قراءات نقدية

السرد الموضوعي في فلم: ترومان شو - Truman Show

faisal abdulwahabتسيطر آلية السرد الموضوعي على مجريات الأحداث في فلم (ترومان شو) لإثارة موضوعات أساسية منها: إشكالية الحرية، والفرق بين العالمين الإفتراضي والواقعي، وحدود معرفة الإنسان ومعرفة القوى الفوقية أو الهوس في البحث عن الحقيقة، وهيمنة وسائل الإعلام على حياة البشر، وصناعة النجم في المجتمع الرأسمالي.

Camera eye narration إن المتخصص في علم السرد يعرف أنواعاً متعددة من طرق السرد ومن ضمنها ما يسمى (سرد عين الكامرة) والذي يحيل السرد النصي إلى سرد سينمائي إذا صح التعبير. ومن هنا ينطلق الفلم في اعتماد تقنية المناورة بين العالمين الإفتراضي والواقعي. يدير مخرج البرنامج هذا العالم الإفتراضي والذي يسيطر على تحركات بطل الفلم (ترومان) ويوهمه أنه يعيش في عالم حقيقي بينما هو يعيش في الواقع في عالم إفتراضي على شكل قبة كبيرة، أشبه بقبة السماء، ويديره عدد هائل من الكامرات السينمائية المثبتة على هذه القبة ويشاهد هذا العالم الإفتراضي-الواقعي الملايين من البشر عبر الفضائيات في العالم كله. وهنا إشارة واضحة إلى هيمنة وسائل الإعلام على مقدرات البشر حيث تكثر الإعلانات التجارية وتتزامن مع تحركات البطل وتصرفاته بحيث لا يمكن التمييز بين حياته الواقعية وبين حياته المفترضة في السيناريو. وهنا يدخلنا الفلم إلى فن صناعة النجم في المجتمع الرأسمالي حيث تكون حياته مرسومة وفق سيناريو دقيق بحيث لا يمكن التمييز بين الإفتراض والواقع. كما أنه يحرمه من الأشياء التي يحبها ومن بينها السفر واختياره الفتاة التي تناسبه. وبهذه الطريقة يتشابه هذا السرد أو يتقاطع أحياناً مع سرد أو ما يسمى بالراوي العليم ليمثل القدر في حياة الإنسان أو القوى الإنسانية   Omniscient narration كلي العلم  

الطاغية التي تحدد مصير البشر إلى حد ما. وتتجلى قدرة هذا السارد حينما يحاول بطل الفلم الهروب من القبة-الجزيرة أو سجنه الكبير بقارب يبحر به فيأمر مخرج البرنامج أن يرفع الشمس الصناعية لتشرق على أرض القبة-الجزيرة ويأمر الرياح الصناعية لتضرب القارب في البحر كي تثنيه عن التحرر من السجن والعودة إلى الجزيرة ثانية. ولكن سرد الراوي العليم لا يمكن اعتماده هنا بشكل دائم لأنه يعجز عن وصف مشاعر البطل وهذا ما يعلنه صراحة حينما يقول للمخرج : (إنك لم تضع كامرة في رأسي). وهذا ما يؤكد عليه الفيلم باعتماده هذا النوع من السرد الذي يلغي المشاعر على خلاف ما لو كان قد اعتمد الفلم سرد الشخص الأول الذي يتيح للمنلوج الداخلي التعبير عما يجول في نفس البطل من مشاعر وأحاسيس ذاتية.

وتتوج نهاية الفيلم محاولات البطل الناجحة للتحرر من ربقة هذا العالم الافتراضي الذي يعيشه للقاء حبيبته خارج القبة-الجزيرة والتي كانت تراقب محاولاته الجادة للتحرر والوصول إليها عبر شاشات التلفزة العالمية. وعلى المستوى الرمزي يمكن تفسير لحظة تخطي البطل إلى خارج القبة بأنها لحظة التحرر من السلطة المعرفية للبشر إلى سلطة أعلى منها تقع في دائرة المعرفة الإلهية وهذا ما يطمح إليه الإنسان دائما ولكنه يعجز في تحقيق ذلك دائما أيضا. كما يمكن تفسير تلك اللحظة على النقيض تماما بأنها لحظة الإنعتاق من العالم الإفتراضي المزيف والمقيد إلى العالم الواقعي الذي تتوفر فيه قدر من الحرية خارج سيطرة الرقابة والمحددات الإجتماعية والقانونية. ولعل تسمية بطل الفلم ب(ترومان) والتي توحي بمعنى (الإنسان الحقيقي أو الصادق) للدلالة على أنه الإنسان الصادق الوحيد في هذا العالم المزيف. كما يمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك بأن بطل الفلم يحتج على سلطة أجهزة المخابرات والأنظمة الشمولية التي تتحكم في سير الفرد وتحسب عليه كل شئ حتى أنفاسه. ويمكن القول أيضا أنه احتجاج على المدنية الحديثة بتقنين حياة البشر والتعامل معهم كالآلات التي تُسيّر عن بعد وتلغي الإرادة التي تمثل جوهر الحرية الإنسانية.

 

د. فيصل عبد الوهاب

في المثقف اليوم