قراءة في كتاب

حيدر عبد الرضا: قراءة في تجربة أقاصيص قصيرة جدا للقاص فلاح العيساوي

البنية القصصية والرؤية التحيينية المضاغفة

توطئة: تمنحنا البنية السردية في خطاب ومبنى ومتن فضاءات (القصة القصيرة جدا) شكلا مكينا من ملازمات عديدة ومتكاثرة اهمها المادة المخصوصة بـ (صياغة - واقعة - رؤية-اختزال) شيوعا مبررا نحو إستكمالية عملية الإنشاء والنشأة الحادثية المتبلورة ضمن محددات هوية منصوصة للنص، تتجاوز في مضمونها العديد من المتون السردية المطولة والطويلة -اختزالا-  لمحتوى حادثة حكائية - ومضية، لها في الظاهر مصقولية السرد، وفي الداخل حيازية الدليل المقرون بذلك الخطاب المحكي  المراوغ تقاربا وبعدا في حيز متباينات المداليل المدهشة والفجائية والمأزومية والتفارقية، حضورا وإنطلاقا في أوجه مشخصة أو غير مشخصة من عين اللحظة الزمنية والمكانية والفضائية. من هنا لعلنا عند التعامل مع مميزات تجربة أنواعية في المحضر السردي، قد تدفعا عنايتنا الاولى بتلك الجوانب المختصة بما يمتاز به هذا النوع السردي من خصوبة ما أختصت بها تلك المتواليات من البنية الأساسية في مجال أوليات الكتابة للقصة القصيرة جدا، وقد اتحاح لنا المجال للتعرف بمهام هذا النوع السردي من خلال طابعه الاسلوبي وفحوى تجلياته في الإطار والهيئة والصياغة آلتي تتطلب من كاتبها توفير أقصر الحوادث في سبيل بلوغ أكبر الضربات المضمونية إيقاعا ودالا، إذن نحن إزاء مكون جنيني ذات سمات تلفظية مقننة في المساحة والأداء والحد الذي به يكون منتجا يمتلك كل أهليات الجنوح بالمخيلة نحو كيانيات دلالية مكتومة ومعلنة في سياق تفجيرها اللغوي عبر مراحل مختزلة  من علاقة العقد والانعقاد المضموني المنغلق والمنفرج بطريقة أسلوبية برقية خاطفة في الدال ووظيفة المساحة القصوى من الدال.

- شذرات ناعمة: النسيج النصي دالا على زمن ملتبس

في سياق تجربة أقاصيص قصيرة جدا، جاءتنا مجموعة (شذرات ناعمة) للقاص والروائي الجميل فلاح العيساوي متخذة من موصفات الصور اليومية للواقع المعاش، ذلك المحكي المعادل لمجريات لغة الاشياء المجتزءة من  نسيج حالات آنية صادفها القاص في مقاطع ووقفات تشغلهما حسية الفقدان وروح التهكم وتجذير الهوية المفارقة لتلك العناصر والعوامل المتشظية من حقيقة رحم الصراعات النفسانية وسلوكية في حياة الافراد، مما جعلها تبدو  للوهلة وكأنها خليط من مقادير مطموسة في الواقع واللاواقع، وما حفزنا هنا  بتعقب حالات نصوص المجموعة، هو ذلك الرجوع المقارب في تقديم هالات الاشياء عبر أنفاس هذه النصوص،والتي بدا عليها ذلك التوق في رصد أشد الحالات أهمية في الطابع التكويني للنص القصير جدا، وهذا الامر بدورة ما جعلنا نعاين أشكال وبنيات وموضوعات نصوص المجموعة بروح التطلع والتقويم والإضاءة لها وبالترافق مع طبيعة هواجسها الأخذة في المد في علاقات وروابط لأشكال وتلوينات مختلفة المشارب .

1- الفروقات والمقاربات في تكوين إغرائية الدلالة الذروية:

من الممكن أن تبدو بعض تجارب مجموعة (شذرات ناعمة) في قيمتها الفنية غير تامة في ممارسة أدوات الصنعة الحاذقة لهذا النوع السردي بادئ ذي بدء، وذلك نظرا الى شكلها الإيحائي من حيث المرصود الدلالي في الاختيار والحبك بدرجة مقبولة ومؤثرة في الغاية. فهناك حالات بدت وكأنها مجرد خطوط من الإنشاء والافتعال ليس إلا، كحال قصة (أبن العم) وقصة (أدب) على العكس مما وجدناه في حال قصة (انتظار) وقصة (البستاني) أنموذجا: (الاميرة بدور كانت تجلس في شرفتها، المطلة على البستان، شاهدت أبن البستاني يرفع الأدغال الضارة عن الزهور، أعجبت بشخصه وأحبته، قررت الاقتران به، أخبرته برغبتها، رفض لأنه يعشق أميرة أخرى./ قصة: البستاني) لعل خطوات النص شبه مكتملة فنيا، تداخلها الجملة الاسبابية وآثارها الوقوعية من حيز مبررات المعنى (الشكل- الدلالة) ولكنها لا تمتلك في الآن نفسه كل متمحورات (التشاكل- الأداة- الذروة) أو ما يمكننا قوله أن النص يفتقر الى جملة ن تقانة (الادغام- الانفكاك- تفريد الاوضاع) فالنص في حدود مستهله يقدم حالات زمنية تقترب من محمول الأمثولة  التي هي في مادتها غير متوفرة في مجال متحكمات الواقع العيني و للزمن الذي يؤهلها كحالة موضوعية مناسبة، ولكن هذا لا يمنع لو تعاملنا مع النص كحالة إنتاجية فحسب. فالشخصية البستاني يحيا في ظروف علاقة المعنى المجرد، وهو ما يتمثل به عمله من فضيلة ومثالية والجهاد في الاخلاص (يرفع الادغال الضارة عن الورد) فهو بذلك حتما لا يعشق القيم الأهوائية، عشقا خلوصا للفضيلة في حال مثاله الفردي. فالقاص العيساوي وضعنا إزاء بنية تواردية متحررة  ومرتبطة قي أوجه شواغلها النفسانية والقيمية في ذات الطابع من كفاءات المثل في المعنى،ذلك المنحى من المعنى الذي تفترضه خصوصية القيمة الاعتبارية عبر شواغلها النفسانية والشيئية المتكونة بمعنى ما. كذلك تواجهنا قصة (البيضة) وقصة (الحارس الهمام) وقصة (المؤدة) وقصة (انتظار) بذات التنصيص الحامل لذات(التضاد) إذا انها تستند الى لغة مفارقة تضادية في مفعولها التقابلي، لذا فهي من جهة ما محفوفة بصور وحالات ملتحمة في مجال أحدوثتها في النص، مما جعل بعضها وكأنه خطية من المواعظ والنصح، ولكنها ملزمة في مجال تحركها داخل نسيج متماهي في أحواله ومساراته الدلالية المتفارقة بأبعاد تهكمية تارة، و إيمانية تارة أخرى.

1- النص القصصي القصير جدا كخاصية إستعارية في خلفيات التوظيف:

نتبين من خلال أبنية وأشكال أقاصيص قصيرة جدا، موضع بحثنا، بأن الأفعال الأدائية تتلخص عبر إمكانية إستعارية مكثفة في الوسائل والوسائط الايقونية للنص، مما جعل هذه الوسائط بمثابة الموجهات الاتمامية في مصاحبات لعبة تفارقية فنية لها خصوصية قصدية في تفعيل الأدوات والأداة المكلفة في نسيج النص، لذا فلا يجوز للنص وكاتبه أضفاء المقطوعات والاراجيز واللغات المسكوكة على طوابعها الدلالية والإيقاعية، ذلك لأن في هذا النوع من القص السردي، ثمة حالات من المعنى الذي يؤشر على أنها ليست من عواملية التخييل، بقدر ما تكشف عن كونها جملة من الاقتباسات والملصقات التناصية أحيانا، لذا فلكل حالة من نوع ذلك المجموع الملصقي بذاته هو علامة لا تمنح لجنس النص القصصي القصير جدا، ادنى علاقة سياقية وأسلوبية ومرجعية ما، على أن تلعب دورا هاما في مجال متحكمات نوعها الاجناسي ، بل لو تعرفنا على قصة (إنسان)  لوجدنا أن العيساوي يحمل نصه انعكاسات مباشرة لحالات غير مفيدة تماما، فهو يخالط في مكونات نصه مجموعة أشياء لا تعنى بوظيفة دلالية متكاملة، كحال قصة (أوهام) وقصة (,انغام)  فقصة -اوهام-  بحد ذاتها تتمظهر بأسلوب قريبا من الايهام، لتبرز منه حالة خواصية ما كخواصية الاستعارة في بناء القصيدة، وهذا الامر ما راحت تتصف به القصة  الرائعة (بحث) كذلك قصة (بيضاء) الى جانب قصة (تضحية) وقصة (تميمة) فجميع هذه النصوص التي قمنا باستعراضها مؤخرا، تدخل في خانة العد القصصي القصير جدا، ذلك لكونها تعبر في ذاتها عن علاقة (متقاطعة - متبادلة- معادلة - مغايرة في الأداء) على العكس من حال ما تحمله بعض من نصوص المجموعة (شذرات ناعمة) من حالات كأنها لا تستدعي سوى ذاكرة حافظة ومجموعة كلمات تتحرك نحو مواطن سائبة من المقاصد التي لا تمثل سوى الخواء من روح التدليل النصي الرصين.

