قراءات نقدية

نبيه القاسم: أشرف إبريق و"للحديث نظير"

كان البروفيسور أشرف إبريق قد شدّ انتباهي واهتمامي بكتابه الأول "نوتات الكيميائي" (مكتبة كل شيء حيفا2020)، بجمال لغته وسلاسة مفرداته وجُمَله التي صاغها بأناقة الصّانع الفنّان وبسعة ثقافته الأدبية.

وجاء إصدارُه الثاني "للحديث نظير"(مكتبة كل شيء2024 حيفا) وحدّدَ الأهدافَ التي أراد تحقيقها منه بقوله: "أنْ أقوم بتشجيع الناس كي تخرج من الأماكن التي تتواجد فيها، وتكتب، وترينا عالمَها. أحبّ أنْ أرى عالمَ الأطباء من خلال عيونهم، المُزارع، الطبّاخ، الفيزيائي وسائق التاكسي، كلهم لديهم ما يقصّونه علينا، خسارة أنْ يحرمونا من كل هذه العوالم الجميلة. يجب علينا ألّا نخاف من أنْ نتشابك بين مختلف مَجالات المهن والإبداع. لا توجد هنالك مجتمعات ليست مبدعة، الكل يستطيع أنْ يكون في الطليعة، يجب علينا أنْ نخلق هذه البيئة لأنفسنا لنستطيع أنْ نستمر. وأنا فعلا أرى بوادر لتحرّكات علمية وثقافية وإبداعية على كافّة المَجالات، وهذا واحد من أهداف الكتاب، بأنْ أكون جزءًا من هذا الحِراك. نحن بحاجة لأنْ نقرعَ البيوت والمنصّات، القرى والمدن العربية، وأنْ نصنع هالة حول الثقافة من أجل التّحفيز والإبداع عند كل شخص في مجاله، سواء على صعيد أدبي أو علمي. وواجب علينا أنْ نحبَّ إبداع بعضنا، ونشجّع بعضنا، هذا شيء جدا مهم." ("ورشة الحوار الصحافي" التي نظّمها موقع "عرب 48" بالتّعاون مع جمعية الثقافة العربية)

واستهلّ "للحديث نظير" باقتباس من كتاب "الإمتاع والمُؤانسة" لأبي حيّان التوحيدي "إنّ في المُحادثة تلقيحا للعقول، وترويحا للقلب، وتسريحا للهمّ، وتنقيحا للأدب" وكأنّه بهذا الاقتباس أراد، من حيث لا يقصدُ، أنْ يُحدّد لنا هويّة مؤلّفه الجديد والمَنْحى الذي اختاره والحدود التي ألزم نفسَه بها. غير منتبه للتَّعْريف المُتسرّع الذي قدّم به نصّه الجديد على أنّه رواية.

ثم يهدي كتابه لوالدته الغالية ولوالده الحبيب المرحوم "اللذَين شكّلا لي ولأخوتي الثلاثة وأخواتي الستّ مصدرَ طاقة لا ينتهي، استمدّت منهما أجسادُنا ونفوسُنا ذرّاتها وجُزَيْئاتها، الصّحة والقوّة والنّور والمَحبّة "(ص7).

ومن السّطور الأولى لبداية السّرد نجد الراوي يعود بذاكرته إلى ذلك اليوم الذي استقلّ فيه سيارة أجرة للوصول إلى المشفى ليزور والدَه الذي تدهورت صحّتُه وأنهكه المرض، ويستعيد حالة القلق والخوف من أنْ تكون أيام والده الباقية في الحياة قليلة. ولاحظ عندما اقترب منه أنه ليس على ما يُرام فجسمُه كان يرتجف. فسارع واستدعى الطبيب الذي جاء وفحصه، ثم شرح له أنّ والده "يُعاني من مرض نادر، يؤدّي إلى تآكل الخلايا العَصبيّة، وأنّ وضعه يزداد سوءا يوما بعد يوم، وإذا استمرّ الوضع على ما هو عليه، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى وفاته خلال فترة قصيرة" (ص14) ونصحه بالحديث معه قَدْر المستطاع لتقوية جهازه العصبيّ، ويُعزّز الحالة العامّة للجسم.

