قراءات نقدية

أديب كمال الدين في هواجس بناء النص المتطور

ahmad alshekhawiخلافا لما قد يتبادر إلى ذهن المتلقي لأول وهلة، المخاطب هنا يرمز إلى آخر الأنوية المختزلة للوعي الجمعي الشمولي،في هذا النص المختلف والمكثف والمشحون بانزياحات صارخة تنم عن ذات شاعرة ما تنفكّ تنرسم أمامها فضاءات عذراء للممارسة الإبداعية الكفيلة بتوليد لحظات اللذة الأولى على المنوال الذي تقترحه هواجس تخليق قصيدة ذات متشبعة بإفرازات روح العصر وما يشهده من تطورات، بفعل نبذ النمطية واجترار القوالب التعبيرية الكلاسيكية والمجرّبة سلفا .

إن العنونة وإن أوهمتنا باتجاهاتها المتشظية الدالة على تكوين الملامح المفترض أن تستقر عليها الصورة النهائية لبناء القصيدة،فهي ضمنيا تنبض بما يحرض على التمرد على رداء يتم تعميمه أو صيغة محددة تغدو مألوفة ومتعارفا عليها،قد تحدّ من إمكانية تفجير الطاقات الكامنة، وتحول دون منح المخيال مجالات أوسع للحراك وتناول الموضوعات بحرية تامة مع مراعاة الذائقة.

1.

القصيدة الطويلة مملة.

لا تكتبها

إلا إذا أردت أن تكتب عن الرحلة كلها:

رحلة كالكامش مثلا.

والقصيدة القصيرة تشبه عود الثقاب

فقرب سيجارتك منها

قبل أن تشعل عود الثقاب.

 

كلمات الشاعر المتمرس أديب كمال الدين بسيطة، لكنها مقيمة في الذاكرة والذوق، غير عابرة، تنبش في ماهية وجودنا عبر أسئلة فلسفية عميقة ومؤثرة جدا، كونها تلتقط أدقّ التفاصيل وتنهل من اليومي والمعيشي.

هكذا نجد أن وصية شاعرنا الأولى شأن البقية كما سيتبين لاحقا، ليست تعليمية تلقن كيفية ما لبناء القصيدة كما قد يتهيأ للبعض، بقدر ما هي تهكمية تلدغ واقعا مهيمنا، في محاولة قلقلته والتنبيه إلى مكامن الخلل والعلل .

كما أن النفاذ إلى ما خلف ألوان هذا المقطع يقود إلى منظومة أسئلة تفجرها مفردة الإشتعال والمحيلة حسب القاموس العربي الأصيل، على الحروب والفوضى بشكل عام.

وكأن الظرفية التي تمر بها بعض دول المنطقة، تضغط على المبدع لتنعكس على منجزه،بشكل مباشر أو غير مباشر.

حسب شاعرنا، القصيدة المطولة باتت متجاوزة وباعثة على الضجر إلا في حالة واحدة متعلقة بسرد طقوس الملاحم باعتبار قيمتها تكمن في استنهاض الهمم وضخ دماء الحماسة في العروق المتيبسة.

أما القصيدة القصيرة،فالخوض في ماهيتها، جاء تبعا للتلميحات المتحكم فيها لا وعي الشاعر،والمنبثقة من عمق التجربة ومعايشة الراهن بكل تناقضاته ومفارقاته ومعاناته.

ولعل ما يملأ المنطقة البينية، بين القصيدة الطويلة والقصيرة،ذلكم النمط الثالث الزئبقي المتشبع بالنسيج القادر على بلورة تطلعات ضحايا هذا الراهن المأزوم.

إنها النمط التعبيري المدافع عن الحرية المطلقة والمشتغل في آفاقها،والضارب عرض الحائط كل المضايقات الرامية إلى بعث ماضوية ظلامية معرقلة للإنفتاح والمواكبة والتغيير.

 

2.

القصائد السيئة كالأصدقاء الحمقى.

حاول أن تلغيها من الذاكرة

قبل أن تسطرها على الورقة.

التشبيه في هذه الوحدة عميق المغزى ويصنف في خانة الهرطقة والحمق والترف الإبداعي،وتلطيخ الذاكرة والحشو المجاني، أيما نص ينطلق من مرجعية القفز فوق جرح لحظتنا.

3.

إذا كتبت قصيدة عن المطر

فاحذر أن تكتبها

ما لم تكن روحك ــ

قبل جسدك ــ

قد تبللت بالمطر.

كمعادل موضوعي للحياة،الماء بشقيه،وصلة ذلك بالروح وقد باتت شبه مغيبة اليوم، بفضل تغليب المادية عليها، عوض البحث فيما من شأنه إتاحة التوازن بين مكونات ثلاثة لا يتم اعتدال الشخصية إلا بإشباعها قاطبة، الروح والعقل والجسد.

ومما يسجل على المادية المتوحشة وإسهامها في تدمير الإنسان والكون، الدرجة التي تم بلوغها في استرخاص الروح والميل إلى شهوة الفتك والقتل تحت ذرائع واهية تقف عند حدود النفعية والهيمنة والترويج للطائفية وشتى صور التفتيت وطمس ملامح الهوية.

4.

لكل قصيدة شمس.

(هل تعرف ذلك؟)

ولكل قصيدة منفى.

