قراءات نقدية

زهير ياسين شليبه: قراءة أخرى في رواية حمام الدار للكاتب سعود السنعوسي

المضمون والبنية

"أنا مؤلف أكتبُ قصةَ مؤلف" ص 108

 تتداخلُ في هذه الرواية "مخطوطتان"، وتتكون من قسمين:

المخطوطة الأولى: "العهد القديم:

"صباحات عرزال بن أزرق" يقدمها مؤلفها باقتباس من الكاتب الألماني باتريك زوسكيد: ..." تعدى الخمسين من عمره عاش منها عشرين عاماً خالية من أي أحداث، حتى فاجئته ذات يومٍ حمامة". ص7

وعرزال راويها وشخصيتها المحورية، أما منوال أزرق فهو مؤلفها الذي كتبها خلال 12 ساعة، ويتحدث عن تكنيك كتابته، وسيصير راوياً للمخطوطة الثانية، أما الفرق بين المخطوطتين فهو اختلاف اسم الشخصية المحورية كما توضّحُ قطنه في الهامش كأنها سكرتيرة الكاتب! ص 121

تعتمد بنية "العهد القديم" على سرد الأحجيات ومناقشتها في استراحة السارد: "قبل ساعة تأمل" حيث يبدأ سرديته بعنوان محبطٍ: "إلى هنا يكفي هذا الهراء". ص 11

نلاحظ أن عرزال بن ازرق يكتبُ في هذا الفصل مذكراتِه، يقدّمها كأنه يقرأها أو يرويها، فنحن أمام راوٍ يقترب من "صورة الكاتب" أحياناً، كون السرد من مؤلف عن مؤلف آخر. 3790 سعود السنعوسي

المخطوطة الثانية: العهد الجديد:

يبدأ الساردُ سرديتَه "صباحات منوال بن ازرق"، مُلمّحًا عن "جريدة قديمة  مصفرة الأوراق" ص 23 ، وينتهي بها حيث نطلع على الخبر المنشور فيها عن "حادثة اختفاء توأمي ساحل المرسى..." ص 181. 

بينما أخذ منوال "يترنم وهو يستدعي صوتَ أمّه "يا نظير عيوني، ودعتك الله... نحت أنا لو أبرا، نوح الحمامه.... فتح عينيه التي رأت كل شيء. نفخَ صدره. باعد بين ذراعيه. ثنى ساقيه يهم بالقفز. غروووغ. ثمّ..... سمعَ طرقاً على باب شقته". ص 182 أراد أن ينتحرَ فلم يَجرُؤ على ذلك!

وبعد فصل: "قبل ساعة تأمّل" يُعنونُ روايته ب "مشروع رواية " و"نص لقيط" ، كونه "وُلد بغير فكرة"  كما قالت قطنه للمؤلف. ص 105 و"نص نسيب". وخمسة صباحات، كل منها فصل بحد ذاته تكوّن بنية الرواية.

وهناك فصل طويل بعنوان: "أثناء ساعة تأمل" مكرس لشخصية "قُطنه" البطلة "المحيرة التي ستتضح معالمها بعد انتهاء عملية سيرورة النص. ص 85-106

"أنا مؤلف أكتبُ قصةَ مؤلف، وهذه ساعة تأملي، لا تهدري وقتك!... أنا لا يرضيني هذا الهراء.... إقرئي المذكرات التي أخفاها فحسب... إخترتُ أن أكون أنا وفق ما أروم. كتبتُ نصاً يخالف النص اللقيط الذي تعرفين. ...هنا نصٌّ نسيب أنسبه إلى فكرة واضحة المعالم. انسَي المؤلف بن أزرق الحائر في نصه في العهد القديم". ص 108

نحن هنا أمام مذكرات يكتبها منوال بن أزرق. "مشروع رواية"، حيث يحاول الكاتب من خلال راوٍ آخر أن يفلسفَ النصَّ الأولَ، ويسهل المحتوى، لكن قد يحدث العكس أحيانًا! بالذات في حواراته مع بطلته قطنه. هنا، تكاد الحقيقة تغيب أو تضيع "أثناء ساعة تأمل"، لكنه من أجمل المقاطع السردية التجديدية التي طورت المونولوج التقليدي إلى هجين من مناجاة وحوارات فنية. ص 106

أما الفصل الأخير فهو قصير مكرس للراوي "عرزال" الذي يتحدث أحيانًا بانتقالات واقتضابات عن ذكرياته ويقدم الأحداث والشخصيات الحقيقية مثل زينه ورحال مختلِطَة بالحَمَام وبه والمعزه قطنه والخ.

