانية بسبب علاقة الإنسان بالطبيعة، فالإنسان يوجد في كونا كبير فيه كائنات كثيرة وكبيرة، تؤثر في حياته، ولكنه يرى ظواهر كثيرة من الطبيعة الغامضة، والقاسية التي تؤثر في حياته تأثيرا مباشرا، ولا يستطيع مقاومتها، فمثلا الزلازل، فلا أحد يستطيع مثلا أن يقاوم الزلازل، وقد يعرف الآن بعد العلم أنه لا محالة زلزال قادم لا محالة، ولكنه لا يستطيع أن يمنع هذا الزلزال، والزلزال يأتي فيقلب الحياة رأسا على عقب، ويدمر مساكن وتنخسف به قرى ومدن .. إلخ ؛ والبراكين نفس الشيء فالناس تعرف، ولكن لا تستطيع أن تمنع، لأن هذا يمثل ثمرة لظواهر موجودة في باطن تؤدي إلى خروج هذه البراكين الصاعقة والمدمرة، والتي لو تسلطت على بيئة من البيئات فإنها تبيدوها، ولدينا الصواعق الكهربائية، والبرق، والرعد، والفيضانات، والجفاف، والأوبئة، وهذه تمثل ثمرة لوجود كائنات طبيعية قهارة موجودة في الطبيعية، تُشعر الإنسان بالضعف وبالعجز، ولذلك لجأ إلى أشكال من العبادة البسيطة لهذه الظواهر الخارقة، وهي نفس الحكاية حيث يرى أن هذه الظواهر القاهرة الذي لا يستطيع أن يتعامل معها، ثم يتقدم إليها بأنواع من العبادة، حتى يمنع شرها عنه، لأن قوتها قاهرة، كاسحة، ومدمرة،ولذلك عبد البدائيون في أماكن مختلفة من العالم الشمس، والنجوم، والقمر، والرعد، والثعابين، وقدموا قرابين لأحجار وصخور ونباتات، وهكذا ربما عبد البدائيون بعض هذه المظاهر التي كانت تمثل لديهم بشير خير كالشمس على سبيل المثال (27).

وهناك نوع ثالث من التفسير يذكره المؤلف، وهو التفسير الماركسي، والذي يفسر كل شيء بظواهر مادية، ولهذا فالتفسير الماركسي ليس فيه إيمان بإله، وكان أصحابه وفلاسفته يقولون إن الدين أفيون الشعوب، وأنه لا يوجد إله، ولا توجد آخره، ولا يوجد بعث، وحتى النفس كانت تُفسر تفسيرا ماديا، حيث يقولون أن النفس شيء موجود في الجسم، وتعمل كما يعمل القلب في البدن في ضخ الدم، أو المخ في اكتساب المعلومات، أو البصر في النظر، فليس لها وجود حقيقي مستقل، وليست جوهرا روحيا يعلوا على هذا الجسد، وهو الذي يحرك الجسد والأجهزة، ولذلك يرى المؤلف أن الماركسيين لم يصلوا إلى إثبات التدين ولكنهم انتهوا إلى رفض التدين والتخلص حتى من الدين، واللجوء إلى الإلحاد، وهنا كما يرى المؤلف تفسير عجيب الشأن لأنه لا يحل المشكلة،ولكنه يعقد المشكلة، لأن هناك ظواهر تدل على استجابة وعلى تواصل بين الإنسان وهذه القوى الموجودة في الكون (28).

وهناك رأيا آخر يقول عنه المؤلف وهو رأيا نجد فيه بعض الصعوبة، وهو ما يتعلق بأوجست كونت، وهذا رجل فيلسوف من فلاسفة المدرسة الاجتماعية الفرنسية، واتجاه مادي أيضا، ولكنه لا يذكر المسألة على النحو الذي سبقت الإشارة إليه في التفسيرات الثلاثة السابقة، ولكنه يتحدث عن أن الإنسان قد مر بمراحل، وأن العقل الإنسان قد مر بهذه المراحل، وهذه المراحل الثلاثة: حالة لاهوتية، وحالة ميتافيزيقية، وحالة واقعية علمية (29) .

