قراءات نقدية

الممارسة الشعرية في مجتمع الفقهاء

mohamad shadadalharakلم يكن الشعر يمتلك استقلاله الذاتي داخل المنظومة الثقافية التقليدية المغربية، ولم تكن النظرة إليه أو المواقف منه مشجعة على العطاء والإبداع. بل كان صاحبه كائنا منبوذا يحس بالغربة و الإقصاء في مجتمع يحرسه الفقهاء. ظل في الهامش وفي المواقع الخلفية، لم يتصدر المجالس ولم يحتل المواقع الأمامية عند ذوي الجاه والسلطان، لأن الفقهاء والعلماء عرفوا كيف يحتكرون المناصب والريادة في وسط اجتماعي جعل منهم عدولا وسادة، ونصبهم في مراكز القرار، ونفخ فيهم روح التميز والقيادة.

فقد صنف العمل الشعري في خانة هامشية، وتعامل معه المجتمع الثقافي تعاملا انتهازيا منفعيا، فجعله أداة ووسيلة لخدمة العلوم والمعارف الدينية واللغوية بعد تجريده من بعده الفني والجمالي. تحول الشعر إلى آلية خادمة لغيره من المعارف، وكان هذا هو الشرط الصعب الذي وضعه الفقهاء لكل من سولت له نفسه قرض الشعر أو الركض في حلبته.

ظل الشعر المغربي يبحث لنفسه عن حضور مهما كانت درجته، ويريد إثبات وجوده في حظيرة الثقافة المغربية، ولو كان ذلك على حساب جماليته. فقدم الشعر الكثير من التنازلات حتى يحافظ على هذا الوجود في مجتمع لا يعترف بالشعر، بل يعتبره مدعاة لفساد النفوس، وينظر إليه "بعين الاستخفاف والازدراء والشك"1. وكان مبرر هذه النظرة الدونية إلى الشعر أنه "يشغل عن القرآن ويصرف عن الاهتمام بأمور الدين، ومن ثم يكون الابتعاد عنه صوابا، والتوقف عن قرضه فضيلة".

هذه المواقف الصارمة المعادية للممارسة الشعرية والساعية إلى إقصاء القول الشعري من الواقع الثقافي شكلت تيارا قويا يقوده كبار العلماء والفقهاء. فلم يكن أمام صاحب الكلمة الشعرية سوى الانسياق مع الشروط التقليدية التي وضعت للقول الشعري، وأهمها الخضوع المطلق للرؤية الدينية وخدمة المعارف والعلوم الشرعية واللغوية، وجعل الكلمة الشعرية "مجرد أداة للعلوم الفقهية واللغوية، ووسيلة لحفظ الشاهد في معرض علم النحو وعلم البلاغة وأيضا في رواية المثل السائر"3. وهذا التوظيف النفعي البراغماتي جعل الشعر "يخرج عن حقله الإبداعي إلى حقل آخر يكتسب فيه نوعا من البراعة... فالشعر يتحول إلى معرض لاختبار القدرة النظمية، ولا أقول الملكة الشعرية، والتفوق بها على الأنداد والأقران"4.

فلم يعد الشعر- عند بعض النقاد- محددا لملامح التميز الثقافي أو عنصرا أساسيا في بناء الشخصية العلمية والثقافية وإنما أصبح "عنصرا مكملا لثقافة العالم، ووسيلة لإظهار القدرة التعبيرية، وباعتبار دوره لا يتعدى الترويح عن النفس، وتبادل العواطف مع الآخرين"5

ونتيجة لهذه التوجيهات الصارمة والقيود القاسية التي وضعت على يد الشاعر، ظلت المحاولات الشعرية تدور في فلك الرؤية الدينية، وتلبس رداء الفقهاء، وتحتضن أصواتهم ورؤاهم. بل أصبحت القيم الخلقية شرطا أساسيا في عملية الإبداع، بحيث لا يجوز للشاعر إطلاق العنان لخياله أو لسانه، ولا يسمح له بالمناورة في محيط المسكوت عنه. وقد التزم أغلب الأدباء بهذا الإطار القيمي، واعتمدوه كمرجعية فكرية للقول الشعري. إذ لم يكن نضالهم الطويل من أجل ترسيخ الممارسة الشعرية في البيئة الثقافية تمردا على قيم المجتمع ومنطلقاته المرجعية، بقدر ما كان كفاحا من أجل تحرير الشعر من حالة الاحتجاز والحصار التي فرضها الفكر الفقهي المتزمت.. وهكذا وضع أبو علي اليوسي، وهو أحد رموز هذه الفترة، ضوابط أخلاقية وقيمية للقول الشعري وحدد الإطار العام للممارسة الشعرية معتمدا على مرجعيته الدينية وثقافته الصوفية قائلا: "... فقد بان بهذا فضل الشعر، وأن لا بأس به أصلا. غير أنه ليس على إطلاقه وأن الشعر كله محمود ومرضي، فإن هذا خطأ وغلط، بل هو على تفصيل. فما كان متضمنا للثناء على الله تعالى، أو لمدح النبي (ص) وأصحابه، أو الأنبياء والملائكة وكل من يجب تعظيمه وتوقيره والثناء عليه فهو مندوب إليه مرغب فيه. وما كان متضمنا للتنبيه والوعظ والتزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة ونحو هذا فكذلك أيضا. وما كان متضمنا للهجو وإيذاء كل من عرضه معصوم فهو حرام. ويتفاوت في القبح والشدة بحسب الموذى، حتى ينتهي إلى الكفر كما في حق الأنبياء. وما كان خاليا عن هذين الأمرين فهو من المباح في الجملة. إلا أنه إن اشتمل على وصف القد والخد والمجون التي تحرك دواعي الشهوة والغواية، فهو قد يحرم وقد يكره وقد يباح بحسب حال القائل والمخاطب"6.

