قراءة في كتاب

نبيل عبد الأمير الربيعي: الحياة الثقيلة التي ادركت الروائي سلام إبراهيم منتصف العمر

نبيل عبدالامير الربيعيالحوار صنعة متخيلة، والكلام اليومي يخاطب من الحيز الواقعي، فقصاصو الواقعية وقفوا أمام موضوعية الحوار طويلاً، وذهبوا إلى أن الواقعية في الحوار لن تتحقق إلا باللهجة (العامية والفصحى)، ملائمة للمستوى العقلي والفكري والثقافي والطبقي للشخصية القصصية معاً، لهذا أجد روايات سلام إبراهيم تنتمي للرواية الواقعية.

تستهويني قراءة روايات سلام إبراهيم لأنها لا تكتفي بحياة كاتبها، بل تتسع، لضرورات تتعلق بما يرويه، إلى طبيعة حياته ومجايليه ممن كان له تأثير في ثقافته تلك الحقبة، بهذا تُطلعني هذه الروايات على مشهد واسع لتلك الأيام الخوالي، ولا تقف عند حياة كاتبها وحده. ويلجأ سلام لاتخاذ من سيرته الذاتية رواية، معبراً من خلالها لتفريغ ما هو محظور في الشخصيات الروائية وفضائها، وقد نحا الروائي نحو إدراج سيرته الذاتية في اشكال نصوص، اتخذ لكل نص عنواناً خاصاً به، وغالباً ما يستغرق سلام برواياته من خلال سيرته الذاتية، الولادة، الطفولة، المراهقة، الشيخوخة، والتي جعلت منهُ روائياً واقعياً مبدعاً، وقد وصف مثل هذه الروايات ليتون ستراشي (بأنها أدق فنون الكتابة).

في زيارتي الأخيرة لمؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع أهداني الصديق حسين نهابة رواية (حياة ثقيلة) للروائي الصديق سلام إبراهيم، وقد علمنا الروائي إبراهيم برواياته الواقعية التي تحكي سيرته الذاتية من خلال فن الكتابة والرواية وهي: (رؤيا اليقين، رؤيا الغائب، سرير الرمل، الأرسي، الحياة لحظة، في باطن الجحيم، إعدام رسام، طفلان ضائعان، كل شيء ضدي).

رواية (حياة ثقيلة) تسرد شخصية الروائي المركزية وما كان يقوم به من خلال تجواله في مدينته الديوانية، وحياته الجامعية في بغداد، يبدأ الرواية من خلال سقوط بصره من خلف النافذة، فيستهل في القسم الأول من روايته والمعنون (لبناء عالم جديد) في ص5 بالقول: "أجلسُ على حافةِ الستين. خلفَ النافذة، الليل أبيض. خلف النافذة تهبط الأضواء وندف الثلج من سماء بيضاء. تهبط بروية وهدوء وكأنها تنسج مأساة وحدتي، أسترخي على كرسيّ الهزاز وسط الصالة أمام نوافذها الزجاجية الثلاث العالية المشرفة على امتداد الشوارع البيضاء ونفسي منقبضة فرط البياض، يقال أن المحتضر يرى قبيل رحيله، في اللحظات الأخيرة شلالاً من الضوءِ الأبيض الذي تعشي له العيون. هذا ما أفضى به من توقف عن الحياة للحظات وعاد بتدخلٍ طبي. الشوارع خالية. زوجتي تنام في الغرفة الأخرى. صرت قليل الكلام بعد أن كنتُ لا أملُ منه". محاصرا ببقاياهم/ صورهم: "أحملق في جدران الصالة التي امتلأت بصورهم. حشدٌ من الأحباب. حشدٌ من الوجوه المنيرة الضاحكة. حشدٌ غادر الواحد تلو الآخر هناك بعيداً في الرحم الدامي". وهو يقول: "كنت أظن قبل سقوط الدكتاتور بأن همومي كلها ستزول بزواله فأتمكن من زيارة الأهل والأحباب، أرى أمكنتي الأولى وأشم هواء وتراب مدينتي".