ويخلص المؤلف في هذا المبحث إلى أن الموقف الديني يرتضي الرأي الذي يذهب إلى أصالة الدين في النفس الإنسانية، وأنه ليس طارئا عليها، أو أجنبيا عنها وقد جاء في كلام الله عز وجل ما يعضد ذلك منها قوله:" فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" (الروم الآية 30)، وكان من حديث رسول الله – صلي الله عليه وسلم -:" ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" (30) .

أما المبحث وهو بعنوان " حاجة الإنسان إلى الدين الإلهي"، وفيه يرى الكاتب بأنه إذا كان الإنسان – من وجهة النظر الدينية – كائن متدين، بل إنه شيء كامن فيه، فإن الحاجة إلى العقيدة – إذن – حاجة فطرية أصيلة، تدفع الناس إلى الاستجابة لها دون إحساس بالنفور أو الكراهية، ويظل الأمر على هذا النحو، ما دامت النفس على فطرتها الأصلية التي هي عند المؤمنين أثر من أثار الميثاق الأول الذي أخذه الله تعالي البشرية (31) .

بيد أن الحاجة إلى العقيدة في نظر المؤلف ليست منحصرة في هذا الدافع الفطري وحده، بل إن هناك دوافع وأسبابا أخرى تقدم للإنسان حوافز التدين، بما تقدمه له من خيرات وكمالات تتعلق بحياته وأخلاقه، وخصائصه النفسية وأحواله الاجتماعية، ونهضته الحضارية، بحيث بجد العقل نفسه مدفوعا إلى التدين، إن لم يكن لحكم الطفرة وحدها، فبحكم هذا الخير الذي يتحقق له – فردا أو جماعة – من وراء التدين والاعتقاد الصحيح (32).

ثم يشير المؤلف لبعض هذه الدوافع، فيذكر منها الجانب العلمي وهو الجانب الذي يعول على أنه من الأمور المهمة التي تمنحها العقيدة الصحيحة للإنسان أنها تعطيه تفسيرا لوجوده، ولوجود الكون من حوله، وهو تفسير لا يقع أسيرا للنظرة الجزئية، ولا ينحصر في إطار اللحظة الحاضرة، ولا يقف عند ظواهر الأشياء، وإنما هو تفسير يتسم بالشمول للماضي والمستقبل، للمبدأ والمصير، الظاهر وما وراءه من العلل والأسباب (33).

بيد أن العلم في نظر المؤلف لا يكفي بسبب مفهومه التجريبي عن بداية الوجود، لأنه لم يشهد تلك البداية، ومن ثم فإن تصوراته تمثل نوعا من الاحتمال الذي لا يرقي إلى اليقين (34)، علاوة على ما يتصف به العمل من نسبية، حيث يعد التطور سمة من سماته، وفي هذا التطور تتم مراجعته النتائج والنظريات والأفكار السابقة، كما يتم العدول عما يكشف العلم عن صوره أو خطئه منه (35).

وإذا كان العلم –نتيجة لما سبق – لا يستطيع – وحده – أن يمنح الإنسان ما هو محتاج إليه من يقين وسكينة، ومعرفة محيطة شاملة، فإن الفلسفة ففي نظر المؤلف، ليست أفضل حالا في هذا الشأن، مع جهودها الدائبة لارتياد آفاق ومجالات لا يستطيع العلم – بسبب منهجه – أن يصل إليها، ومنها مجال الميتافيزيقا وهو مجال تسعى الفلسفة منذ قديم إلى دراسته ومعرفته، وقد رفعته بين علومها إلى الدرجة العليا، كما نجد ذلك لدى أفلاطون وأرسطو ومن سار على نهجهما من الفلاسفة قديما وحديثا (36).

ولكن الفلاسفة – على الرغم من هذه الجهود والمحاولات، وعلى الرغم مما وصلت إليه من آراء ونظريات – لا تصلح لكي تكون بديلا عن الدين في نظر المؤلف ؛ ذلك أن الفلسفة – بصفة عامة – لا تخلو – هي نفسها – من تأثير الدين، حتى إنه ليمكن القول بأن الدين هو أصل كل تفكير فلسفي بما في ذلك الفكر الإغريقي، فهو يزوده بمجموعة من الصور،يختار من بينها تمثلا أوليا للكون، وهو يزود الفلسفة بمعنى اللامتناهي، والعدل والظلم، والفاني والخالد، وهذه كلها معان تتجاوز مستوى الملاحظة الوضعية البسيطة (37).

