قراءات نقدية

خصوصية العالم الشعري عند الشاعر تقي محمد البحارنة

mohamad shadadalharakمقدمة: حينما يتسرب الجمال والبهاء من بين فجوات بعض الأشعار، وحينما تتألق نصوصها وتصبح حبلى ببديع الصور باذخة برشيق الكلمات وجميل العبارات، يجد القارئ المتذوق للفن نفسه مشدودة إلى محاورة تلك القطع الفنية من أجل الاستماع إلى الأصوات المنبعثة من قراراتها وارتشاف رحيق الجمال الكامن في أعماقها. يجد نفسه متوثبة للتعرف على الأنامل المبدعة التي حركت النفس واستفزت الخيال وتفننت في الرسم بالكلمات.

لقد عشت هذه التجربة الجميلة وذقت حلاوة القراءة ومتعتها وأنا أتجول في حدائق شعرية غناء ازدانت جنباتها بأشعار متنوعة أبدعتها وسقتها شاعرية فنان مسكون بحب الجمال، عاشق للكلمة الحالمة، مهووس بحب الوطن العربي في امتداداته الجغرافية والطبيعية وفي تعدديته الثقافية والسياسية. شاعر أصيل يربط بالكلمة الشعرية أطراف هذا الوطن، وينسج انتماءه العربي حبا وشعرا. يتجاوز الحدود المصطنعة بخياله الواسع، ويخترق المسافات الطويلة بقلمه الدفاق، ويلون أجنحة الحياة بإبداعه الوديع. يمزج مياه البحرين برذاذ المحيط، ويذيب كل جبال البعد الفاصلة بين الأجساد، ليتيح للقلوب والأرواح كي تتصافح وتتعانق بكل محبة ومودة. عشت هذه التجربة القرائية الممتعة مع شاعر دولة البحرين المتألق، وأحد مثقفيها الكبار، الأديب الديبلوماسي المبدع تقي محمد البحارنة1. شاعر لا يعترف بحدود للغة الشعر، يتجاوز بالكلمة الشعرية الأمكنة، ويسافر بخياله عبر الأزمنة، ويرتشف الجمال من كل الصور في هذا الكون البديع، ويعب منه إلى حد الثمالة. شاعر حساس موهوب، تشهد آثاره على تألقه وموهبته الشعرية، وهي آثار جديرة بالقراءة النقدية المسائلة للخبايا ولمواطن الشاعرية والكاشفة عن مكامن القوة والجمال فيها.    

يعد الأديب تقي محمد البحارنة من الأصوات الشعرية الأصيلة التي أمسكت بزمام القول الشعري وأعطت للكلمة الشعرية الفرصة كي تتفجر جمالا وروعة وإثارة. شاعر ينتمي إلى النبض الجمالي ويصدر عن رؤية مبدعة تستوعب التراث والحداثة، تذيب الحدود وتضع كل الجسور الممكنة للعبور بين الأزمنة والتجارب الشعرية. إنه شاعر مقتدر منفتح مكتمل الأدوات الفنية، يمتلك آليات النظم على النمط التقليدي، كما يمتلك ميكانيزمات الحداثة الشعرية. اجتمعت فيه الشاعرية والمعرفة والحكمة والدراية الواسعة والخبرة بسراديب الحياة ومنعرجاتها. فتحولت تجاربه الشعرية إلى سيرة ذاتية لشخصيته الهادئة العاشقة للجمال والسابرة لأغوار الواقع والمتأملة في الوجود والإنسان والحياة.

لقد وجدت نفسي محاصرا بسياج شعري مذهب الأركان، يجذبك إليه جذبا، ويدعوك إلى مغازلته والارتماء في أحضانه كي تنال حظك من جماله وعذوبته التي تنساب بغزارة لتروي الجميع. وجدتني بإزاء عالم شعري فسيح ومتنوع، تتدفق منه الجمال بلا انقطاع. يموج بنبضات شعرية نابعة من مبدع ذي عمق معرفي وذي دراية واسعة بقواعد النظم وشروطه وأصوله، من شاعر ملهم يطرق القول الشعري بالأصالة لا بالتبعية، من شاعر له وعي بالشعر وبأبعاده الروحية والجمالية والإنسانية.