عندما انتهيت من قراءتي الأولى لهذا العمل المهم، بالذات من الناحية اللغوية، تذكرت "الصخب والعنف"** للأميركي وليم فوكنر، "رواية الروائيين" الصعبة الفهم، لدرجة أن كاتبها أعاد إصدارها بملحق يوضح بعض غموضها! ولاحظت أن الروائي سعود السنعوسي عمل نفس الأمر في فصله الثاني "العهد الجديد" بلغة أقل ما يقال عنها إنها رائعة، سلِسة! أعادَ فلسفة الرواية وطرق الكتابة وفكرتها: الحقيقة أنه لا توجد حقيقة! ص 110

يصورُ الكاتبُ مؤلفًا خمسينيًا، يجلس أمام "مخطوطه" محتارًا "في أمره" كما يقول لمنيره! وهو مكتئِب ومحبَط مما يكتب  ويكرر: "إلى هنا يكفي هذا الهراء!". ص 11

نلحظُ أن الكاتب استجابَ لعقله الباطني، وأطلق العنان لأفكاره وتداعياته في هذا النص ضمن "عفوية" مقصودةٍ ومصمّمَة من قبل الروائي سعود السنعوسي بمهارةٍ عاليةٍ بحيث لا يشك القارئ بها، رغم سخرية الراوي من نصه.

يُفصحُ المؤلفُ هنا عن طريقته في السرد والبنية والتكنيك محاورًا القارئ: "ألفيتني أكتبُ فحسب" ص 13، أنا أعرف القليل عن شخوص روايتي ..." ص 14، وتتضح الإجابة بالتدريج في ثنايا النصوص عن "عرزال" الراوي و"منوال" الكاتب ومنيرة وأسماء أبنائه "البدوية" "الأليغورية" والحفيدين والطيور، إنه المفسّر في حواره مع  قطنة.

في إعادة فلسفة النص تقول قطنه للكاتب: "أنا هنا رسولة مِمّن كتبني ...هو لا يعرفني... أنتَ تقول أشياءً غريبةً عرزال!...سوف يحيطُ جسدَكِ بذراعيه يهمسُ بأذنكِ. الروائيون مرضى، يُنفّسون عن معاناتهم ويستزيدون بالكتابة تعويضًا لنقص في نفوسهم!". ص 103

يتحدث منوال مؤلف "العهد الجديد" عن رغبته في تحفيز شخصياته وحثّها "لفتح حوارات فيما بينها" ويود أن يعرف ايَّ شيء عنها، فقد يستطيع ان ينهي قصته بالانتحار. ص 15

ويقول: "...فجأة. وجدتني ألهثُ في الكتابة، شخص مضطرب اسمه عرزال بن أزرق! حتى الاسم غير مألوفٍ لا أدري من اين جاء. لا أملك تصوراً حول ما كتبت. لا الزمن.. لا المكان... لا الشخوص... بطل؟ الكلمة ذاتها تمنح صاحبها قيمة اشك في وجودها!". ص 13 كأنه هنا أيضًا يوكد فكرة التلقائية والفقد وضياع الحقيقة!

نلاحظ أن الرواية انتهت عملياً بفشل تحقيق فكرة الانتحار! وهنا أيضًا تعبير أليغوري عن استمرار الحياة! "أكتبُ لأدرك مشهد انتحار تلك الشخصية، وحينما اقتربتُ منها لم أقوَ على قتلها!". ص 13 

وهكذا تنتهي الرواية مع استمرار الحياة رغم الصعوبات! وهذا هو مغزاها!

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

في المثقف اليوم