(هل تصدق ما أقول؟)

لذا دمدم قصيدة المنفى

وأنت في الوطن.

ودمدم قصيدة الوطن

وأنت في قطار الجنة الذاهب إلى جهنم.

بحق، القصيدة الأقدر على عكس منسوب أحلامنا وآلامنا،أضحت أشبه بعملة نادرة جدا، يحاكي فيها الوطن المنفى وكأننا إزاء استنساخ هذا من ذاك،والعكس بالعكس تماما.

وأي شمس أفضح لآلهة العربدة والحطام واسترخاص الأرواح وإضرام الفتن، من قصيدة المقاومة والنضال والقضية والهم الإنساني .

قصيدة لا تجبن أو تنافق أو تهادن،بل تعري وتميط الأقنعة.

5.

وبمناسبة ذكر جهنم

فاكتب ما استطعت عن جهنم الأرض

لأنها اتسعت الآن

وكادت تلتصق بجهنم السماء.

في مقابلة لطيفة بين الأرض كغطاء للخطيئة والبلاء،والسماء كقبلة لاستمطار موجبات الفرج وانقشاع الغمة وغسل الخطيئة، هاهو شاعر يستحضر ثيمة الإشتعال من جديد،ليدين وبشدة،بربرية صناع الموت في ألفية صولة المادية العمياء والتشدق بشعارات زائفة بلهاء تعطي انطباع وجود ضرب من الحضارة والرقي.

6.

إذا كنت تحب البحر

وتريد أن تكتب عنه،

فلا تأخذ صورة معه

وأنت ترتدي الملابس الرسمية

كما يفعل المغفلون

بل اذهب إليه عاريا

تماما كقابيل وهابيل.

الجديد في هذه الوصية أنها تومض مكمن الخطر فيما تشهده دول التطاحن والإقتتال الطائفي في المنطقة،وتكشف ـــ بمرارة ـــ حقيقة غدو الأخ عدوا يطعن في الظهر ولا يقيم وزنا للدم والرحم .

فالحب يكون مجرد ادعاء،إذا ما اكتفينا بالنقيق من برج الرسمية العاجي المزور والمدجن للحقائق، فالمعاينة يجدر أن تكون حية وميدانية، تمكن من تجسيد المعاناة عبر نقل الفكرة والإحساس طازجين وعلى طبيعتهما الأصلية وكما هما دون فخفخة أو تهويم.

7.

الشعراء المؤدلجون مضحكون

لأنهم يكتبون طوال العمر قصيدة واحدة،

قصيدة تستعين بكل الكنايات والإستعارات

لتثبت أن الطغاة،

رغم كل أنهار الدم التي فجروها،

كانوا مجرد حمامات سلام.

بدورها هذه الوصية السابعة ألصق بلحمة النسق العام وإن تعددت مناحي الرؤى لهذه المادة الشعرية الدسمة التي بين أيدينا.

فليس من أخلاقيات والتزامات الأدب في شيء إتيان خلاف ما يوفي الدماء المسفوكة ظلما وعدوانا، حقها، ويجابه التعاليم الرسمية التي تمليها السلطة السياسية المدلسة والمعتمة والمفوّتة للكثير من فرص إيجاد الحلول الكفيلة بحقن هذه الدماء المهدورة وإعادة السيادة والإستقرار.

8.

إذا كنت شاعرا فكن عاشقا

حتى تكتمل عندك قصيدة الجنون.

إن اكتمال قصيدة الجنون المتمتعة بالمواصفات السالف ذكرها، في تماهيها مع ما يؤرخ للمشهد الآني، ويتعالى على الأدب الرسمي المائع، كل ذلك يقتضي الجمع بين الشعرية والعشق كسلاحين يصعب التجرد منهما في فضح المكنون وتقديم ترجمة مقبولة للمعاناة بريشة تنسج ـــ حسب الحاجة ــ معالم جسد النص المتملص من ارتداء شكل أو صيغة أو قالب محدد، لأكثر من مرة واحدة إيمانا بضرورة التطور والتجدد والمواكبة.

9.

المرآة تشبه المرأة

لكن المرأة لا تشبه المرآة

إلا إذا قبلتها.

كون المرآة صادقة إلى حد بعيد في عكس الراهن دون زيادة أو نقصان،وتختزل الوطن والشعر وما سواهما،بل ويكون من أمرها كما هاهنا في اعتقاد شاعرنا، أن تستمد أنسنتها وتقمصها لــ " حوائية " ما، في حالة توليد قناعات معينة تغزو خلفيتنا لتمنحنا جرأة إسقاط عوالم الأنوثة على كهذه مرايا/إلا إذا قبلتها

وهو ما يؤهل القصيدة لتمظهرات متجددة متماشية مع الآني ومتوازية مع حجم الحرية المتاحة .

هكذا يختتم أديب كمال الدين وهو الشاعر المتمكن من أدواته والمقتصد في لغته والمتكئ على البصيرة في التعبيرية،يختتم "لقمانيته" ملمّحا إلى الوجع الإنساني الملم بهويتنا والمنغرس عميقا فيننا،بفعل مصاصة دماء القرن وقد استوجبت مناهضتهم شتى الوسائل النضالية بما فيها الصوت الإبداعي الراديكالي العصي على المساومات الرسمية.

 

أحمد الشيخاوي

شاعر وناقد مغربي

في المثقف اليوم