علاوة على أن الفلسفة في نظر المؤلف تتسم بأنها ذات طابع نظري، يبدو فيما يقوم به الفلاسفة من نشاط عقلي في تحديد المشكلات الفلسفية، وبذل الجهود للوصول إلى حلول لها، وقد لا يتمكن الفيلسوف من تحقيق ذلك، بسبب صعوبات المشكلات ـو تعقيدها، ويظل الأمر – في جملته – مقتصرا على هذا النشاط العقلي المجرد الذي لا يلمس الإرادة الإنسانية ولا يحركها، ولذا كانت الفلسفة – في أكثر الأحيان- عاجزة عن التأثير والتغيير للواقع، وهي لا تفعل ذلك إلا إذا تحولت عند أصحابها إلى عقيدة أو أيديولوجيا، أما الدين فإنه قادر على مخاطبة عقل الإنسان ووجدانه، والـتأثير في شعوره وإرادته، ومن ثم فإنه قادر على تغيير فكره وسلوكه . وهذا واضح في الحركات الدينية الكبرى التي استطاعت – على عكس الفلسفة – أن تغير الأفراد، وأن تبدل الجماعات، وأن تنقلها من حال إلى حال (28).

والحال هنا يتمثل في المجال النفسي كما يرى المؤلف، فإذا كانت العقيدة الصحيحة هي التي تقدم للإنسان ذلك التفسير الصحيح الشامل للوجود الكوني والإنساني – كما سبق القول- فإنها تؤثر – كذلك – في النفس تأثيرا عميقا وتهيئتها للتزود بعدد من الخصائص الإيجابية التي تؤثر في نظرتها للحياة، وفي موقعها من الآخرين، وفي سلوكها إزاء ما يعرض لها من أحداث، أو ما يقع لها من ابتلاء، وتتميز النفس المؤمنة – في العادة – أو بحسب ما ينبغي أن يكون – بالسكينة والطمأنينة النفسية . وتبرأ – بسبب إيمانها – من الوقوع في هاوية القلق والحيرة والإحساس بالشقاء . وسر ذلك أن الإيمان بالعقيدة الصحيحة يجعل النفس موصولة بالله تعالي، خالق كل شيء وربه ومالكه المهيمن (39) ؛ وهكذا يستظل المؤمن في حياته بظل العقيدة، التي تجعل قلبه موصولا بالله تعالى، بما يتصف به من علم محيط وإرادة شاملة، وقدر نافذ، ورحمة عامة جامعة، فيحول الإيمان ضعفه إلى قوة، وخوفه إلى أمن، وحيرته إلى سكينة وهدى، ويكتسب من الخصائص النفسية ما يتطابق مع هذه العقيدة التي استقرت في ضميره (40).

وثمة نقطة جديرة بالإشارة يؤكد عليها المؤلف في هذا المبحث، وهي أن للعقيدة أثر لا يمكن تجاهله في مجال الأخلاق، حيث تقدم إلى أتباعها جملة من القيم الأخلاقية، التي تطالبهم بالالتزام بها، وتحذرهم من الإهمال لها، وإذا أخذنا الإسلام مثلا فسوف نلاحظ أن ما دعا إليه من تشريعات، وما أوصى به من وصايا يرتبط بالأخلاق ارتباطا وثيقا، وينطبق هذا – كذلك- على جانب العقيدة فيه، ويمكن القول بأن درجة الالتزام تتناسب مع مكانة العقيدة في نفس المؤمن قوة وضعفا (41) .

وفي نظر المؤلف تتميز الأخلاق المنبثقة من العقيدة بمزايا عديدة من أهمها: أنها ترتكز على قاعدة راسخة من يقظة الضمير، وصحوة الشعور، بحيث تكون الرقابة على الفعل رقابة ذاتية داخلية، وعندئذ يكون الإقبال على الفعل أو الامتناع عنه متفقا مع اتجاه القلب، المحكوم بما تغرسه العقيدة فيه من مراقبة الله الذي يعلم السر والنجوى (42) .

