قراءة في كتاب

بدر العبري: علم الكلام الجديد

بدر العبريسعدتُ بهديّة جليلة من المفكر العراقيّ عبد الجبّار الرّفاعيّ لكتابه القيّم «مقدّمة في علم الكلام الجديد»، طبعة دار الشّؤون الثّقافيّة العامّة في بغداد 2021م، والكتاب إضافة مهمّة للمكتبة العربيّة والإسلاميّة خصوصا، والإنسانيّة عموما، ويتكوّن من أربعة فصول، ويعتبر الفصل الأول الّذي يناقش ملخص نشأة علم الكلام وتطوّره وعجزه أكثر فصول الكتاب إسهابا، وأخذ ما يقرب نصف الكتاب؛ لذا نقرأه بصورة عامّة في هذه المقالة، ولنا مقالة أخرى مع فصوله الثّلاثة المتبقية، وهناك نرجئ رأينا في الموضوع.

وبطبيعة الحال هذا الكتاب يعتبر امتدادا للخطّ الّذي يشتغل عليه الرّفاعيّ في تجديد التّراث الدّينيّ من خلال النّص الدّينيّ ذاته، وله في هذا مشاركات عدّة، ولعلّ أشهرها كتبه الأربعة: الدين والكرامة الإنسانية، والدّين والاغتراب الميتافيزيقيّ، والدّين والظّمأ الأنطلوجيّ، وإنقاذ النّزعة الإنسانيّة في الدّين.

وما يميّز هذا الكتاب أنّه يخصّصّه في جزئيّة معينة في الإصلاح الدّينيّ الإسلاميّ، من خلال علم الكلام الإسلاميّ، الّذي هو الشّق اللّاهوتيّ في الدّراسات التّراثيّة الإسلاميّة، فيرى الرّفاعيّ أنّ «تجديد الدّين يبدأ بتجديد علم الكلام، أيّ بداية للتّجديد في الإسلام لا تبدأ بعلم الكلام، ومسلّماته المنطقيّة والفلسفيّة؛ فإنّها تقفز إلى النّتائج من دون المرور بالمقدّمات». لهذا يرى أنّه لا يمكن إصلاح العالم الإسلاميّ والعربيّ بمعزل عن الدّين، و«كلّ بداية للتّجديد في عالم الإسلام تتجاهل الدّين تخطئ الطّريق»، فالدّين «يمكن أن يكون عاملا أساسيّا في البناء، كما يمكن أن يكون عاملا أساسيّا في الهدم، ويعود الاختلاف في ذلك إلى الاختلاف في فهم النّاس للدّين»، وعدم تجديد الدّين يؤدي إلى التّديّن السّلبيّ، فيمكن «أن يكون التّديّن عنيفا حين لا يُفهم الدّين إلا بوصفه رسالة للموت، ولا تقرأ نصوصه إلا قراءة مغلقة عنيفة، ويمثّله الأفراد والجماعات على أنّه إعلان لحرب لا تنقضي على كلّ مختلف في المعتقد»، لهذا وجب تجديد الدّين، وتجديده منطلق ابتداء من تجديد علم الكلام الإسلاميّ.

وعلى هذا كانت محاولات لتجديد علم الكلام الإسلاميّ، بدأت مع النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر الميلاديّ، حيث «جاءت الدّعوة للانتقال من علم الكلام القديم إلى علم الكلام الجديد استجابة لما فرضته الأسئلة الحائرة للإنسان، وقلقه الوجوديّ، وشحة المعنى في حياته، وشعوره بعدم الأمان، في عالم يتسارع فيه، ويشتدّ إيقاع تراكم المعرفة، واتّساع آفاقها ولا يتوقف العلم والتّكلونوجيا عند نهايات مسدودة، فكما أنّ الأسئلة لا تنتهي؛ كذلك الأجوبة لا تنتهي، والمعرفة والعلوم والاكتشافات والاختراعات لا تنتهي، إذ تتوالد على الدّوام في سياق الأجوبة أسئلة جديدة، وفي سياق هذه الأسئلة أجوبة جديدة، وهكذا».3329 علم الكلام الجديد

بيد أنّ الرّفاعيّ لم يهتد إلى معرفة أول من استخدم مصطلح علم الكلام الجديد، حيث أنّه ظهر كعنوان كتاب «علم الكلام الجديد» في الهند عام 1903م مع شبلي النّعمانيّ «ت 1914م»، فيشكك الرّفاعيّ أن يكون ظهر ابتداء مع النّعمانيّ، ويرى أنّه ألصق بالمجدد الهنديّ الباكستانيّ سيّد أحمد خان «ت 1898م»، فهو «يصدق على تفكيره الكلاميّ مفهوم علم الكلام الجديد في العصر الحديث».