وقد استند اليوسي في هذه الضوابط إلى المنطق الفقهي الخالص، واعتمد في الأساس على موقف النبي (ص) من القول الشعري فأورد بعض الأحاديث النبوية مثل قوله (ص) {إنما الشعر كلام مؤلف، فما وافق الحق منه فهو حسن، وما لم يوافق الحق فلا خير فيه} وقوله (ص) {إنما الشعر كلام، فمن الكلام خبيث وطيب}7

لقد كان لهذه الرؤية النقدية المعتمدة على الخلفية الدينية تأثير واضح على التجارب الشعرية المغربية، ودور كبير في توجيه الممارسة الإبداعية وتأطيرها في حدود دينية وأخلاقية، وهذا ما ساهم في ظهور "صنف خاص من الشعر أطلق عليه لقب (شعر الفقهاء) وأصبح هذا اللقب صفة تميز أغلب الإنتاج الشعري المغربي... وإن عبارة (شعر الفقهاء) لتعكس بحق أبعاد هذا الواقع الثقافي. فالفقهاء الذين تعاطوا للنظم الشعري، لم يكن يعنيهم صوره أو عوالمه التخييلية بقدر ما كانت مقصديتهم من النظم توسيع مجالات إدراكهم وتنويع وسائل تعبيرهم. ولهذا قل أن تجد عالما أو فقيها لم يجرب حظه في مسألة النظم الشعري. وبالرغم من أن الشعر لم يكن يشكل بؤرة نشاط المثقفين في البيئة المغربية إلا أنه احتل مكانا مميزا في النسيج الثقافي"8. وقد رفض هذا الطرح بعض النقاد المغاربة، وفي مقدمتهم الدكتور مصطفى الشليح، بحيث يذهب إلى أن هذه المقولة أساءت إلى الشعر المغربي فنزعت عنه أدبية القول، وصنفته في خانة النظم المستهلك والمتهالك، ويرى "أن هذه المقولة، منطوقا ومفهوما، غير ثابتة في تاريخ الأدب المغربي، وغير ملزمة له حتى في أدب المرابطين"9.

إن التلقي الساذج لمقولة (شعر الفقهاء) يجعل القارئ يجنح بفكره عن مجال الإبداع الحق، ويدفعه إلى امتلاك تصور قاصر أو خاطئ عن هذا النوع من الشعر. وهذا ما ساهم في تدفق الاتهامات القاسية المبنية على تصورات ظنية وأحكام متسرعة مجانية. فمن تواصل مع الشعر المغربي تواصلا نصيا، واحتك بنماذجه ودرر نصوصه احتكاكا تذوقيا، وتجرد من كل خلفية سابقة،لا يمكن أن يقتنع بالحمولة القدحية لمقولة (شعر الفقهاء)، وسيتعرف عن قرب على تجارب شعرية لا تقل فنية عن نماذج الشعر العربي المشرقي والأندلسي. وإذا كنا نقول بأن شخصية الشاعر قد ظلت متوارية خلف شخصية الفقيه، فهذا لا يعني ذوبان البعد الفني وانسحاب الشعري من دائرة المنافسة على احتلال الواجهة والمواقع الأمامية، لأن شخصية الفقيه لم تستطع أن تلغي شخصية الشاعر أو أن تمنعه من ممارسة طقوسه الفنية معاناة وخيالا وإبداعا. فقد ظل الشاعر يمارس حضوره الفني من تحت عباءة الفقيه، وظل يغازل تمثال الجمال ويركب صهوة الخيال في إطار من الوقار، وفي جو من الالتزام بالمعايير الأخلاقية التي ارتضاها العقل والقلب والذوق، وأقرها الدين وقيم المجتمع.