وكانت كلمات الطبيب الحافز لتلك الجلسات المُتتالية والطويلة التي قضاها الراوي مع والده. وقد استبق هذه الجلسات بتعريفنا على والده أنه "كان أستاذا جامعيّا في موضوع الكيمياء الحيويّة، ودرس خصائص البروتينات في سياق أمراض مختلفة كالسرطان والباركنسون. كذلك أبدى اهتماما كبيرا في تاريخ العلوم الكيميائيّة والطبيّة، والاكتشافات التي غيّرت مجرى التاريخ، وأثّرت وما زالت تؤثّر على حياتنا في شتّى جوانبها. وكان يؤمن بأنّ المثقف الحقيقي يجب أنْ يكون ذا معرفة علميّة، ومعرفة الخلفيّة التي تكمن وراء الاكتشافات العظيمة التي جعلت حياتنا أفضل، حتى لو كانت معرفة متواضعة، وإنّ ثقافة الفرد السياسيّة والاقتصاديّة والفلسفيّة والتاريخيّة وغيرها من المواضيع الإنسانيّة وما شابهها، تبقى ناقصة، ما لم تكمّلها المعرفة العلميّة" (ص16)

وهكذا أخذ الراوي يُهيئ نفسَه، ويستحضر شهرزاد في "ألف ليلة وليلة" وإشغالها للملك شهريار وصَرْفها له عن التفكير بالقَتل بقصصها الجميلة التي كانت تقصُّها عليه. واجتهد بانتقاء المواضيع التي سيُثيرها مع والده باختياره العلمية منها والقريبة من الكيمياء مَجال تخصّص وبَحْث والده.

وكانت الجلسة الأولى بسؤاله لوالده حول تركيبة الأشياء وصفاتها وتشابهها واختلافاتها وعن أهم مكوّنات هذا الكون؟ (ص18)

وحدث الذي لم يكن مُتوقَعا، فقد "اتّسعت عينا والده، وازداد بريقها، شدّ جسدَه وحرّك رأسَه وأخذ نفسا عميقا وبدا وكأنّ السؤال قد أثاره" (ص19) وشرع في جوابه وشَرْحه وتحليله، وكأنّ المرضَ زال عنه، والألمَ فارقه، وذكرَ كبارَ العلماء والمفكرين والمُخترعين.

وتوالت الأسئلة وطُرحَت المواضيع المختلفة والوالد في قمّة تألقه واندفاعه وتناوله لمختلف القضايا العلمية المُعَقّدة والاختراعات الكبيرة التي غيّرت حياة الناس.

وظلّت هذه الجلساتُ تتوالى إلى أنْ كانت الأخيرة عندما "سمع تنهيدةَ والده وشعوره بالضّيق وازدياد تنفّسه ثم اختفائه فجأة والظلام يحيط بالمكان ولا يرى شيئا، يبحث عن والده ولا يجدُه. فقد فارق الحياة.

هذا النصّ الجميل

هو استمرار لنصوصه الجميلة التي قدّمها في كتابه السابق "نوتات الكيميائي"، لكنّه يختلف عنه بأنّه كتبه وهو على يقين ممّا يكتب، وبقصد مُسبَق، وهدف نبيل يبغي نَقْل ما عنده من معرفة وعلم لقارئه ليزوّده بكلّ ما يُمكّنه من مواجهة الغرائب والمجاهيل والمتغيّرات التي قد يُصادفُها في مسيرة حياته مُبتدئا بالسّؤال الأول الذي يطرحه الإنسان عند مواجهته الأولى للكون الذي يجد نفسَه فيه مُستَغْربا من تركيبة الأشياء وصفاتها وتشابهها واختلافاتها، مُعترفا بعدَم إدراكه ما وراء كلّ ذلك:

- ما هي أهمّ مُكوّنات هذا الكون؟

وهكذا من خلال الحوار الممتدّ على العديد من الجلسات بين الراوي ووالده العالم في علم الكيمياء تتفتّح الكُوّات والنّوافذ والأبواب لينكشفَ لنا هذا العالم الغريب الذي نوجدُ فيه فنتآلف معه، ونحسّ بأنّنا جزء منه فنتصالح معه، ونُصبح من مُكوّناته وعناصره المُتجانسة.

كان بإمكان الكاتب أنْ يُقدّمَ هذه المعلومات والمَعارف في كتاب علميّ يكون مساعدا لطلاب فرع الكيمياء في المرحلة الثانوية، ومفيدا لكل قارئ له، ولكنه اختار هذا الأسلوب الحواري مُطعِّما إيّاه بالاقتباسات من القصص والطُرَف والشعر والسّيَر الذاتيّة للعديد من العلماء والنوابغ الذين اشتهروا بما قدّموه من إنجازات واختراعات كان لها، ولا يزال، أثرها على حياة البشرية، وحتى استعان بالآيات القرآنية ممّا يُحبّبه للقارئ ويُسَهّل عليه فَهْمَ المادة وقبولها. أضف إلى ذلك أنّه كان يطرح بعض الآراء والمواقف في العديد من المواضيع مثل المرأة ومَكانتها مُتّخذا من أمّه المثال الأسمى، والحرّيات الاجتماعية، والمَظالم الطبقيّة والسلطويّة، ويُطعِّمها بمواقفَ عاطفية وإشارات لافتة، وإنْ كانت سريعة عابرة غير مُكَرّرة كما رأينا في اهتمامه بالممرّضة التي انجذب إليها. كما اهتمّ بالمريض الذي كان في الغرفة مع والده وابنه الذي اعتنى به، والحديث مع الأطباء.

