قراءات نقدية

بهجت عباس: سباحة أو سياحة قصيرة في بحيرة الشاعر الفرنسي لامارتين

القصّة

عندما كان الشاعر الفرنسي الرومانسي لامارتين (1790-1869) يستجمُّ في بحيرة (بورجيه) المعروفة بمياهها المعدنية خارج باريس لمعالجة مرض ألـمَّ به عام 1816، تعرف على فتاة جميلة اسمها جولييت شارل (سماها لآمارتين أوليفير في رواية كتبها.) جاءت للغرض ذاته، فكانت علاقة بينهما. وبعد انتهاء مدة الاستجمام، ذهب كُـلُّ منهما إلى سبيـله بعد أن تواعدا على اللقاء بعد سنة عند البحيرة ذاتها. وانقضى عام على الفراق، عاد لامارتين مرة ثانية إلى البحيرة، ولكنَّ جولييت لم تكن هناك، حيث اشتد بها المرض فماتت بعد بضعة أشهر نتيجة فشل جهاز التنفس، فكانت هذه القصيدة التي اشتهر بها لامارتين. 

هناك روايات عدّة فيها بعض الاختلاف ولكن الجوهر واحد.

ترجمتها

لمْ تحظ قصيدة رومانسيّة بشهرة عالمية كما حظِيَتْ قصيدة لامارتين (البحيرة) فقد ترجمت إلى العربية نثراً وشعراً ربّما عشرات المرّات. وكل ترجمة دلّتْ على مدى الدراية بموضوعها والإلمام بلغة المترجم عنها أو فهم ما قصده الشاعر والقدرة على سبك الترجمة لإبراز القصيدة بجمال وروح تجعل القارئ لا يشعر بأنّها مترجمة. وهذا يعتمد على مدى إمكانية المترجم تقمّصَ شخصيّة الشاعر أيضاً. وهنا يُجيز للمترجم أن يضيف كلمات أو جملاً غير موجودة في الأصل على ألّا يخل بروح الأصل أو يغيّر معنى القصيدة أو يحرّفها عن الأصل وبما لم يقله الشاعر، وبخاصة إذا كانت الترجمة شعراً موزوناً مقفّى. وعلى هذا الأساس جاءت ترجمات أحمد رامي، أحمد الصافي النجفي، عبد الحق فاضل وغيرهم لرباعيّات عمر الخيّام بصور مختلفة جداً، وحتّى جاء بعضها منحرفاً عن الأصل. ولكنها ، كلّها، سمّيت برباعيات الخيّام! وهكذا كانت ترجمة (البحيرة.) وهنا أذكر المقطع الأول والثاني من قصيدة (البحيرة) التي ترجمها هؤلاء كاملة وكل ترجمة تختلف عن الأخرى من حيث الحس والتفكير أو الأسلوب أو المطابقة مع الأصل.

French

Ainsi, toujours poussés vers denouveaux rivages,

Dans la nuit éternelle emportés sans retour,

Ne pourrons-nous jamais sur l’océan des âges

Jeter l’ancre un seul jour ?

**

Ô lac ! l’année à peine a fini sa carrière,

Et près des flots chéris qu’elle devait revoir,

Regarde ! je viens seul m’asseoir sur cette pierre

Où tu la vis s’asseoir !

English

Thus, always pushed towards new shores,

Into the eternal night carried away without return,

Will we never standing on the ocean of ages

Drop anchor for just one day?

**

Oh lake, the year has scarce run once more round its track,

And by these waves she had to see again,

Look! I have come alone to sit upon this rock

You saw her sitting on.

الترجمة

بهجت عباس

وهكذا تدفع بنا إلى الأمام في ظلام أبدي

نحو شواطئ جدد بلا عودة.

ألن نتمكن أبدًا على محيط العصور

من الرسوَّ على ميناء ولو ليوم واحد؟

**

يا بحيرة! بالكاد شارف العام نهايته،

وعند هذه الأمواج الحبيبة التي كانت ستراها مرة أخرى،

انظري! لقد جئت وحدي لأجلس على هذا الصخرة

التي رأيتِها جالسة عليها!

أحمد حسن الزيات

أهكذا قضى الله أن نمخر في عباب الحياة

مدفوعين في ظلام الأبد من شاطئ إلى شاطئ،

دون أن نملك الرجوع إلى ملجأ،

أو الرسو ذات يوم على مرفأ؟

 (ليس في الأصل شيء عن قضاء الله كما إنّ الترجمة ليست دقيقة)

**

انظري! أيتها البحيرة

ها هو ذا العام قد كاد يشارف تمامه،

وأنا وحدي بجانب أمواجك الحبيبة

أرتقب عبثًا عودة جوليا إليها،

جالسًا فوق الصخرة التي كنت ترينها جالسة عليها!

(العام شارف تماماً أي مضى، وليس كاد يشارف كما جاء في الترجمة. كما لم تأت في القصيدة جملة " أرتقب عبثاً عودة جوليا إليها")

**

ترجمة الدكتور محمد مندور

أنظل هكذا منساقين أبدا إلى شواطئ جديدة محمولين دائما وسط الليل الأبدي بغير رجعة؟

أوما نستطيع أن نلقي بمرساتنا يوما على شاطئ الزمن اللجي!