ولهذا اخترت الاقتراب من عالم هذا الشاعر المقتدر بغرض إدراك السياق الرؤيوي الذي تنتظم فيه تجاربه الشعرية. ولعل الدخول إلى هذا العالم الشعري المثير يحتاج إلى شجاعة كبيرة وإلى جرأة قوية بنفس درجة ما يحتاج إلى مفاتيح وظيفية قادرة على فك شفرات النصوص، وقادرة على إحداث فجوات يتسلل من خلالها القارئ لاستنطاق دلالاتها القريبة والبعيدة، ولتفكيك بناها العميقة بكل ما تتضمنه من متخيلات وتحليقات وسياحات جمالية. فالمخزون الإبداعي لشاعرنا لا يمكن فهمه أو التحاور معه أو اختراق جداره إلا باستيعاب تام للسياق النفسي والفكري الذي ينتظم هذا الإبداع، والذي يشكل الخلفية الذهنية لكل ولادة شعرية. فالدواوين الشعرية التي أبدعتها يد هذا الفنان الأنيق تترجم ملامح شخصيته الملهمة التي كانت وراء ممارسته الشعرية، كما أنها تفصح عن مساهمة إبداعية ناضجة وشمت الساحة الثقافية العربية وأغنت خزانتنا الأدبية:

- ديوان "بنات الشعر" صدر عام 1996

- و ديوان" في خاطري.. يبكي الحنين" صدر عام 2003

- وديوان" من يضيء السراج"صدر عام 2009

هذه الأعمال الشعرية نابعة من رؤية شعرية منفتحة تنهل من التراث العربي وتتغذى بمائه وترتوي بروائه، كما أنها تنصت إلى همسات العصر ونبض التراب وتستجيب لذبذبات الحياة. تستوعب الموروث الشعري وتحترم قواعده وآلياته، وفي الآن عينه تنفتح على قضايا الراهن وتتفهم أذواقه واختياراته. يتقاطع فيها الهاجس الوطني بالحس القومي بأحلام الذات وبأسئلة الحياة. تتعدد فيها الألوان والأطياف والظلال بتعدد ألوان أعلام الوطن العربي، وتمتد فيها الكلمات بامتداد خريطة هذا الوطن. فهذه الدواوين الشعرية- وإن اختلفت عناوينها- كتبت بمداد ملتزم أصيل، وبروح متعالية عن التعصب والطائفية، وبوعي إنساني يحترم كرامة الإنسان ويقدر مشاعره. ولذلك تتحاور القصائد الوطنية مع شقيقاتها القومية والإنسانية والإخوانية. وتتعايش فيها أسئلة الواقع مع أسئلة الذات. وتسافر فيها الكلمة الشعرية بين المحيط والخليج غير عابئة بالحواجز الجغرافية والسياسية والأيديولوجية القائمة. في هذه الدواوين يلتقي حب البحرين وعشق ترابه بحب وعشق كل ذرة رمل من بلادنا العربية. ينبعث منها نشيد العروبة وصوت الأقصى وصيحات العراق ونبضات الخليج في أقصى الشرق، كما تنبعث منها نسمات أزهار المغرب ورذاذ مياه المحيط في أقصى الغرب. تتوحد فيها القصائد والمقطوعات والأبيات لتنسج ثوب الأصالة ورداء الهوية ولتصوغ شهادة الانتماء. وكل ذلك بأسلوب شعري خاص متميز، تظهر فيه ملامح صاحبه، وتنتصب فيه شاعريته الأصيلة التي شقت طريقها وسط كون شعري تعددت صوره وأصواته وتجاربه. فقد قرأ الشاعر لأسلافه ولمعاصريه، واحتك بتجارب غيره، وأرهف السمع والذوق لكل صوت شعري عذب، لكنه توقف عند عتبة هذه التجارب الشعرية القديمة والحديثة، فلم يتخذها قوالب جاهزة، ولم يتخذ أصحابها أوثانا معبودة مقدسة، ولم يكتف بترديد ما سمعه أو ترتيل ما قرأه، وإنما صاغ حمولته الشعرية وبضاعته الفنية صياغة فريدة، تحكمت فيها موهبته الشعرية وذوقه الخاص، وغذتها ثقافته الأدبية وحساسيته الجمالية. وقد عبر الشاعر عن أصالة شاعريته بقوله: "لا أستطيع القول إنني تأثرت بشاعر معين من هؤلاء بحيث حاولت أن أنسج على منواله، ولكني استفدت منهم في تكوين ذخيرة شعرية وذوق أدبي. فالشاعر الملهم يجب أن يكون له أسلوبه الخاص وطابعه المميز"1

 

- مفهوم الشعر ورسالته

لكي أقتحم العالم الشعري للشاعر تقي البحارنة، أقدم بين يدي القارئ شهادته التي حدد فيها علاقته بالشعر. وفيها يقول:" لم يكن الشعر عندي من أجل تحقيق جمال لغة التعبير فقط وإنما هو التعبير عن مشاعر النفس بأسلوب رصين وسهل يتجاهله اليوم كثير من الشعراء المحدثين. ولست ممن يستطيع أن يقول الشعر بناء على طلب من أحد. وقد مارست العمل الدبلوماسي والعمل في مجلس الشورى من دون أن أتخلى عن الشعر ووظفت شعري وشعر الآخرين في تضمينه خطاباتي وكتابتي بما يؤيد اتجاهاتي الفكرية وأحيانا بما يلطف الجو على الحضور... ومازلت أفعل ذلك."2

هذه الشهادة متضمنة لأكثر من إشارة وأكثر من منبه. ففيها نستخلص رؤية نقدية واضحة تترجم مفهوم الشعر عند هذا الشاعر، وتنتقد بعض طرائق الكتابة والإبداع التي انحرفت مساراتها ببعض الشعراء المحدثين. كما نجد فيها اعترافا صريحا بكون الشعر لم يكن غاية لذاته بقدر ما كان وسيلة طيعة للتعبير عن هموم الذات وللترويح عنها ولترجمة المواقف والقناعات والمنطلقات التصورية للشاعر.