وهكذا يأتي الدين في نظر المؤلف، ليكون كما كان دائما طوق النجاة الذي تبحث عنه البشرية، وهو رحمة الله إليها في كل حين، ولكنها قد تعرض عنه جهلا أو غرورا أو استكبارا، ولكنها ما تلبث أن تحس أنها محتاجة إليه، نتيجة لما تعانيه من حيرة وقلق واغتراب، واحساس بوحشة الوجود وكآبته، فإذا آبت إلى الدين وجدت في رحابه، من نور الوحي، وهدي النبوة، وسكينة الإيمان ما يهديها سواء السبيل، ولقد ظل هذا النور الإلهي المتمثل في الوحي والنبوة يتجدد: عصرا بعد عصر، إلى أن ختمه الله بالإسلام الذي أنزله على رسوله محمد – صلي الله عليه وسلم- وقد أكمل الله – تعالى – به الدين كله، وجعله وارثا لما في الرسالات كلها من الحق والخير والهدى . ومصححا لما ألحقه البشر بها من التغيير والتبديل، ولهذا جعله الله تعالي خاتما ومهيمنا على الكتاب كله (43).

أما المبحث الرابع وهو بعنوان " توحيد الله تعالي"، وهذا المبحث كما يرى المؤلف يعول على أنه إذا كان الإيمان بالله هو جوهر العقيدة ومحورها، فإن هذا الإيمان لا يكون صحيحا مقبولا إلا إذا صحبته عقيدة التوحيد، وهي تعني إثبات الألوهية لله وحده، ونفيها عمن سواه فهو – وحده – الإله الحق، رب كل شيء، ومالك كل شيء، ليس له ند ولا شريك (44)، وأن ما في الكون من سنن ثابتة، وقوانين مطردة، ونظام محكم يدل على وحدانية الإله الخالق لهذا الكون، لأنه لو اشترك في الخلق أكثر من إله لفسد الوجود، لأن من شأن الإله أن يكون تام العلم، نافذ الأمر، مطلق الإرادة، كامل القدرة . فإذا كان كل واحد منهم متصفا بهذه الصفات فلابد من أن تظهر آثارها في الوجود، وعندئذ يقع التنازع والاختلاف الذي يؤدي إلى الفساد، ويتفق هذا مع ما استقر فطرة البشر من أن تعدد الرئاسة للشيء الواحد يؤدي إلى تضارب الآراء واختلاف الأهواء، ومن ثم إلى الفساد والاضطراب، فإذا كان هذا من صفات البشر الذين يتصور انقياد بعضهم لبعض، فيكيف يكون الأمر بالنسبة للألوهية التي تقتضي الكبرياء والعلو والهيمنة والقيومية (45).

وهكذا يكون الإيمان بالتوحيد في نظر المؤلف مستقيما مع دواعي الفطرة التي غرسها الله تعالي في الإنسان عند خلقه له، ويعتقد هذا مع اعتقاد كثير من أصحاب الدراسات الإنسانية والاجتماعية الذين لاحظوا وجود عقيدة التوحيد لدى بعض القبائل البدائية المنعزلة عن الحضارة، وهي قبائل متفرقة في مواطن كثيرة من الأرض كأستراليا وأمريكا، وقد انتهت هذه الدراسات إلى أن الروح الإنسانية إذا كانت قادرة على أن تعرف الله فإنه يجب أن تكون قادرة على إدراك أنه لا يوجد إلا إله واحد، وهذا يؤكد أن الدين الأول الذي اعتنقه الإنسان القديم كان توحيديا وليس تعدديا (46) ؛ وعلى الرغم من أن التوحيد هو الموافق للفطرة، فقد انحرفت عنه البشرية في فترات كثيرة من تاريخها، ولذلك كانت المهمة الأولى للأنبياء أن يقاوموا هذا الانحراف، وأن يعودوا بالناس إلى عقيدة التوحيد الخالصة (47).

وهكذا تكررت دعوة القرآن كما يذكر المؤلف إلى هؤلاء المشركين أن يراجعوا عقولهم، وأن يفيقوا من غفلتهم، وان يطيلوا التأمل والنظر في ملكوت السماوات والأرض، وفي أنفسهم، لأنهم سيجدون- عندئذ – أبلغ الدلالات على أنه لا يستحق وصف الربوبية إلا إله واحد هو الله الواحد القهار (48).