وقد كان للزوايا الصوفية دور كبير في تكريس هذا التصور الأخلاقي وتوجيه الممارسة الشعرية نحو المسار القيمي / الديني. بل إن هذه الزوايا قد احتضنت أغلب التجارب وطبعتها بطابعها الصوفي الروحي، وجعلت من الشعر قناة فنية لخدمة التجارب الصوفية. ففي رحاب الزوايا التقت الحساسية الفنية بالحساسية الدينية واندمجتا في لحمة تمخضت عنها القصيدة الشعرية الصوفية ذات الخصوصية الفنية والمعرفية، والتي أكسبت الممارسة الشعرية بعضا من التميز، وجعلت منها إضافة نوعية في تراثنا الأدبي المنظوم.

فالاتجاه الديني الذي أطر الممارسة الأدبية المغربية "هو الذي حفظ للمغرب تميز أدبه عن المشرق الذي أثر فيه غزو التتر والمغول واحتلال الترك... وسلامة المغرب من ذلك أتاح للعربية أن تنمو في بيئة عرفت بكثرة مراعيها العلمية، فكان هذا الاتجاه الديني مبلورا للرؤية الإبداعية"10.

لقد أنشأت الزوايا للشعر فضاء روحيا واجتماعيا يتحرك فيه تلقيا ورواية وإبداعا وتذوقا وتنظيرا، اعتمادا على المرجعية الصوفية. وظلت القصيدة الشعرية تدور في المدار الذي رسمته هذه المرجعية، تعزز القيم الروحية في النفوس، وتكرس التدين في المجتمع.

وليس غريبا أن يتأسس القول الشعري على الدعامة الدينية والخلقية. وليس ذلك منقصة ولا مدعاة للنيل من هذا النوع من الشعر، لأن في تراثنا النقدي مواقف نقدية ربطت الإبداع بالقيم، وجعلت من العنصر الأخلاقي مطلبا أساسيا في القول الشعري. فكثير من نقادنا القدامى أكدوا على البعد الأخلاقي للشعر، وجعلوه مما يعطي للنص قيمته. فمنهم من وجد الجمال والمتعة في قصائد بسيطة من حيث التقنيات الفنية والآليات التعبيرية، ولكنها كانت حاملة لمشروع إصلاحي أو مكرسة لقيم الخير، من ذلك موقف أبي عمرو ابن العلاء من قصيدة المثقب العبدي التي يقول فيها:

فإما أن تكون أخي بحق

فأعرف منك غثي من سميني

وإلا فاطرحني واتخذني

عدوا أتقيك وتتقيني

فما أدري إذا مت أرضا

أريد الخير أيهما يليني

أ الخير الذي أنا أبتغيه

أم الشر الذي هو يبتغيني

فكان موقف أبي عمرو منطلقا من مرجعية خلقية خالصة، حينما علق على النص بقوله "لو كان الشعر مثلها لوجب على الناس أن يتعلموه"11.

وعلى هذا الأساس، فإن جمالية الشعر ليست دائما مقرونة بحصول اللذة الفنية، بل قد تتغلب جمالية المعنى فتكسب الشعر فرادته وتميزه. وقد شكل هذا المنطلق النقدي أساس التصنيف للمختارات الشعرية، فقد كان العامل الخلقي يراعى فيها قبل أن يراعى العامل الفني. وذلك باعتبار الشعر ذا وظيفة تربوية وحاملا لقيم يتربى عليها الراغبون في صناعة الأدب.

وعلى الرغم مما يمكن أن يحمله الشعر من معان سامية وقيم وتوجيهات أخلاقية وسلوكية، فإن المجتمع الثقافي قد انقسم في موقفه من الشعر ومن أصحابه ومتعاطيه.فظهر اتجاهان مختلفان12؛ اتجاه متطرف يرفض الشعر ويحارب أصحابه وينعتهم بالبعد عن الفطرة باعتبار أن" الشعر يشغل عن القرآن"13. واتجاه معتدل، حاول تكييف فن الشعر مع النزعة الدينية، وبحث عن المبررات والأصول الشرعية التي تجيزه وتتقبله. وهذا الاتجاه الأخير هو الذي تبنته الزوايا، وخاصة الدلائية والناصرية. فكان المكون الأخلاقي جزءا من بنية الشعر، وعلامة بارزة في معظم التجارب الشعرية.