كما أنّه يرى ضعف كتاب شبلي النّعمانيّ، وحسب تعبير الرّفاعيّ «لا يحمل من الكلام الجديد إلا اسمه»؛ إلا أنّ تجديد علم الكلام كان حاضرا ما بعد سيّد أحمد خان في الهند، كما اشتدّ حضوره مبكرا مع المدرسة الإصلاحيّة في مصر ابتداء، والعالم الإسلاميّ عموما.

لهذا بعد مائة سنة من تأليف النّعمانيّ لكتابه السّالف ذكره؛ يأتي كتاب عبد الجبّار الرّفاعي ليقدّم رؤيته في مقدّمة في علم الكلام الجديد، مستلهما رؤيته الأخرى في ذلك لوضع أسّس هذا العلم وفق ما وصل إليه العقل الإنسانيّ من آلات ومعارف، وليكون مقدّمة استقرائيّة لعلميّ الكلام القديم والجديد.

وعلم الكلام يسمّى أيضا بعلم أصول الدّين، أو التّوحيد، أو العقائد، ويرجّح الرّفاعيّ تسميته بعلم الكلام «لغلبة مسألة الكلام الإلهيّ بوصفها أهم مسائل هذا العلم»، ونشأته ابتداء مرتبطة بنظريّة الإمامة، أي نشأ في جوّه السّياسيّ قبل الانغلاق اللّاهوتيّ، فقد «تصدّرت مسألة الخلاف حول الإمامة تلك البواعث، فور التحاق النبّيّ الكريم بالرّفيق الأعلى، وما فتئت قضيّة الإمامة تستأثر باهتمام العقل الإسلاميّ من وقتئذ، حتّى أضحت من أهم مسائل التّفكير العقائديّ في حياة المسلمين».

ثمّ «بعد تمدّد الإسلام خارج الجزيرة العربيّة، واستيعابه لمجتمعات وإثنيات متنوّعة في الشّام والعراق وبلاد فارس وآسيا الوسطى حتّى تخوم الصّين، ومصر وشمال أفريقيا حتّى الأندلس واجهت المسلمين جملة من الآراء والأفكار الّتي تنتمي إلى الذّاكرة التّاريخيّة للملل والنّحل في هذه البلدان»، لهذا انتقلت مثلا الجدليات اللّاهوتيّة اليهوديّة والمسيحيّة إلى علم الكلام الإسلاميّ القديم كقضايا الصّفات والكلام الإلهيّ والقدر ونحوه.

وفي المقابل تأثّر علم الكلام القديم بالمنطق الأرسطي، وعلى «الرّغم من رفض المتكلمين للفلسفة وطرائق تفكير الفلاسفة؛ لكنّهم قبلوا المنطق الأرسطي، وتعاملوا معه كمسلّمات أساسيّة في البحث الكلاميّ».

وكانت الأجواء في العالم الإسلامي أكثرا انشراحا للثّقافات الأخرى عموما، وللمنطق الأرسطي خصوصا، فظهرت تعدديّة ومناهج مختلفة ولدت في فترة مبكرة، قبل أن يحدث الانغلاق بعد عصر المتوكل العبّاسيّ «ت 247هـ/ 861م»، فعلم الكلام القديم زامن «إطلاق حريّة التّفكير في العقيدة، وتعدّد وتنوّع الآراء والمواقف والنّقولات الكلاميّة»، لينتقل إلى تعطّل وإغلاق الاجتهاد الكلاميّ، كما تعطّل وأغلق الاجتهاد الفقهيّ، ثمّ «أصبح تقليد مؤسّسي الفرق شائعا لا يختلف فيه الكلّ، على الرّغم من الادّعاء بمنع التّقليد في جميع أصول العقائد»، لنصل إلى مرحلة الجمود على فرق كلاميّة تشكلت في ظرفها التّأريخيّ سياسيّا أو ثقافيّا أو مذهبيّا.