ويظلّ نصّا جميلا

وأقربَ إلى النصّ العلميّ الذي يُقدّم المعلومات ويشرحها ويُحلّلها ويُبسّطها ويُبيّن أهميتَها وتأثيرَها مُعَرِّفا بأسماء العلماء الذين يعود لهم الفضل في الاختراعات والاكتشافات التي عرّفتنا على هذا الكون وموجوداته. ولكنّه يظلُّ بعيدا عن النصّ الأدبي والروائي بشكل خاص، رغم تَعريف الكاتب له برواية، فالكاتب نفسه من حيث قصد أو لم يقصد أشار إلى النموذج الذي اتّبعه وقلّده في نصّه هذا وهو أسلوب ونَهج أبي حيّان التّوحيدي في كتابه "الامتاع والمؤانسة" الذي اعتمد فيه الحوار مع الوزير الذي كان يُقدّم له اقتراحَه في الموضوع الذي يُريدُه أنْ يتكلّم فيه، وأبو حيان يستجيب ويتوسّع في كلامه مُضمّنا الكثير من الشعر والقصص والأمثال والمعلومات والأفكار وطرح قضايا مختلفة تهمّ الوزير وتُفيد الناس.

ووجود بعض العناصر التي تكون في الرواية مثل "السّرد والحوار والشخصيّات" لا تُعطي للنصّ صفة الرواية، ففي كلّ نص قد نجد هذه العناصر أو بعضها. وحتى يكون العمل الروائي ناجحا ومتكاملا يجب أنْ تتآلف فيه الأفكار مع الخيال ليتعالى هذا النص الروائي على النص السّردي العاديّ. والنصّ الروائي كما يقول الروائي واسيني الأعرج "هو إعادة صياغة لعالم ماديّ مُتحوّل إلى سلسلة من الافتراضات التي لا وجود لها عمَلياً في الواقع الموضوعي، إلا داخل النص."(القدس العربي 5.3.2024).

ومن كَوْن الرواية جنسا إبداعيا يُمكن أنْ تحتوي معظم الأنواع الأدبية أخذتنا الصفحات الأولى من النصّ مُتقبّلين تعريفَ الكاتب لنصّه بالرواية حتى ابتدأت الجلسات بين الراوي ووالده وانقطاعهما الكلّي عمّا يحيط بهما، وحتى عن الزمان والمكان فتقطّعت أواصرُ العلاقة بين النصّ والفن الروائي، وانحصر في كونه مادّة علمية تعليميّة تُقَدّم الكثيرَ من المعلومات لكل راغب في المعرفة، وخاصّة لطلاب موضوع الكيمياء. وحتى لو تجاهلنا هذا التحوّل في مجرى الأحداث وخروج النص عن مساره الروائي، وبقينا راضين عن تعريف الكاتب لنصّه بالرواية لواجهتنا الكثير من المُعوّقات التي تحول دون ذلك. وكان على الكاتب، حتى لا يُفقِدَ نصَّه صفتَه الروائيّة، أنْ يُخرجَه من جموده باندماج الشخصيّات بالعالم التّخييلي الذي كان عليه استحضاره.

وتجدر الإشارة أنّ الكثير من الروايات التي طرَحَت مواضيعَ علميّة أو تاريخيّة أو دينيّة وفلسفيّة، وكانت هذه المواضيع محور الرواية وبؤرتها، استطاع الكاتب الروائي انهاء جمودها وتحجّرها بانغماس الشخصيّات فيها بالعالم التّخييلي الذي خلقَه الروائي، وأنْ يُقدّم عملا روائيّا متميّزا. ومن الروايات الرائعة التي قرأتها وشاهدتها في فيلم سينمائي "ذهب مع الريح" لمرغريت ميتشل عن الحرب الأهلية في أميركا و "الحرب والسلام" لتولستوي عن غزو نابليون بونابرت لروسيا، و "الطاعون" لألبير كامو وأخيرا رواية "لا تزال أليس still Alice" للكاتبة الأميركية ليزا جينوفا وترجمة أفنان سعد الدين التي دارت حول إصابة البطلة بمرض ألزهايمر. وغيرها الكثير.