وإذا ما انتقلنا إلى المبحث الخامس وهو بعنوان " الإيمان بالوحي والكتب الإلهية" ، فكل من أوحي إليه لا يستطيع أن يجادل نفسه هل هذا صدق أو غير صدق، ويحصل له اليقين الجازم الذي لا يقبل الشك، وهو أشد من يقينك بالمرئيات والمسموعات، وأنه يصل إلى بشاشة القلوب، والمسموعات والمرئيات يمكن أن تشكك فيها؛ لأن البصر يتفاوت والسمع يتفاوت، فلذلك كان الوحي أبلغ وسائل العلم (49).

والوحي قول الله فلذلك لابد أن يكون حقاً، وهو مأخوذ من القرآن؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ (يوسف:111)، فلا يمكن أن يختلقه أي واحد (51).

وأشار المؤلف إلى أن الإيمان بخاتمة الوحي على خاتم الأنبياء أساس الإيمان بقضية الوحي الكلية، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بدعا من الرسل، بل كل واحد في مسيرة إخوانه الأنبياء الأكرمين، قال تعالى: ﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [الأحقاف:9]. وقال سبحانه: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا* وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء:163، 164).

والإيمان بالكتب السماوية في نظر المؤلف هو الركن الثالث من أركان الإيمان، والكتب السماوية هي الكتب والصحف التي تحتوي على كلام الله تعالى الذي أنزله على رسله عليهم السلام سواء في ذلك ما ألقاه مكتوباً بيده سبحانه وتعالى كمثل التوراة التي قال تعالى فيها «وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا»، (الأعراف: 145 وما أنزله عن طريق المَلَك وحياً ومشافهة ثم كُتِبَ فيما بعد في الصحف أو القراطيس كمثل القرآن الكريم الذي تمت كتابته في المصاحف في عهد الخليفة أبي بكر رضي الله عنه ، وفي عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه نسخ المصحف سبع نسخ جديدة وزعت على عواصم البلاد الإسلامية، فقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محفوظ في الصدور وفي السطور(25).

  وهذا الركن أصل من أصول العقيدة والدين، فمن أنكر شيئاً مما أنزل الله على رسله منها فقد بطل إيمانه، قال تعالى "ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر "، (النساء: 631) (35).

أما المبحث السادس فيدور حول الحوار المسيحي الإسلامي ؛ وتنطلق فكرة الحوار الإسلامي-المسيحي كما يرى المؤلف من أهميته في تبادل الأفكار والمفاهيم على المستويات المحلية والعربية والدولية، وفي أثره الواضح في بناء جسور الثقة بين المتحاورين، وتعميق التفهّم والتفاهم لديهم ومعهم، خاصة في هذا العصر الذي لم يعد باستطاعة أي بلد أو مجتمع في عالمنا - بفضل التقنيات الجديدة في وسائل الاتصال الجماهيري - العيش بمعزل عن التيارات الإقليمية والعالمية. والحوار إحدى الوسائل للتواصل بين هذه التيارات الفكرية والثقافية ومتابعتها. وكانت الغاية مـن هذا الحوار هي تقديم تصـور متكامل عن منظـــومة المثل والقيم والمبادئ والمعاملات في الإسلام، بحيث يتضح - من خلال هذا التصور - المشروع الثقافي الإسلامي، وبحيث تتاح الفرصة ليتفاعل ذلك المشروع مع الخطاب الحضاري العالمي ويؤثر فيه، بفضل ما له من أصالة وقدرة على النمو والتطور والعطاء، وبذلك يسهم هذا الحوار في تقديم الصورة الصحيحة عن الإسلام (54).

