قراءات نقدية

التوظيف الديني والسياسي في قصة (ظلام أبيض عميق جداً) للكاتبة لولوة المنصوري

"سبعة أعوام مرّت على موت أخي الرضيع من البرد، وثدي أمي لا يتوقف عن فطرة درّ الحليب، صار حليبها ترنيمة ينبوع لا متناهية، ينمو في ثديها دون حد، ويسقي أطفال قرية كاملة، حتى أصبحت أماً لكل أطفال القرية، وأنا أخٌ لهم جميعاً، لكني في ذلك اليوم الذي سرق فيه الغراب ثدي أمي الأيمن وطار به خلف الجبال أدركتُ خلاف ذلك، أنا مجرد نملة، نملة في الجبال لا يعبأ بوجودها أحد..........

 

النقد:

تمتد نبرة التشاؤم من عنوان النص وحتى آخر جملة فيه، حيث تبدأ برمز الظلام (الأبيض) الذي سيجتاح كل شيء. وترتبط مفارقة (الظلام الأبيض) أو ما يسمى paradox   بقصة سيدنا يوسف التي توحي بها الجملة الأولى في النص (سبعة أعوام مرّت) للإشارة إلى حلم الفرعون (سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف). ويعزز (الحليب ) إيحاء السنين السبع للإشارة إلى قصة يوسف مثلما يثير ذلك الإشارة إلى موت (الأخ) الرضيع من البرد. وتبرز مفارقة الألوان ورمزيتها في النص لتشكل مشهدا دراميا مؤثرا. فالبرد الذي يشي بلون الثلج الأبيض يتماهى مع لون الحليب والذي يحمل اللون نفسه ويتناقض مع اللون الأسود للظلام الذي يستجلبه لون الغراب في النص أيضا. وتبدو المفارقة المركبة في اللونين الأبيض والأسود كليهما لتوحي بالموت أو الرؤية الكارثية في النص لأن الموت بالثلج (الأبيض) هو نفسه الموت الذي يمثله الغراب (الأسود). ويكاد الغراب، الذي يختطف (ثدي الأم) ليرمز للبقرات السبع العجاف في قصة يوسف ويختفي خلف الجبال، أن يختم النص بنهاية (قياماتية) لولا ظهور (النملة) التي لا (يعبأ بوجودها أحد) في نهاية النص للإشارة إلى قصة النبي سليمان مع النمل.

إن التأويل الديني للنص يستدعي التأويل السياسي لكي يتكاتف التأويلان للوصول إلى نتيجة واحدة وهو الإنذار الذي تثيره القصتان معا (قصة يوسف وسليمان) والتنبؤ بالقادم من الكوارث التي ستلف المنطقة بأكملها، وهي رؤية سوداوية مفزعة استجلبتها الأحداث الدامية والمروعة التي تمر بها الأمتين العربية والإسلامية.

ويثير رمز النملة جملة من الإيحاءات السياسية المتشابكة مع القصتين الدينيتين ورموزهما في النص. فالنملة كائن اجتماعي دؤوب منتظم في عمله وسلوكه ولكن كاتبة النص تأخذ (تشيؤ) هذا الكائن بمقارنته بالجبال للدلالة على ضياعه وسط العملقة الهائلة المحيطة به من كل جانب. وربما تستدعي هذه الإشارة المرتبطة بقصة سليمان وجيوشه الجرارة وجيش النمل بتقزمه أمام الجيوش العملاقة فكرة الدول الصغيرة أو الميكروسكوبية وضياعها وسط الدول العملاقة التي تهيمن على العالم. كذلك تشير إلى استخدام القوى العظمى للدول الصغيرة في مشاريعها وخططها للهيمنة على العالم تماما مثلما توحي بساطيل الجنود في سحقها لمستعمرات النمل.

وبالإضافة إلى فكرة الأحجام نجد أن فكرة (قتل الأخ) تكمن خلف موت الأخ الرضيع للدلالة على الحروب التي تنشب الان بين الأخوة لتنفيذ مآرب الدول العظمى المتقاتلة على المصالح والنفوذ. كما أن مقارنة اللونين الأبيض والأسود توحي بفكرة التمييز العنصري التي مازالت تلوح بين آونة وأخرى في المسرح السياسي الدولي واحتقاناته الاجتماعية.

وتتجسد براعة النص في التوظيف المتقن للرموز الدينية والسياسية بشفافية عالية وفي ابتعاده عن التعبير المباشر للخطابين الديني والسياسي ولغة الشعارات بضجيجها الإعلامي التي تسود هذين الوسطين.

في المثقف اليوم