يتذكر بلقطات فلم سينمائي بطئ لحياته في الديوانية والعاصمة بغداد، ويعبّر عن حالة اكتئاب شديدة تقلب استجابة الراوي فيه المسلمات العامة الثابتة في السلوك البشري، برغم أن الأدب يقلب هذه المسلمات عادة. ويغلق روايته بموت صديقه حسين، فكانت عبارة عن ذكريات الشباب التي انطفأت ولم تعد، وهكذا تصبح الرغبات في شيخوخة العمر والذكريات، فمعاناته من الوحدة والاكتئاب وأزمة الستين من العمر يمكن أن يعاني منها أي شخص، فالعمر يجري مثل النهر لا يقف لحظة، واصبح مسافراً تستهديه دهشة العالم. كأن العالم يتجمع من حوله مثل عجينة تستحيل في كل لحظة إلى هيئة أخرى.

الروائي في روايته (حياة ثيقلة) يعبر عن ممارسته لطقوس حلمه وأشواقه مع ذاته بصورة سرّية، في المكان المقابل لحيهم السكني القديم، ففي ص6 قال: "كنت أمارس طقوس أشواقي السرية دون بوح، فكنت أتخيلني وأنا أرمي نفسي في حوض السباحة كأنني أقفز إلى نهر الديوانية وأغط فيه، فأرى وأشم وألمس بقلبي وأنا في غمرة الماء بيوت (حي رفعت) وحدائق المعسكر في الجهة المقابلة ناسياً ما حوليّ من نساءٍ مثل جنيات القصص بلباس السباحة يعومّنَ ويقفزن ويخرجن من حوض الماء الناصع الزرقة". ومن هنا يبدأ باستعادة وعرض شريط ذكرياته مع (أحمد) الذي دعانا إلى مرافقته في مهمة زيارته في بغداد. لقد تعرّف عليه ايام كانا طالبين في إعدادية زراعة الديوانية. كان أحمد أكبر منه بأربع سنوات بسبب تأخيره في مرحلتي الدراسة الابتدائية والمتوسطة.

وفي ص18 من الرواية قال: "خرجتُ مهزوزاً من الحياةِ نفسها،  فبينما كنتُ قبل الاعتقالِ أقاومُ المحيط ومؤامرات الرجال الذين يحاولونَ اغتصابي متباهياً في نجاحي وصلابتي، وجدتُ أنّ في استطاعة رجال الأمن فعل كل شيء في جسدي الموثوق في غرفهم الموحشة والمخيفة". فيسترجع الروائي سلام أفكاره ومشاعره، يستعرض اسماء اصدقاءه سعد وثامر أمين وأخيه الشهيد كفاح وأحد وحسين وهاشم، يستعرض اللقاءات والتجوال بين مدينته والعاصمة بغداد بمسحة شعرية محفزة، كنت أبصر الاعجاب من خلال سماته وابتسامته، وهو الراوي وأحد شخصيات الرواية الرئيسية، أصبح أسير الليل يتتبع عتماته في الرواية، وفي حافات الأمكنة، لقد أصبح الليل هو الزمان الوحيد، ولم يعد غيره، إلا زماناً تابعاً له. الليل اضفى على حكاياته جواً ساحراً، يحلم بالهروب مع صديقه أحمد من خلال القطار المار بمدينته. الليل كان صديقه في لقاءات الأصدقاء والهروب والاختباء، فكان الليل ماكراً وداهية.