من هنا تتراءى لنا الخطوط العريضة للسياق الرؤيوي الذي تنتظم في إطاره الممارسة الشعرية عند تقي البحارنة. كما تتراءى لنا معالم السياق النفسي والذهني الذي ينتظم عملية الإبداع عند هذا الشاعر. فلقد ارتبطت تجربته الشعرية بتجربته الحياتية، وكان الشعر بوصلته الهادية التي ترشده إلى الجمال وتهديه إلى عشق الإنسان والوطن. ارتبط قلبه وفكره بتراب أرضه، واستحم بأنوار بلاده، واغترف من معين تراثه ليصبح شاعرا للبحرين، وليتسع شعره لكل البلاد العربية. لم تسرقه مهامه التجارية ووظائفه الدبلوماسية من أحضان الشعر وموائد الأدب، ولم تستطع عزله عن محيطه الفني الذي يرتوي به في كل وقت وحين، وإنما كان الشعر له سندا ورفيقا في أسفاره وسياحاته وانشغالاته اليومية، وكان بالنسبة إليه دفترا حميما يعود إليه للتذكر والحنين كلما تغرب عن الديار، وكان واحة هادئة وارفة الظلال باذخة بالجمال يلجأ إليها للترويح عن النفس كلما اشتدت الأزمات، وكان أيضا لحظة تأمل وجودي عميق تيسّر له التخلص من أعباء الحياة كلما تكاثرت المسؤوليات.وهكذا جعل شعره جزءا من حياته، فلا تستقيم نبضات قلبه إلا بهمسات الشعر وإشاراته، ولا تستوي أنفاسه إلا إذا اختلطت بنسيم الشعر ونفحاته، ولا يطيب له مقام إلا إذا رنت موسيقى الشعر وألحانه.

بهذا الهوس الشعري تعلن هذه الشخصية الشعرية عن حضورها الإبداعي في الساحة الأدبية العربية، ترسم صورتها المتميزة وتفرض وجودها في نادي الشعراء العرب. تحمل معها رصيدا من التجارب يؤهلها لتكون مدرسة شعرية ناضجة ومتزنة، تجمع بين الأصالة الرصينة والمعاصرة المتزنة، وتربط عبق الماضي بهدير الحاضر، وتؤسس لمستقبل شعري جديد تتم فيه إضاءة دروب الإبداع الشعري من أجل تصحيح مسارات المواهب الناشئة.

لقد كان الشاعر تقي البحارنة حريصا على الوفاء لمفهومه للشعر ولرسالته، فلم يجعل إبداعه ترفا فنيا مقصودا لذاته منفصلا عن واقعه، ولم يسخره تسخيرا انتهازيا مناسباتيا أو ظرفيا، ولم ينزله من عرشه، ولم يقلل من كبريائه، وإنما جعله نافذة فنية مشرعة يطل القارئ من خلالها على صخب الحياة بكل تناقضاتها وبكل قضاياها وأسئلتها، كما يطل من خلالها على العالم الجواني للشاعر وما يعتمل فيه من صراعات دفينة وأحاسيس عنيفة مضمرة وتساؤلات مؤرقة. كان هذا الشعر تعبيرا فنيا عن رؤية خاصة للعالم وترجمة صادقة لذبذبات وعي قوي بما يحيط بالشاعر من قضايا سياسية واجتماعية وثقافية. وقد أكد الشاعر في أحاديثه وشهاداته على أن الرسالة الفكرية والإنسانية في الشعر يمكن أن تؤدي غرضها وأن تحقق هدفها دون أن تخمد جذوة الفعل الجمالي .

 

د . محمد شداد الحراق

أستاذ باحث من المغرب

.....................

1- التقيت بهذا الأديب المبدع على متن قطار متجه نحو مدينة أصيلا المغربية وقد كان ضيفا لموسمها الثقافي سنة 2005. وبعد سنوات من الغياب شاءت الأقدار أن نلتقي بمدينة الدار البيضاء. ثم توطدت العلاقة فيما بيننا وتبادلنا الزيارات والمؤلفات.

2 /3- حوار خاص ضمن: صحيفة الوسط البحرينية - العدد 1625 - السبت 17 فبراير 2007م الموافق 29 محرم 1428هـ

 

في المثقف اليوم