**

أيتها البحيرة ! لم يكد العام يتم دورته ومع ذلك انظري

ها أنا وحدي جالساً فوق هذه الصخرة

التي رأيتها جالسة عليها

وإلى جوار أمواجك العزيزة التي كانت ستعود إلى رؤيتها

**

سعيد محمد الجندوبي

هكذا، يُلقى بنا دوما نحو سواحل جديدة،

وفي الليل الأزليّ نُؤخذ بدون رجعة،

فهل بمقدورنا يوما، على سطح محيط الدهور

إلقاء المرساة ولو ليوم؟

**

ألا يا بحيرة! ها هو الحول قد دار

وعند الأمواج الحبيبة التيّ كانت من جديد ستراها،

أُنظري! ها أنا اليوم جئتُ وحيدا، لأجلس على تلك الصّخرة

الّتي طالما رأيتِها جالسة عليها!

وهذه ترجمات عدّة للمقطعين المذكوريْن (الأول والثاني) شعراً مقفّى أترك التعليق عليها للقارئ الحاذق ليقارن بينها ومدى التصاق كلّ ترجمة منهن بالقصيدة الأصل، كما جاء في الترجمة النثرية لهذين المقطعين أعلاه)

علي محمود طه (مهندس)

ليت شعري أهكذا نحن نمضي

في عباب الى شواطئ غُمض

*

ونخوض الزمان في جُنح ليل

أبديّ يُضني النفوس وينضي

*

وضفاف الحياة ترمقها العين

فبعض يمر في إثر بعض

*

دون أن نملك الرجوع الى ما

فات منه ولا الرسوّ بأرض

*

حدّثي القلب يا بحيرة مالي

لا أرى (أولفير) فوق ضفافك

*

أوشك العام أن يمرّ وهذا

موعد للقاء في مصطافك

*

صخرة العهد ويك ها أنا عُدت

فماذا لديك عن أضيافك

*

عدت وحدي أرعى الضفاف بعين

سفكت دمعها الليالي السوافك

**

 ابراهيم ناجي (طبيب)

من شاطئ لشواطئ جُددِ

يرمي بنا ليلٌ من الأبدِ

*

ما مرّ منه مضى فلم يعد ِ

هيهات مرسى يومه لغدِ!

**

سنة مضت! وختامها حانا

والدهر فرّق شملنا أبدا

*

ناج البحيرة وحدك الآنا

واجلس بهذا الصخر منفردا!

***

بهجت عباس (صيدلي) 

وهكذا في عباب البحر قد مَخرتْ

بنا السفينة نأيـاً عـنْ مراسيهـا

*

في ظلمـةٍ طوّقـتـنا غيرِ زائـلـةٍ

فلا صباحٌ يُـرَجّـى من حـواشيها

*

يجري بها البحر قُدْمـاً لا رجوعَ لها

ولا استراحةَ يوم راح يُسديهـا

*

تمرّ حيرى بشُطآنٍ بلا عدد

لكنهّا لا ترى مرفـا فيُـؤويهـا

**

أيا بحيـرةُ هلاّ تنظرين إلى

عـَوْدي وحيـداً وذكرى منْ لياليها

*

من بعد عام مضى قد عُدتُ ثانية

أعلـّل النفسَ لا شيءٌ يُسلّيـهـا

*

كاانت على الصَّخرة الصّماء جالسةً

والموج يرقص مختـالاً حوالِـيها

*

والآنَ أجلس وحدي فوق صخرتها

والنفسُ في شَجنٍ مَنْ ذا يواسيهـا؟

***

نقولا فياض (طبيب لبناني)

أهكذا أبداً تمضي أمانينا

نطوي الحياة وليل الموت يطوينا

*

تجري بنا سفن الأعمار ماخرة

بحر الوجود ولا نلقي مراسينا؟

*

بحيرة الحب حياك الحيا فلكم

كانت مياهك بالنجوى تُحيينا!

*

قد كنت أرجو ختام العام يجمعنا

واليوم للدهر لا يرجى تلاقينا

*

فجئت أجلس وحدي حيثما أخذت

عني الحبيبة أي الحب تلقينا

***

 اشتهرت هذه القصيدة رغم التصرّف الكثير في ترجمتها، كما يرى القارئ،  وهي على غرار قصيدة ابن زيدون التي مطلعها:

أضحى التنائي بديلاً من تدانينا

وناب عن طيب لقيانا تجافينا

***

عبد العزيز السيد مطر (أستاذ جامعي مصري)

يا إلهي! حرت في بحر الزمان!

هام فلكي في ظلام لا نهائي

*

لا أرى الشاطئ يدنو، أو أرى

أين أمضى، ما أمامي؟ ما ورائي؟

*

طالما ناديت، أرجو مرفأ

لسفيني، دون جدوى لندائي

**

جئت وحدي ها هنا مستلهما

حدثيني، هل توافي يا بحيرة؟

*

شارف العام تماما، فاشهدي

ما ألاقي من تباريح وحيره؟

وعلى هذا المنوال كانت بقية مقاطع القصيدة في كلّ الترجمات ولا استثناء!.