أريج أفكاري: الإيغال في عمق اللعبة المحكية القصيرة جدا

يمكننا قبل توجيه اية وصاية للقارئ بشأن مجموعة (أريج أفكاري) ننوه القارئ بهذه المدخلية:

لعل أهمية فن القصة القصيرة جدا، يكمن في وضع القارئ في مراحل من الانتظار والتعالق في زمن الترقب لما سوف يؤول إليه مصير العناصر العاملية الفاعلة في النص، فالقصة القصيرة جدا، تعبر عن ذاتها كممارسة في رسم التوقع في اللامتوقع، وزرع اليقين في اللايقين، فهي حركية ملفوظية على مستوى من صيغة التوكيد في اللاتوكيد والتحديد في اللاتحديد، هي دون شك حرية في اختيار الموضوعة، ولكنها قيدا في الشكل وصنعة الأداء، لابد لنا وممن تستهوية كتابتها توفير المصادفات والاحوال التعالقية، لا ان نبلغ مرحلة ثقيلة في صعيد توظيف الجاهز من الصور والحالات المقتطعة من مفاوز اصولها المتنية.. تبدأ القصة بمرحلة تعد بمثابة التشاكل الاحوالي، ولكن لا تنتهي من حيث هي بذاتها كمعادلة وظيفة رؤية خطية في الزمن وتراتيبية المعنون الإنشائي. إذا تعاملنا مع القصة القصيرة جدا، على كونها ظاهرة مستقرة من ناحية  الأداء، فهذه بدورها علاقة مرسل ومرسل إليه، إذ لا ترقى بهذا الامر الى ان تشغل حيزا من جنبات القص إطلاقا، بل هي حدوتة فحسب. عند معاينة وظائف القصة القصيرة جدا، نجدها مجموعة جمل دلالية مزدوجة في ترسيخ الإيحاء والتلميح والشيفرة، وكأنها بنية على درجة عالية من شعرية الدال الانزياحي، ولا تبلغ القصة القصيرة جدا قيمتها الفنية،الإ بمرجحات الدلالات المضمونية الصادمة، اي الاكثر اختلافا مما قامت بتقديمه حركية الدوال في المتن النصي، هي قبلة في الظلام على قول احد النقاد في الغرب، تعلم بحرارة عاطفتها ولكن لا تدري بأي المقاصد فكرتها وبواعث مواطنها، هي صدى صرخة في جدار عتيق، فهذه الصرخة جعلت بنى اصداءها تتردد وتتوزع في كل ناحية من ذلك الجدار، رغم زمن قدمه . تبعا لهذا وذاك نطالع أقاصيص مجموعة (أريج أفكاري) لنجدها أكثر نضجا وتطورا في أدواتها وسحر صنعتها من ناحية علاقات النصوص  التماثلة في تشكلات شيقة تمتد عبر زمن الكتابة كديمومة فاعلة بالموسوم الحبكوي، لذا تواجهنا نصوص رائعة كـ (أريج- انطلاق- احتراق- أدوار- ارهاق- فرار- توسل - الرئيس- الهام- العراق)

- تعليق القراءة:

من على هذا النحو الذي وجدنا فيه مجمل تصديرات هذه النصوص القصصية القصيرة جدا، علمنا أن مستويات الكتابة لدى العزيز فلاح العيساوي للقصة القصيرة جدا، هي عبارة عن تمثيلات لأحوال منفردة ومتفردة لها حقيقة الملفوظ كواقعة محتملة، ولكنها لا تنتهي بغير تقديم المسافة المفارقة للمتن، وغالبا ما تكون الضربة المضمونية هي حجر الزاوية أو البؤرة المركزة التي منها تشع دلالات الدوافع واعمق خلجات الرؤية التحيينية في بواطن الإحساس بعدم شعورنا بالنهاية المنتظرة أو المتوقعة.

***

حيدر عبدالرضا – ناقد عراقي

في المثقف اليوم