قراءات نقدية

الشاعرة السودانية روضة الحاج في معاناة يمتصها مداد الأمل

ahmad alshekhawiهي شاعرة نابعة النموذجية من مفهوم الكتابة لأجل الكتابة، واعتناق القصيدة في رحاب الصوت الداخلي الجاد والقوي جدا والمفتوح على آفاق استنطاق ذاكرة التماس مع نقاط الإيديولوجيات المتحجرة التي تختزل الفحولة في وأد الأنثى، ليس فقط عبر محطات تنتقي أبشع صور عصور الظلام والجاهلية الأولى، وإنما على نحو يتخطى ذلك إلى أزمنة تتداخل وتتلاحق وتمتد في مخيلة تدين راهن استعباد المرأة وتهميشها وتغييب أدوارها وتجميد الطاقات المنافسة لأباطرة هواجس تمجيد النوع الآخر المضاد لها فسيولوجيا إجمالا. في حال سلّمنا بمعطى الوأد هنا باعتباره ثيمة مستحوذة التجليات في أقنعة دلالية عدة.

"وقال نسوة من المدينة

ألم يزل كعهدهِ القديم في دماكِ بعدْ؟؟

عذرتهن سيدي.'.'

أشفقتُ

ينتظرن أن أرد.'

وكيف لي وأنت في دمي

الآن بعد الآن قبل الآن

في غد وبعد غد.."

مسيرة إبداعية حافلة بعبق السخاء وموسومة بالبوح المراوح بين خطابات التفعيليّ الزاخر بالهم الجمعي المنتصر لنون النسوة ،والعروضي المنكفئ على سنابل الأنوية المتغزلة حدّ صوفية النبرة بالحالة الإنسانية في أسمى آي النبش في الموروث بشتى صنوف مخزوناته ، والاصطدام بالخرافي في ضوء رؤى استشرافية تلتمس شقوقها في رحم الغيب داخل حدود تتيح معالجة الظاهرة عبر سياقات حرفية المزج بين الفني والمعرفي.

بضع دواوين وعشرات القصائد المنتحية ذروة الانتشاء بطقوس تجريب الكؤوس العلقمية للمعاناة تبعا لإملاءات ريشة السهل الممتنع والنضال المهني المذيل باحتمالات تخليق كوة الأمل الكفيل باستنبات أكمام الجمال والحب والسلام ،من فتات الحياة ورمادها.

تلكم شاعرة حصدت عن جدارة واستحقاق زخما من الجوائز القيمة المحفزّة ، واحتلت الرتبة الرابعة في إحدى دورات إمارة الشعر بأبي ظبي.كما خلقت الحدث والمنعطف التاريخي بحيازتها لقب شاعرة سوق عكاظ الذي ظل حكرا على الأصوات الرجالية لحقبة طويلة.

" وكلانا قد تعدى ممكن الصبر طويلا

لن تجبني إن أنا استفهمتُ

يا عمري متى؟

حزني الآن مصاب بالذهول..

فتسلل

قبل أن يفهم ما يجري

توارى خلف ما شئت

وحاذر أن تقول

و انسرب كالروح مني

قبل أن تفعل يا روحي نزولا

عند رغبات الأفول..

ثم توظيف الاستفهام الاستنكاري بغرض صرف الاهتمام إلى ما ينم عن أسلوبية رسالية جاذبة إلى مركزية الحزن في جهاته الأربع ومن ثم عولمة تسويق فلسفة التشكيك في البيئة الحاضنة له وخلخلة مناخات تفشيه وانتشاره كورم ، واتهام أخطبوطيته بالهدم الروحي والنخر الذاتي.

" حين أسميك:صاح

وأدعوك: بعضي

ورمزا صغير يزين شعري

وأني أمارس جبن النساء الجميل

فأنكر حتى على الصحب أمري

فتطلع صوتا جديدا جميلا.."

هنا ذاتية تبعيض الآخر تندرج في أيقونة الفائض على قلب الأنثى في ممارستها الجبن الجميل الأقرب إلى الخجل المزدانة به طقوس الترنم بشعر مبستر يستمطر منظومة اعترافات مشروعة للطرف الثاني يرفد جلها في أبجدية التشارك والتفاعل والتكامل والامتداد.

"أحسّك بين نبض القلب نبضا   يضيء بمهجتي ومضا وبرقا

أحسّك في دمي سحر وعطرا   يناغم جاهدا فيما يبقــــــــى

وألمح أذاري عينيك نفســـي     أحدق فيهما صاح فارقـــــى

إلى أفق من الأشجان رحب       فأشفى ثم أشقى ثم أشقــــى

أحقا يا ربيع العمر يــــــوما     ستجمعنا دروب العمر حقـا"

حتى في غمرة النظم الخليليّ المتشحة به خارطة شطر/عجوز ،نلفي شاعرتنا أنأى ما تكون عن البخل على الذائقة بشعرية الانتماء الزمكاني الصارخ بروح المواكبة واحترام استقلالية خصوصيات قد ينفرد بها جيل عمّا سواه .