وهنا نلاحظ أنّ (روح) القصيدة الأصل موجود ولكن الهيكل مختلف. فكلّ مترجم (أضاف) كلمات أو جملاً ليست موجودة في الأصل، بل يكاد بعضها يكون بعيداً عنه. ولكن الدكتور أبراهيم ناجي أختزل الأصل بحذفه بعضه، فجاءت ترجمته مركّزة محوّرة. والنتيجة هي أنّ النقّاد أجمعوا على أنّ كلّ هذه الترجمات هي بحيرة لامارتين!

وهذه القصيدة كاملة حسب ترجمتي لها:

وهكذا في عباب البحر قد مَخرتْ

بنا السفينة نأياً عنْ مراسيهـــــــا

*

فـــــي ظلمةٍ طوّقتنا غيرِ زائلةٍ

فلا صباحٌ يُرَجّى من حواشيها

*

يجري بها البحر قُدْماً لا رجوعَ لها

ولا استراحةَ يومٍ راحَ يُسديهـــــــا

*

تَمرُّ حَيْرى بشُطآنٍ بلا عدد

لكنّها لا ترى مرفا فيُؤويها

*

أيا بحيرةُ هلاّ تنظرين إلــــــــى

عوْدي وحيداً وذكرى منْ لياليها

*

من بعد عام مضى قد عُدتُ ثانية

أعَلّلُ النَّفسَ لا شيءٌ يُسلّيهـــــــا

*

كانت على الصَّخرة الصّماء جالسةً

والموجُ يرقصُ مختالاً حَوالِيهــــــا

*

ويقذف الرّغوةَ النّعسى على قَدمَيْ

جوليا حُنوّاً فتشدو فـــــــي أغانيها

*

والآنَ أجلس وحدي فوق صخرتها

والنفسُ في شَجنٍ مَنْ ذا يواسيها؟

*

تذكـــــــــــري ليلةً والأنسُ يغمرُنا

ولا نرى غيرَ دنيا الحبِّ نَرويها

*

جرى بنا القاربُ السّهمان في مرح

تحت السّماء وفوق الماء ساريهـــا

*

وكلّ ما حولَنا صمتُ ولا صَخَبٌ

إلاّ المجاديفَ تشدو في مساعيها

*

لكنّ صوتاً لهُ سحـــــــــرٌ وهيمنةٌ

أصغتْ له النفسُ فانزاحتْ غواشيها:

*

يا أرضُ رِفْقاً بنا لا تُسرِعي أبداً

وطَوِّلي ليلةً رقَّتْ معانيهــــــــا

*

وأنتِ، أيتهــــا الساعات، لا تَثِبي

دعي الصّبابةَ ترعى منْ يُداريها

*

وخَلّيانا نعُبُّ الحبَّ في رغَــــــدٍ

وأسرعي مَعْ كئيب النفس داميها

*

وقصِّري ليلةً طالت على نَكِدٍ

مُسهَّدٍ راح بالأشجان يقضيها

*

لم يسمعِ الدهرُ صوتَ الحبِّ عن عَمَدٍ

إذْ يكرَهُ الحُبَّ والأزهارُ يُذويهـــــــا

*

فالصُبحُ قدْ هَتَكَ الليلَ البهيَّ بلا

عَطفٍ، ففارقتِ الأفراحُ راعيها

*

بحرُ الزمان ضنينٌ كله ضِغَنٌ

يمزق العمرَ والأيامُ يَطويها

*

إنَّ الزمان ليجري في تدفّقِهِ

وإنَّ أمواجَهُ لا رحمةٌ فيها

*

فلنَغْتَنِمْ فرصةً عَنّتْ على عجلٍ

مَنْ لمْ يُبادرْ إليها ليس يَجنيها

*

ولْنتْرعِ الكأسَ أفراحاً مُشَعْشِعةً

فإنَّ جَذوتَنا الأقدارُ تُطفيهــــــا

*

فليس للمرءِ مَرفا يستجيرُ بِهِ

وليس للنفس شُطآنٌ فتَحْميها

*

تجْري بنا لُججُ الأهوال مُسرعةً

نحو النِّهايةِ لا شيءٌ سيَثنيهــــا

*

فيا بحيرةُ يا ما ليلةٌ شهــــدتْ

حُبّاً تقضّى سريعاً في دياجيها

*

ويا صخوراً على الشَّاطي تداعبُها

الأمْواجُ في جذلٍ والماءُ يُرويها

*

وأنتِ يا غابةً سوداءَ مُظلمةً

تُجدّد العمرَ دوماً في مراعيها

*

لكُمْ خلودٌ فلا دهرٌ يُحطِّمُكمْ

ولا الرياحُ أو النَّسْماتُ يفْنيها

*

تذكّروا اْثْنيْنِ عاشا في ربوعِكِمُ

تساقَيا الحُب صَفْواً في أعاليها

***

في المثقف اليوم