وفي رأي المؤلف إلي أنه لطالما اتّسمت العلاقات بين المسلمين والمسيحيين بالعنف تارة وبالسّلم تارة أخرى مدًّا وجزرًا، وإنّ هذه الصّورة بشقّيها –السّلبي والإيجابي- هي التّشكيلة الأساسيّة لتلك العلاقات، وإنّها لذات مفهوم واسع وشامل ومتشعّب يتقاطع فيه مجموعة كبيرة من الجوانب والمجالات التي تعبّر عن واقع الحياة وملابساتها، وإذا كان الشّقّ السّلبي من هذه العلاقة، مثله ذلك الصّراع المرير الذي دارت رحاه بين الفريقيْن ردْحًا من الزّمن، مُخلّفًا من جرّاء حُروبه آلافًا من القتلى والمشرّدين والمُنكّل بهم، إضافة إلى الخسائر المادّيّة في المُنشآت والمَعالم، وليس ذلك فحسب، بل إنّ الانهزام النّفسي كان الشّعور الأكثر خطورة وحضورًا في نفوس المتضرّرين والمُنهزمين من كلا الجانبين، فإنّ الشّقّ الإيجابي منها مثّله ذلك التّعايش والعيش المُشترك النّاتج عن تجاور المسلمين والمسيحيين، الذي غالبًا ما يؤدّي إلى إحداث حوارٍ فيما بينهما؛ تعبيـــــــرًا عن المودّة والأُلفة والتّسامح والتّعاون؛ لذلك أصبح هذا الحوار منسوبًا إليهما أكثر من غيرهما من الشّعوب والأُمم الأُخرى، فتشكّل من جرّاء ذلك مصطلح "الحوار الإسلامي المسيحي"؛ هذا المصطلح الذي يعبّر عن تلاقي أتباع الدّيانتين سلميًّا على طاولة واحدة أو في واقع الحياة لتقاسمها بحُلوِها ومُرّها بما يُعرف بالحوار العفوي، ولتبادل الأفكار والخبرات، ومعالجة كثير من القضايا؛ جزئيّة كانت أو كلّيّة، داخليّة أو خارجيّة، إقليميّة أو عالميّة، وقد تبلور هذا المُصطلح وصُنع صناعة تدريجيّة على مدار أزيد من أربعة عشر قرنًا، إلى أن أصبح حركة مكتملة في الوقت الحالي، قائمة بذاتها من جميع النّواحي، ومن أجل التّعرّف على مفهوم هذه الحركة ورصد نشأتها وتطوّرها (55).

وأخيرا يؤكد المؤلف على أن الإسلام لا يرفض من حيث المبدأ فكرة الحوار، بل إن الإسلام يفسح صدره منذ البداية للجدال بالتي هي أحسن، كما لا يصح أن ينهض بعبء هذا الحوار إلا من اكتملت فيهم العدة للقيام به، بأن يكونوا من أهل العلم الشامل الدقيق بالإسلام: عقيدة وشريعة وأخلاقا وتاريخا ومقاصد وغايات، وأن يكونوا من أهل العلم بالأديان الأخرى وما جرى حولها من دراسات، على يد المسلمين، أو على يد أصحابها . وينبغي في كل الأحوال ألا يخضع الحوار للمساومة على حساب أصول العقيدة وثوابتها، وأن يكون بعيدا عن مجاملات السياسة وضغوطها . وعلى المتحاورين أن يكونوا على بينة من الأهداف المرجوة من الحوار، وان يشتركوا بعناية في تحديد نقاطه ومسائله، وأن يحسنوا الاستعداد له، كما يفعل ذلك من يقومون بمحاورتهم، وألا يتركوا الأمر للارتجال والمفاجآت . لقد صار الحوار مطلبا إنسانيا عاما، وهو يقتضي أن تتعاون البشرية كلها من أجل تلبيته، تحقيقا لسعادة الإنسان وكرامته وسموه الروحي والأخلاقي، وليس هناك من هو أولى وأجدر بالقيام بذلك ممن نالوا شرف العمل في حقل الإيمان (56) .

أما المبحث السابع والأخير وهو بعنوان " الاستشراق" ، وتعد قضية الاستشراق في نظر المؤلف ظاهرة علمية وثقافية غريبة ذات تاريخ طويل، يرجع لدي بعض الدارسين إلي ألف سنة . فهو من حيث الزمان نتاج امتداد زمني قديم، ثم هو من حيث المكان الجغرافي ذو جذور ممتدة في بلاد غريبة كثيرة، بحيث يمكن القول بأن كل الدول الغربية – تقريباً – قد أسهمت فيه وإن تكن بريطانيا وفرنسا ثم أمريكا وألمانيا في العصر الحديث هي صاحبة الجهد الأكبر فيه سواء علي مستوي المحتوي الحضاري والثقافي للشرق الذي اهتم به المستشرقون أو علي مستوي تنوع الجهود العلمية النظرية والعملية التي بذلها هؤلاء لتحقيق غايات متعددة (57).