لهذا «في نهاية القرن الثّالث عشر الهجريّ «التّاسع عشر الميلاديّ» ظهرت إرهاصات انبعاث، مع تبلور أسئلة جديدة تؤشّر إلى استفاقة التّفكير الكلاميّ، فدبّت الحياة من جديد في علم الكلام»، مع وجود انغلاق أفقيّ أيضا ساد العالم الإسلاميّ، خصوصا في حوزاته الدّينيّة إلى يومنا هذا.

هذا الانغلاق ولّد اغترابات متباينة، نشير هنا إلى أهمّها: الاغتراب الأرسطي، والاغتراب الماورائيّ الميتافيزيقيّ، والاغتراب اللّاهوتيّ، والاغتراب الاجتماعيّ. أمّا الاغتراب الأرسطي فهو اغتراب الآلة، فعلم الكلام القديم حتّى اليوم يستخدم ذات الآلة الأرسطيّة قبل ألف سنة، مع أنّ «المنطق الأرسطي انسحب بالتّدريج من الحياة العقليّة، وتقوّضت سلطته على الفلسفة الحديثة، وعجز عن مواكبة طرائق التّفكير للعقل الحديث»، وهنا يجد الرّفاعيّ تناقضا بين تقبل الآلة الأرسطيّة قديما عند العقل الدّينيّ، وهي آلة غربيّة مستوردة، مع رفض هذا العقل للآلة الغربيّة المعاصرة، فمن «المفارقة أنّ منطق أرسطو المستعار من الغرب اليونانيّ في الماضي، والّذي ما زلنا نتعامل مع منطقه بوصفه مسلّمات نهائيّة؛ نجد أشدّ المدافعين عنه في عالم الإسلام هم أنفسهم أشدّ المناهضين للمنطق والفلسفة والمعارف الغربيّة الحديثة المعاصرة، وكأنّ معطيات العقل الّتي استوردها الآباء من أوروبا أمس يحرّم على الأبناء التّعاطي معها في صيغتها المتطوّرة اليوم بعد أكثر من 2300 عاما على تأليف أرسطو «ت 322 ق.م» لمنطقه في أثينا»، لهذا كان «إسراف المتكلمين في استعارة المنطق الأرسطي، وتوظيف مفاهيمه في صياغة علم الكلام فيما بعد، والاعتماد عليه كليّا بوصفه مرجعيّة للتّفكير الكلاميّ؛ نجم عنه تشبّع التّفكير الكلاميّ بمنهج هذا المنطق، فانحرفت وجهته، وراح يفتش عن عوالم ذهنيّة مجردّة، بعيدة عن الواقع ووقائعه ومشكلاته، فتغلّبت بالتّدريج النّزعة التّجريديّة الذّهنيّة على المنحنى الواقعي في التّفكير الكلاميّ»، فحمل وجهتين سلبيتين: تجرّده عن الواقع قديما، وجموده على ذات الآلة في العقل الجمعيّ الدّيني في الزّمن الحالي. ليتشكل وفق هذا الاغتراب الماورائيّ الميتافيزيقيّ، أو ما يسمّيه الرّفاعيّ باللاهوت الصراطيّ، وهو البحث عن صورة الله، أو ما يمكن تسميته في البحث ما بعد الله، فالمتكلمون من كلّ فرقة اغتربوا في تشكيل صورة الله، وفي الوقت نفسه «يحتكرون صورة الله، بعد أن يرسموها في إطار مواقفهم ومقولاتهم الاعتقاديّة، وآفاق انتظارهم، مع أنّ وجود الله تعالى واحد أحد، لكن لا صورة له واحدة، والإنسان يرى الله على صورته»، «وصورة الله هي أول ممارسة تأويليّة مارسها البشر، إذ اشتقّ أول البشر على صورتهم صورةً لله، ثمّ استمر بنو آدم يصوّرون الله على صورهم المتنوعة».