يذكر في صفحات الرواية ص36/ 38 قائلاً: "كنّا في حالةِ نشوةٍ نودُ الطيرانَ إلى مكانٍ غير مدينتنا لمعانقةِ فقراءِ الأرض المجهولين، مفعمينَ بروح الأمميةِ التي رضعناها من الكتب الماركسية وحكايات المناضلين الأكبر سناً الذين يقصونها علينا في المقاهي. وقتها لم نكن قد سافرنا خارج حدود "الديوانية". وفي لحظة جنون قال بصوت عالٍ أقرب إلى الصراخ: لنشرد بالقطار! صرختُ بنشوة: هيا بنا.. هيا بنا!. كان قطار حمولة يقترب ببطء قادماً من بغداد في طريقة إلى البصرة، توقف على بعد أمتار من وقفتنا، فهتف بصوت عالٍ: هيا إلى الحرية!. وصعدنا عربةً من عرباته المكشوفة. لم نهدأ، نصرخ ونصرخ... لم نكف عن الدوران في مساحة حوض العربة، والصراخ في نشوة: (لبناء عالم جديد ولقبر مشعلي الحروب   في هدى أكتوبر العظيم سائراً موكب الشعوب) كنا نصرخ بحماس ونشوة.. نصرخ بالكلمات الحالمة فيضيع صراخنا في ضجة القطار والظلام والبرية الممتدة على يميننا حتى الحدود السعودية، نقطع النشيد ونطلق أصوات مبهمة، نرقص، ندور، نهتف: المجد للطبقة العاملة.. المجد للفلاحين! تدمع عيوننا، نكاد نبكي حماسةً، ونروح نغني أغنية أممية أخرى: أنا.. أنا يا سيدي أسودٌ كالليلِ.. كأعماقِ أفريقيا، كأعماقِ أفريقيا.. أنا.. أنا.. جندي أحمل في يميني سفر جيفارا وفي يساري أقمار گاگارين. أقمار گاگارين. لا لالا... لالي لالي لالي.

كما يسلط الضوء الروائي عن علاقته بوالده، ومشاركته في زيارة ورشته في شركة سكابانيوس، فيتذكر عندما يناديه والده فجراً قائلاٌ: (بويه إگعد.. وقتي ضيق!. صوتهُ يشي بحنانٍ قديمٍ غريزي، بدا قادماً من طفولتي البعيدة. كانت قسماته قوية نشطة رغم شربه الليلي. البيت ساكن. أجبت بخفوت: صار بويه!. وأسدلتُ أجفاني سامعاً خطواته الحذرة المبتعدة وهو يتجه نحو المطبخ ليعد الفطور، كان ذلك في سحر يومٍ من خريفِ 1974 وقتها كنتُ في سنتي الجامعيةِ الأخيرةِ، أعود من بغداد إلى المدينة في عطلة نهاية الأسبوع وفي العطل الرسمية. شدّني البعد والتأمل إليها، فلأول مرة أفارق الديوانية والمحلة والعائلة، فمع بدءَ خفوتِ تمردي الصاخب على كل شيء، شعرتُ بالآسف لبعدي عن أقرب الناس إليّ، لا ليس أقرب بل طلعتُ من جسديهما فرعاً، عزوتُ ذلك إلى ظروف الحياة، عنفها، فقرها، طبيعة ونمط وتقاليد البيئة العراقية، عدد الأبناء غير المعقول، فنحن عشرة؛ ست بنات وأربعة أولاد كنا نتكدس شتاءً في غرفةٍ من حجرٍ وننتشر صيفاً في ساحةِ البيتِ الفسيحةِ، لا وقتَ لديهما للكلامِ معنا، فهو في الدكانِ يعمل من الصباحِ حتى المساء، وهي في شؤون العشرة الصاخبين في ضيقِ المكان، فعدتُ أقضي وقتاً أطول مع أمي في البيتِ. والبارحةَ طلبتُ من أبي مصاحبته إلى مكانِ عمله في ورشةِ نجارة شركة "سكابانيوس اليونانية" التي كانت تقوم بحفر قنوات بزلٍ لاستصلاح الأراضي الزراعية من الحلة وحتى الناصرية، وكان مقرها في مدخل المدينةِ الشمالي على الطريق القديم الذاهب نحو العاصمة. نهضتُ وأديتُ طقوسَ الصباحِ. تناولنا فطورنا. بيض مسلوق، وجبن، وخبز حار جلبته من فرن "حاج جاسم" الكائن عند مدخلِ شارعنا. تخطينا عتبةَ الدارِ، فرشقتنا نسمات خفيفة. لم يطّر الفجر بعد. سحبنا دراجتينا الهوائيتين إلى حافةِ الرصيف، ركبناها وسرنا من حي العصري إلى شارع سينما الثورة في صوب المدينة الصغير، مخترقين مركز المدينة. كان الصمت والفضة وحفيف أقدامنا وهي تدوس على دواسةِ الدراجةِ الهوائية تجعلني أطوف في هوام اللحظة حالماً، شاعراً بغبطةٍ لم يزل طعمها غضاً في روحي وجسدي وأنا أكتب الآن. كنا نخترق الأمكنة بذكرياتها. مررنا على محّله القديم خلف بناية البريد حيث قضيتُ طفولتي في ذلكَ الشارعِ المكتظِ بالباعةِ والحدادين والتنورچية وبائعي الخمور، والحلاقين. أحسستُ، ونحن نخوض في فضة الفجر على ترابِ قصتنا، بأننا نصل إلى أقصى السعادة بهذه المصاحبة وكأننا ننبثق من جديد كعلاقة مع انبثاق الفجر، في يومٍ بدا غير عادي، خضنا بصمتٍ مغمورين بمزيج الفضة وبقايا العتمة، كنت مخدراً برائحتهِ التي رسختْ في شمّي منذ الطفولة، مزيج فريد من نشارة الخشب والعرق العراقي الصرف. وحمدتُ ربيّ على يقظتي الباكرة بالتفكير بجوهر علاقة الابن بالأب، كانت تلك المسافة من أسعد المسافات التي قطعتها بصحبته كل عمري. كانت مرةً وحيدةَ، لم نكررها، فالحياة أخذتنا إلى مناحٍ لا مجالَ فيها للتأمل، فقد تحولتْ إلى مجردِ ركضٍ لاهثٍ للحفاظ على الكينونة الفيزيقية فقط وكأننا في غابةٍ. ركنّا دراجتينا على رصيف شارع فرعي يجاور قاعة سينما الثورة. وصعدنا حافلة الشركة. قدّمني أبي بفخرٍ إلى زملائه العمال: هذا أكبر أبنائي.. طالب بالجامعة).