ثم تتبع المؤلف التطور التاريخي لعلاقة الإسلام بالغرب، وصولاً إلى الاستشراق الحديث. فعلى طول الخط التاريخي كان الاتصال قائماً بين العالَم الإسلامي والغرب. ولقد كان لمناطق حيوية مثل الأندلس وصقلية وبلاد الشام نصيباً أوفر من غيرها في الاتصال بالغرب، فقد كانت بمثابة جسور تواصل ومناطق عبور بين الشرق الإسلامي والغرب الأوروبي. ولقد شكلّت مكتبات الأندلس مكاناً أثيراً لدى الكثيرين من العالم الغربي، إذ أكبّوا على تعلّم العربية وترجمة المؤلفات العربية إلى اللغة اللاتينية. أما صقلية فقد دخلها النورمان وحافظوا على ثقافتها العربية، فصارت نقطة التقاء مع المسلمين (58).

وفي مقاربة لطروحات الكاتب التي تناولت الاستشراق منظوراً إليه من ناحية تاريخية، فقد كلام الكاتب عن الاستشراق والتبشير ليُكمّل الصورة، لناحية أن الاستشراق بدأ أول ما بدأ كإرهاصٍ لبُعد ديني؛ فقد حاول الاستشراق أن يتغلغل في النسيج الإسلامي من خلال ممارسته للتأثير في حقل التربية والتعليم (58).

وبعد ذلك انطلق الكاتب ليكشف عن المستور في علاقة الشرق بالغرب. وقد عمد المؤلف إلى نقل بعض من وجهات نظر لِمَن كتبوا بشكل مسيء عن الإسلام، ولآخرين –تحديداً من البحّاثة الغربيين- ليفندوا بعض الطروحات التي أساءت للإسلام والمسلمين. وقد أتت أول هذه الهجومات على القرآن الكريم بصفته تأليفاً من قبل النبي محمد، وليس وحياً من الله (60).

وبرغم ذلك فلقد تناول المستشرقون التراث العربي والإسلامي كما يرى المؤلف بالكشف والجمع والصون، والتقويم والفهرسة، لكنهم لم يقفوا عند هذا الحد، بل تجاوزه إلي حيث دراسة هذا التراث وتحقيقه ونشره وترجمته والتنظير له والتصنيف فيه (61).

ولم تقف جهود المستشرقين عند حد الطبع والنشر، بل حاولوا كما يرى المؤلف أن يكشفوا معالم الحياة العلمية والعقلية في الإسلام، وأرخوا لها جملة وتفصيلاً، فكتبوا عن العلم والعلماء يشرحون الآراء والمذاهب أو يترجمون للأشخاص والمدارس، وقد يقصرون بحثهم علي بعض الأشخاص والنظريات والألفاظ والمصطلحات (62).

بيد أن حركة الاستشراق هذه بتياراتها المتلاحقة، قد أفرزت أحكاما تجنت فيها علي العرب والمسلمين تجنيا موغلا، وأثمرت تعصبا ليس له مدي، من حيث شاء بعض المستشرقين أن يبخسوا العرب والمسلمين حقهم في السبق والتقدم والابتكار في شتي مجالات العلم العربي، مع أنه – أي المستشرقين – كانوا أولي الناس وأحراهم بالاعتراف بهذا الفضل، وذلك بما صار لهم من صلة وثيقة بهذا التراث فهما وتمثلا واستيعابا في إطار دراساتهم العلمية التحليلية المقارنة (63).

لكن قليل القليل من رجال الاستشراق كانوا أمناء مع أنفسهم ومع الحقيقة والتاريخ، فقالوا بما أملته عليهم ضمائرهم الحية وروحهم العلمية الموضوعية، ومن ثم قرروا لعلماء ولفلاسفة العرب ما هم جديرون به ويستحقونه من فضل وعرفان (64).

5- خلاصة:

لعل كتاب عبد الحميد مدكور يجيب عن عدد من الأسئلة التي تتعلق بالعلاقة الأديان المختلفة انطلاقا من التجربة الإسلامية. وليس من باب المبالغة لو قلنا إن هذا الكتاب يسد ثغرة كبرية في الفكر العربي المعاصر المنفتح على الحضارات الأخرى؛ فقد أوضح المؤلف جملة التطورات التي عرفها الفكر الدين الإسلامي فيما يخص الحوار مع المسيحية والاستشراق، وانتهى بالقول إن التوحيد هو النواة الصلبة للعقائد.