المكان والزمان والشخصيّات

الحالة الصّحيّة الصّعبة للوالد فرضت عليه نوعا من الحَجْر القَسْري في غرفة داخل المشفى حيث لا يستطيع تَرْك سريره، وهذا استدعى ملازمة الابن الراوي لوالده طوال الأيام التي قضاها في المَشفى، فأخذت حركة الزمن الأفقية تضغط بثقلها مع محدوديّة المكان وضيقه على تصرّف الشخصيات فيبدو وكأنّ كلّ شيء تَعطّلَ وتحدّد في ما يدور بين الابن الراوي الذي يطرح الأسئلة والوالد المريض الذي يُجيب عليها بحماس ورغبة وإسهاب دون الالتفات لحالته الصحيّة الصّعبة التي لا تتحمّل هذا الجهدَ الكبير.

هذه الجلسات الطويلة والمُرهقة بما تُقدّم من معلومات، وتُحدّد حركة الشخصيّات المُتواجدة كانت السبب الرئيسي وراء الجمود والتحجّر الذي سيطر على الشخصيّات وأوقفَ الزمن وجمّد المكان وعَطّل الأحداث، حيث كان الرّاوي والوالد مُنهمكين في طرْح مختلف المعلومات العلمية الدّقيقة غير مُلتفتين لمَن بقربهما ومدى الضّيق أو الازعاج الذي قد يُسبّبانه للآخرين. بينما المريض الثاني وابنه في الغرفة مُضطرين على متابعة ما يجري أمامهما، يستمعان بصمت، وضيق وغضب مكتوم. وأيضا المُمرضة التي كان من الممكن أنْ تكون نقطة انطلاق في خلق قصّة حبّ أو توافق واستلطاف مع الراوي ممّا قد يدفع بالأحداث والشخصيّات وحتى اللغة للحركة والحيويّة والتّنامي.

وقد تكون رغبة الراوي في نَقْل كلّ المعلومات التي يعرفها في علم الكيمياء للقارئ ولكلّ الناس هي التي كانت توجِّهُه، فألبَس والدَه قناعَ العالم الكيميائي بينما اكتفى هو بدور الوسيط الذي يطرح الأسئلة لتتدفّق المعلومات كلّها بأجوبة الوالد على الأسئلة، فجاء النّص على شكل حوارات بين الراوي الذي يطرح السؤال ووالده الذي يعطي الجواب. فلا خيال ولا قصص جانبيّة ولا شخصيّات أخرى تُخرج النص من محدوديّته العلمية فانسحب الجميع من المشهد: المريض وابنه والطبيب والممرّضة، وتوقف الزمن، وانحصر المكان وضاق، ولم يبق غير الراوي ووالده في حوارهما الطويل إلى أن بدأ صوت الوالد المريض المُتعَب في التّراجع والخُفوت حتى كان الصّمت الثقيل الطويل.

النهاية والمُلحَق

كانت النهاية متوقعة بموت الوالد، حيث كان الطبيب قد أخبر الابن الراوي بحالة والده الخطيرة، وأنّه قد يُفارق الحياة خلال أيام. فهو يُعاني من مرض نادر، يؤدّي إلى تآكل الخلايا العصبيّة. ورغم حالته الصعبة أرهقته الأجوبة الطويلة التي نطق بها جوابا على أسئلة ابنه الراوي، والتي لا شكّ ساهمت في تَسْريع موته.

وقد أراد الكاتب أنْ يُفاجئ القارئ في الصفحات الأخيرة المُلحَقَة بأنّ كلّ ما رواه كان تسجيلا لجلسة تجريبية قام بها صديقُه وزميله العالِم في علم الدّماغ من أيام الدراسة في الولايات المتحدة، الذي زاره في بيته وشارك في تشييع جثمان والده واستمع لرثائه له وتأثر جدا، ومن ثمّ دعاه لزيارته في بيته في مدينة جنيف في  سويسرا، وهناك أخبره باكتشافه جهاز يقوم بحَثِّ الدّماغ ليمنحنا شعورا مُطوّلا نعيش في أعقابه لحظات كنّا نتمنّاها، وأقنعه بدخول التجربة ليستحضر والدَه، ويقضي معه فترة سعيدة يتمنّاها ولو في المُخيّلة . وهكذا كان.

أخيرا

كل التحيات للصديق الكاتب البروفيسور أشرف إبريق على نصّه الجميل والمميّز الذي سيكون له الأثر الكبير على كل مَن يقرأه، ومساعدا لطلاب فرع الكيمياء في المرحلة الثانوية وكل طالب معرفة علمية جاد.

***

د. نبيه القاسم - الرامة فلسطين

في المثقف اليوم