كما يروي سلام في روايته ساعات اعتقاله مع ثلة من اصدقائه في بغداد، عندما يقبض عليه مع صديقه هاشم، وهم يحتسون الخمرة في أحد بارات بغداد. فيضع سلام في روايته وسارد قصته في العاصمة بغداد وزياراته المتكررة لها من خلال اللقاء بصديقيه أحمد وحسين حتى ينقلنا أخيراً لتحول أحمد من مناضل يحلم بوطن حر وشعب سعيد، إلى رجل خائف مع زوجته فيوقعا على المادة (200) ويهربا للسكن في بغداد وتحول افكارهما من اليسار إلى اليمن، أصبح إسلامياً ملتحياً يعتاش على بيع كتبه من خلال دكانه المستقطع مساحته من داره في حي الشعب.

يزور الروائي بغداد متأملاً مع جو بارات بغداد وصديقه حسين اجوائها وزحمتها، فسارد الرواية في بهجته وطمأنينته وتماهيه، فتعتريه نشوة غامضة بسحر الليل والطبيعة معاً، مسترخياً بمقعده، متذكراً في أول لقاء بصديقه حسين، عندما تعرف عليه في ورشة والده للنجارة في مقر شركة سكابانيوس اليونانية في مدينة الديوانية...... يقول في أحد صفحات روايته (حياة ثقيلة): (وقبل أن ندخلها أقبلَ شابٌ جميلٌ نحونا مبتسماً، فتوقفَ والدي ضاحكاً وقال بصوت عالٍ: هذا "حسين" من جماعتكم!.