وقد اعتمد الدكتور مدكور على ما يزيد من مئة مرجع ومصدر في غالبيتها عربية وإسلامية، إضافة إلى مجموعة لا يأس بها من المراجع الأجنبية التي دعم بها بحثه مشفوعة بشواهد من القرآن الكريم وكأحاديث نبوية وآراء الصحابة، وهذا ما أكسب الكتاب المنهج البحثي الدقيق والتتبع الموضوعي لحركات تاريخ الأديان.

بقى أن نقول إن الدكتور مدكور يتمتع بروح الباحث المنهجي بأسلوب علمي موضوعي بعيدا عن الانفصال والنظرة الجانبية، والكتاب يعد دراسة تدعو إلى البحث والتقصي وهو إسهام كبير في إظهار صورة الدين الإسلامي، وأثره في حياة الشعوب .

كذلك لا ننسى اعتماد الدكتور مدكور في كتابه هذا أسلوبا بحثيا مشوقا بلغة واضحة وأفكار محددة وجمل موجزة بعيدة عن الحشو والإطالة، ولذا جاء الكتاب خلاصة فكر وعرض توجهات وسردا لمبادئ.

وأختم سياحتي لهذا الكتاب في كلمة كلمة، فأقول إن هذه التساؤلات والإشكالات، إنما هي من جنس العمل الفلسفي للمفكر المبدع عيد الحميد مدكور الذي هو قيمة مضافة حقيقية إلى فكرنا العربي المعاصر .

***

أ. د. محمود محمد علي

...........................

الهوامش

11- د. عبد الحميد عبد المنعم مدكور: دراسات في الأديان، ص 6.

12- المصدر نفسه، ص 20.

13- المصدر نفسه، ص 21-29.

14- المصدر نفسه، ص 28.

15- المصدر نفسه، من ص 28 إلى ص34.

16- المصدر نفسه، ص 34.

17- المصدر نفسه والصفحة نفسها.

18- المصدر نفسه، 35.

19- المصدر نفسه والصفحة نفسها.

20- المصدر نفسه، ص 36.

21- المصدر نفسه والصفحة نفسها.

22- المصدر نفسه، ص 37.

23- المصدر نفسه والصفحة نفسها.

24- المصدر نفسه، ص 38.

25- المصدر نفسه، ص 39.

26- المصدر نفسه والصفحة نفسها.

27- المصدر نفسه، ص 40.

28- المصدر نفسه، ص 41.

29- المصدر نفسه والصفحة نفسها.

30- المصدر نفسه، ص46.

31- المصدر نفسه، ص 51.

32- المصدر نفسه، ص 52.

33- المصدر نفسه والصفحة نفسها.

34- المصدر نفسه، ص 53.

35- المصدر نفسه، ص 54.

36- المصدر نفسه، ص 55.

37- المصدر نفسه، ص 58.

38- المصدر نفسه، ص 60.

39- المصدر نفسه، ص 63.

40- المصدر نفسه، ص 66.

41- المصدر نفسه، ص 77.

42- المصدر نفسه، ص 78.

43- المصدر نفسه، ص 82.

44- المصدر نفسه، ص 84.

45- المصدر نفسه، ص 87.

46- المصدر نفسه، ص 90.

47- المصدر نفسه، ص 92.

48- المصدر نفسه، ص 105.

49- المصدر نفسه، ص 109.

50- المصدر نفسه ، ص 53.

51- المصدر نفسه، ص 112.

52- المصدر نفسه، ص 114.

53- المصدر نفسه، ص 115.

54- المصدر نفسه، ص 155.

55- المصدر نفسه، ص 155-177.

56- المصدر نفسه، ص 199-200.

57- المصدر نفسه، ص 205-206.

58- المصدر نفسه، ص 207.

59- المصدر نفسه، ص 208.

60- المصدر نفسه، ص 209.

61- المصدر نفسه، ص 210.

62- المصدر نفسه ونفس الصفحة.

63- المصدر نفسه، ص 211.

64- المصدر نفسه، ص 212.

في المثقف اليوم