وتشتدّ خطورة الاغتراب الماورائيّ أو اللاهوت الصراطيّ عندما «يحكم بالمروق والهلاك كلّ من يتبنى معتقدا خارج الصّور الرّاسخة لله في لاهوت الفرق الكلاميّة الّتي ورثها المرء من أبويه بالولادة، فيما يكون الخلاص والنّجاة في الآخرة هو المآل الطّبيعيّ لأتباع هذه الرّؤية الاعتقاديّة». لهذا ترتب على اللاهوت الصراطيّ  غياب مفردة الإنسان من علم الكلام القديم، حيث «لم يدرج المتكلّمون في مؤلفاتهم مبحثا خاصّا بالإنسان، يتناول تأصيل موقف نظري يحدّد موقع الإنسان في سلّم المخلوقات، أي منزلة الإنسان وقيمته بالنّسبة إلى غيره، والهدف من وجوده، وحقوقه وكرامته وحرّيّاته»، بقدر ما «يستغرق علم الكلام التّقليديّ في البحث عن الله وصفاته، وكلّ ما يتصل به، في سياق مستقل عن الإنسان، وعندما يذكر الإنسان فإنّ الحديث عنه لا يشير إلى ما يتصل بطبيعة حياته، وحاجته لمعنى هذه الحياة ... بل لا يكفّ التّراث الكلاميّ عن تجاهل قيمة الإنسان، ونسيان ذاته وكينونته الوجوديّة».

هذان الاغترابان الماورائيّ/ الصراطي ينتج عنهما اغتراب اجتماعيّ، فصورة الله في علم الكلام القديم كما يرى الرّفاعيّ «لا تقترن بالعدل، إنّها صورة السّيد المخيف المرعب، المتمرس في البطش والتّنكيل والعقاب والعذاب»، وفي المقابل «الإنسان عبد مسترق خانع ذليل حقير»، مع أنّه في القرآن - كما يرى الرّفاعيّ - يوجد فرق بين عبيد وعباد، فعبيد مشتقّة من العبوديّة، وعباد من عبادة، وعباد بمعنى أحرار، «لا بمعنى أقنان عبيد مستّلين مجبرين مكرهين»، ولهذا وصف الله عباده بعباد وليس بعبيد.

وحسب علم الكلام القديم «نشأ عن هذا التّصوّر لله لاهوت الاسترقاق، وهذا اللّاهوت بطبيعته ينسج شباكا معقدة لمختلف أنماط العبوديّات الّتي تكبّل حياة الشّخص البشريّ عبر إنتاج العبوديّة الطّوعيّة، والاستبداد العموديّ في مختلف مستويات الاجتماع البشريّ، من العائلة والعشيرة، إلى المدرسة والحزب والدّولة»، «فيصادر لاهوت الاسترقاق حرّيّات وحقوق الشّخص البشريّ الاجتماعيّة، ويكرّس أشكال العبوديّات، ويحجب لاهوت الرّحمة والمحبّة»، «ويجد الخوف تعبيره الاجتماعيّ في الخوف من الحريّة» والفرديّة، والتّفكير العقلانيّ، والتّفكير النّقديّ، والخوف من المعارف الحديثة، والاختلاف، والخطأ، والاعتراف.

لهذا يخلص عبد الجبّار الرّفاعيّ في نهاية الفصل الأول من الكتاب إلى ضرورة تجديد علم الكلام، وينطلق ابتداء من الانتقال من النّص الثّاني أي التّفسيرات والشّروح إلى النّص الأول أي القرآن وما هو ثابت من السّنّة، وهذا يتطلّب تجاوز غربة التّراث، «ذلك أنّ التّراث ينتمي إلى واقع مضى، فالإصرار على استدعائه بتمامه يعني استدعاء ذلك الواقع».

ثمّ التّمييز بين النّصّ الإلهيّ والبشريّ، والمقدّس وغير المقدّس، والدّين والتّدين، مع عصرنة النّصّ، أي أن تكون النّصوص «معاصرة لنا»، و»في كلّ نصّ هامش حر مفتوح للقراءة الجديدة، وذلك ما يمنح هذا النّصّ إمكانات تخطّي» الزّمكانيّة.

وأخيرا إحياء نزعة التّفكير الحر في التّعامل مع النّصّ، ووفق الأدوات المعاصرة، والتّحرر من الهوّيّات المغلقة، مع تعميق النّظرة الجماليّة للنّص المنبثقة من جمال الله، وما يتجلّى به جماله في الكون.

 

بدر العبري - كاتب عُماني، مهتم بقضايا التقارب الإنساني، ومؤلف كتاب «فقه التطرف».

.....................

*المرجع: كتاب مقدّمّة في علم الكلام الجديد، عبد الجبّار الرّفاعيّ، دار الشّؤون الثّقافيّة العامّة، العراق/ بغداد، ط 2021م، ص: 9 - 126.

 

في المثقف اليوم