"والجماعة" شفرة سرية يفهمها كل يساري عراقي، وهي أيضا مفتاح يجعلك تثق بالمشارِ إليه، فتبوحَ برأيك دون خوفٍ، والبوح وقتها يتعلق بالموقف من سلطة البعث تحديداً!. ضجّا معاً في ضحكٍ صاخبٍ على تعليقاتهما حول مواقف وأشياء مبهمة بالنسبة لي، تعليقات بلغة العمال الصريحة الواضحة والتي تضيع لشدة سطوعها عليّ أنا المدله بالخط والجمل الفلسفية والقيم العليا التي كنت وقتها أجدها هي الحقيقة قريبة ودانية لكن لا يراها البشر وهذا ما ضيّع عليَّ بهجة ذلك الضحك العاصف الخاطف الذي وجدته آنذاك ساذجاً وأنا أتأمل "حسين" بوجههِ المدور المصبوب صباً بدقة خالقٍ تأنى طويلاً في رسمِ قسماتهِ المتناغمةِ. عينان واسعتان عميقتان تسبر غورك، عينان فيهما من نظرة الصقر الشدة، ومن عين العاشق الرقة، أنيق الملبس رغمَ أنه ذاهبٌ إلى العملِ، كما علّق أبي وهو يعرفني عليه وسط صخب تعليقاتهم وضحكهم، بلا شوارب، أطلق شعره حتى غطى أذنيه، نحيفاً رشيقا، متوسط القامة، فبدا وكأنه لعبةً جميلةً في ذلك الفجرِ الذي سيعصف في حياتي:  أي فجر ذاك.. إلى أين أفضى بنا وأنا في توالي العمر!.. أي فجر صاخب بضحكة أبي وضحكة "حسين" وذهولي!).

تعود ذاكرة سلام إبراهيم بما يجري من حديث حول اختطاف ابنة صديقه حسين الشابة فيروز. ثم لزياته مع حسين مشرحة بغداد، فينقلك الروائي سلام من خلال حروف كلماته إلى تلك الأجواء المرعبة، وأجواء اغتيال صديقه أحمد داخل مكتبته، وأجواء موت صديقه حسين في حديقة داره، ما يعني أنه يريك أجواء الرعب ووجه حبيبته، ومعاناة والده ساعات اعتقاله من قبل رجال الأمن له في الديوانية ومرة أخرى في العاصمة بغداد.

يستعين الروائي سلام في روايته بأسماء اصدقائه وزوجاتهم الصريحة، وخيانة زوجة صديقه سعد وزواجها من ضابط أمن الديوانية والسكن في بغداد، فمن يعرف عوائل المدينة يعرف من يقصد الروائي، فرواياته تصنف ضمن الروايات الواقعية.

الروائي سلام ثري في سحره، وما يروي في اعماق ما تحت الحروف، فروايته ملأى بالاقتتال والصراع، تزحف على الاصقاع عتمة تمتد وتتسع وتنبسط كأنها الوسادة فوق عالمنا. يتسلى الروائي بعواطفنا فأجد نفسي اتعاطف مع ابطال رواياته وأخاف عليهم كخوفي على ابنائي، فهو يتجول معهم ويسرق للهاربين من العسكرية منهم دفاتر الخدمة العسكرية للمؤجلين من دائرة تجنيد الديوانية، كما يسرق لهم الهويات والمستمسكان كونهم مطلوبين للسلطات بدواعي فكرهم اليساري.

كتب الروائي سلام إبراهيم عن جماليات المكان، يستعرض المكان الذي ينجذب نحوه والاستجابة إلى جماليات البيت، والحجرات السرية، والأدراج والصناديق، استرجع الزمن الذي كتب عنه سلام كشريط سينمائي بطيء، فأشعر به واعايشه، اتعايش مع اصدقائه وأماكنهم، صوراً متتالية باستدعاء حر وابتداع واقعي باهر وانسجام تم بعقلانية، استرجع رائحة الأماكن وجو حجرته في بيتهم القديم فيعيد لي الزمن الذي عاشه الروائي، وصور عائلته المعلقة على جدار داره في كوبنهاكن.

من خلال روايته يسرد لنا ساعات الاعتقال عندما يفترش أرض الزنزانة في أمن بغداد بملابسه وحذائه وهو معصوب العينين ومشدود اليدين، دون فراش ينام عليه، يتابع كامرات المراقبة في ممرات المعتقل، وهو يهمس في اذن صديقه المعتقل ليتفقا على جواب لأسئلة رجال التحقيق، الأرض تمتد كما لو كان جسد المعتقل راقداً بطوله الآن، المكان يرهب زائريه، ومعادياً وخصماً، كل ما يحيط به يبعث على الاستيحاش والفرار من المكان.