ومن هنا نستطيع أن نعدل نظرتنا إلى شعر الزوايا الذي يندرج ضمن هذا الإطار الأخلاقي، ونركز على خصوصيته ووظائفه المتعددة دون أن نسقط الالتفات إلى جماليته الفنية. فهذا النوع من الشعر يتقاطع فيه البعدان الرسالي والفني، ويتصل فيه الهاجس الإبداعي بالهاجس الفكري والديني. ولذلك كانت القصيدة الشعرية التي أنجبتها الزوايا المغربية قصيدة مركبة ،تنصهر فيها عناصر شتى، ولها أبعاد مختلفة ومتنوعة مرجعية ووظيفية وجمالية.

والغالب على شعر الزوايا أن ولادته - في أكثر نماذجه- لم تنزح عن الأجواء الدينية والطقوس الصوفية التي خلقتها الزوايا وساهمت في تكرسيها في المجتمع. كما أن هذا الشعر ظل مرتبطا بالخطاب الديني الصوفي وبرموزه. فلم يكن الشعر صناعة أدبية مقصودة لذاتها14، وإنما كان إنتاجا فنيا وظيفيا استجابة لما يفرضه منطق الانتماء والالتزام، ولما تتطلبه الحياة الصوفية من أذكار وأوراد وابتهالات، ولما يقتضيه الولاء الطرقي من مدح للشيوخ والأولياء وتشوق إلى المقدس بكل عناصره وما يصاحب ذلك من بكائيات واعترافات وزهديات وتوسلات. فلم تكن الخلفية الفنية أساس هذا الشعر أو منطلقه الأول، وهذا ما يجعل كثيرا من نماذجه لا ترقى إلى مستوى الإحسان الفني.

ومع ذلك يبقى الشعر المرتبط بالزوايا من أكثر النصوص التباسا، وأكثرها تعبيرا عن الخصوصية الفكرية وعن نوع خاص من الفهم للقول الشعري ولوظائفه. فلم يكن الخطاب الديني سمة لصيقة به بشكل عام، ولم يكن هاجس الانتماء الإيديولوجي / الطرقي المحرك الوحيد للقول الشعري. بل إننا نجد، في تراثنا الشعري الذي أبدعه رجال الزوايا وأدباؤها، تجارب شعرية دارت مع الحياة الوجدانية والاجتماعية والسياسية، وعبرت عن هموم الإنسان وعن إحباطاته ونزواته وتطلعاته، بعيدا عن الخطاب الديني. وكأن الشاعر- من حين لآخر- كان ينفلت من مغناطيس التصوف، ويتحرر من جاذبية التوجيه الديني الصارم ليمنح لنفسه الحق في أن يفكر خارج الإطار الفكري و القيمي الذي ينتمي إليه، وأن يستمع إلى صوت النفس وثرثرة القلوب وهدير المجتمع.

 

 

د. محمد شداد الحراق

.........................

المصادر والمراجع:

1 أحمد الطريسي: الإبداع الشعري والتحولات الاجتماعية، ص: 15.منشورات كلية الآداب بحوث: 4، جامعة محمد الخامس الرباط.

2 جواد السقاط: بناء القصيدة المغربية، ص: 51.

3 أحمد الطريسي: الإبداع الشعري...، ص: 15.

4 م. نفسه، ص: 17.

5 عباس الجراري: الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه ج1 / ص: 200. مكتبة المعارف،الرباط 1970، -

6 الحسن بن مسعود اليوسي(أبو علي): زهر الأكم في الأمثال والحكم، تحقيق محمد حجي محمد الأخضر، ج1 /ص: 48. دار الثقافة البيضاء ط1-1401-1981

7 م. نفسه، ص: 48.

8 محمد شداد الحراق: محمد المكي بن ناصر الدرعي: تراثه العلمي والأدبي: تصنيف و دراسة، ج 2 / 410 ـ 411، رسالة جامعية مرقونة بكلية الآداب، تطوان. 1998.

9 في بلاغة القصيدة المغربية،ص:52 مطبعة المعارف الجديدة – الرباط، الطبعة الأولى، 1999

10 عبد الله بنصر العلوي: أبو سالم العياشي المتصوف الأديب،ص: 151 ـ 152، منشورات وزارة الأوقاف المغربية 1419-1998 .

11عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري: الشعر والشعراء، حققه وضبطه مفيد قميحة، مراجعة نعيم زرزور، ص: 250،دار الكتب العلمية بيروت ـ لبنان،ط 2- 1405 / 1985

12انظر: السقاط، بناء القصيدة المغربية...ص:51-52

13م نفسه،ص:51 نقلا عن "ابتهاج القلوب" لعبد القادر الفاسي.

14انظر: مبحث:الشعر علم وصناعة،في:عبد الجواد السقاط: بناء القصيدة المغربية...،ص:42-46

 

في المثقف اليوم