حتى هروبه كمقاتل في الجبل يصورها الروائي من خلال كلماته بعين سينمائية، يصف خلالها الأماكن والاشخاص والطرق والهروب والركض مع زوجته والاختفاء، الشك واليقين، الخوف والرهبة، العناد والمحبة. يتميز اسلوب الروائي بتراكم المفردات، وخصوصية تراكيبه وبناء جملهُ، وهندسة الأسلوب، ورشاقة العبارة، وتتجلى خصائصه في بنائه اللغوي ونظم تراكيبه وتأكيده للمعنى الواحد في صياغات لغوية مختلفة. فيكتب بلغة تتطلبها قوانين السرد والحوار المنطوق الذي يجري بين شخصيات الرواية، والحوار الصامت الذي يتداعى بتيار الوعي، فسلام هنا يزيح ذاته ليسمع لشخصياته الواقعية أن تحكي وتروي بلغتها وبمستواها العقلي والفكري واللغوي، حتى حافظ على طابعها اللغوي تبعاً لمستوى تلك الشخصيات في انتمائها إلى الطبقة الاجتماعية وتحصيلها الثقافي، والمهن التي تزاولها. فأجد هناك وشائج ظاهرة فرضها النوع الأدبي واشراطها في الرواية.

ادرج هنا الاهداء الموضوعي في رواية (حياة ثقيلة)، ما كتبه سلام من إهداء (إلى عبد الحسين داخل/ أبو أمير. وناهدة جابر جاسم القزمري). فسلام في إهدائه يسعى إلى الحفاظ على علاقة الإهداء بعضوية النص وعلى العلاقة الواقعية للمهدى إليه، بعيداً عن احكام معيارية تتناول مستوى الإبداع.

تتصف روايات سلام إبراهيم بالاعترافات والسيرة والمذكرات من خلال نصوص رواياته، في جوهرها بوح بالعوامل والأسباب والحوافز التي جعلت من الكُتّاب الكبار أعلاماً في الحياة الثقافية، وغالباً ما تتضمن تلك المؤلفات عادات الكتابة وطقوسها، وأجد في الروائي سلام إبراهيم يكتب اعترافات لسيرته الذاتية.

ومن خلال متابعتي لروايات سلام إبراهيم اجدها تهيمن عليها موضوعة التعذيب والموت، وهذا ما مرَّ به من مواقف صعبة التي أوصلته في بعض الأحيان إلى طريق الإعدام، أو الموت خنقاً من خلال تعرض فصيله في الجبل إلى الضربة الكيمياوي. وعندما اعود بذاكرتي لما طالعته من كتب عن الإنسان البدائي فهو لم يفقه جوهر الموت أو يخيفه بعد، كذلك أجد ذلك في روايات سلام إبراهيم، فهو يتخيل الموت نوماً مستديماً كما جاءت في أقدم الوثائق في ملحمة كلكامش مثلاً، حينما اكتشف كلكامش مصيره الآتي بموت صديقه أنكيدو، وسلام إبراهيم واجه الموت بموت صديقه حسين في روايته (حياة ثقيلة)، لذلك هيمن موضوعة الموت في روايته، وهذا هو احساس المبدعين ورهافة أمزجتهم، وحكمتهم الفلسفية وتأملاتهم العميقة، فيقول الجواهري:

من منكم رغم الحياة وعبثها

لم يحتسب للموت ألف حسابِ

أنا أبغض الموت اللئيم وطيفهِ

بُغض طيوفَ مُخاتلٍ نَصّابِ

ذئبٌ ترصّدني وفوق نيوبهِ

دمُ إخوتي وأقاربي وصحابي

الموت عند الجواهري هو الذئب في شراسته وقسوته وغدره، وكذلك الروائي سلام إبراهيم يجد بغدر الموت وقسوته كغدر الذئب. ولا ننسى الشيخوخة ونهاية قطار العمر، فعندما تأتي الشيخوخة تأتي الحكمة هدية للعمر، ويبلغ الإنسان نهايته فيرفض امتداح الحياة، فكما أن الحياة قد هجرته فإنه يسعى إلى هجرها أيضاً، وهذا ما عبر عنها الروائي بشخصية صديقه حسين في (حياة ثقيلة)، والروائي سلام جعل المتلقي لنصوصه مسحوراً بما يقرأ.

 

نبيل عبد الأمير الربيعي

 

 

في المثقف اليوم