عمودية المبنى حتى لا أقول تقليدانيته ، لم تشكل أو تسهم مطلقا في فبركة أي من العوائق التي من شأنها الحيلولة دون النفاذ إلى ما ورائيات اللون قصد ترصيع المنجز بتجربة تروم كثافة الصور الشعرية البليغة و تحتفي بوابل الانزياحات وتوليد جملة من معاني التجاوز التي بوسعها احتواء المشهد الحياتي وتخليده عبر أبيات تتحرى البساطة العميقة وتتحاشى معجم المفردات المنبوذة والموحشة.

قد تطلب رسم ملامح المنفي كرمز أو كجزء متصل بالذات الشاعرة ،طاقة وجدانية صافية خامرتها ارتجالات ذهنية لم يكن ثمة بد من الاتكاء عليها لتشكيل هالة الأمل كبديل للفراغات الروحية المهيمنة على لحظة إنتاج ثقافة إنسانية شمولية تعيد للمرأة مكانتها وقداستها في الوعي على مستويات أشد حساسية.

"قل لي لمن آوي إذا زاد الهجير

أو تاه دربي في الزحام

وحرت بعدك في المسير

تمضي غدا.. وغد يلوح

ويظل يخفق متعبا ذاك الجريح

أترى سيأتي الصبح يوما

بعد وجهك ذا الصبيح

وغدا ستسألني القصائد عنك والليل الطويل

وغدا ستسألني المرائي عندما يأتي الأصيل

سأقول سافر كالمساء

وظللت وحدي للصقيع وللشتاء.."

يكمن القصد النشاز في عكس العلاقة بالمكون الطبيعي، ذلكم هو التعاطي المختلف والمغاير للسائد مع البحر وحصر المنظور إلى هذا الأزرق الغامض المغرق في الأسرار والأهوال،حصر المنظور إليه في زاوية الملهم الذي يوحي بضرورة تسخير الإيروتيكية وقفا على خدمة السبق فيها للروح قبل الجسد.

إذ أصل ا لاستفسار من المفترض أن تؤثثه لفظة ضديدة لاستفحال الهجير،محيلة على عوالم الجنسانية والشهوانية ، شأن سؤال يختمر في وعي كل أنثى في ربيع حالاتها الأكثر اعتيادية وألفة.

"أترى ستجمعنا الليالي كي نعود .. ونفترق؟.'

أترى تضيء لنا الشموع ومن ضياها.. نحترق؟.'

أخشى على الأمل الصغير بأن يموت.. ويختنق.'

اليوم سرنا ننسج الأحلاما

وغدا سيتركنا الزمان حطاما.."

تنضاف إلى قائمة مسؤوليات الذات الأشبه بشمعة تحترق مشبوبة بمنغصات التوجس المستقبلي في ظل واقع مضطرب وفوضوي وعبثي تعوزه أدنى ضمانات يمكن عبرها توسم المآل الفردوسي والخاتمة المحمودة.

ينضاف ثقل استشعار حجم الأمانة الأجدر أن تتطلبها رعاية الأمل الطفولي المتشبعة به فلسفة التمرد على عقليات التعاليم الجوفاء والأفدح تكلسا وعربدة بالمصير الأنثوي الغض المستنجد بهوية ما بعد جيل قمع الجسد.

"عبثا أحاول أن أزوّر محضر الإقرار

فالتوقيع يحبط حيلتي

ويردّني خجلى وقد سقط النصيف

أنا لم أرد إسقاطه

لكن كفي عاندتني

فهي في الأغلال ترفل

والرفاق بلا كفوف.."

هكذا يحدث تجسيد معين لطوباوية إثارة من إفرازات اللاشعور، تستهدف المتلقي وتفرض عليه حفنة تأويلات مستقاة من مقطع شعري باذخ تغلّفه المفارقة. كون بلاغ المرأة العربية ما ينفكّ ينشد اكتماله ويشاكس على جبهات ويمعن في ينبذ حقن الانتقاص كما يعريها مشهد إرادة معطلة تماما، لذات ،عبثا تحاول أن تستمد شحنتها المغذية من كف مغلولة أصلا وأحن ما تكون إلى حيز للحرية مهما تك نسبيته، مخول لبثّ تفاصيل البلاغ.

وطرقتُ يا خنساء بابك مرة أخرى

وألقيت السلام

ردّي علي تحيتي

قولي فإني لم أعد أقوى على نار الكلام

فلقد بكيتِ خناسُ صخرا واحدا

والآن أبكي ألف صخر..كل عام.'.'

رمزية الخنساء هاهنا إنما تم إقحامها بغية التمكين للكلام الناري و حمله على مطالعتنا متسربلا بهوليودية التجاوز .

كون استحضار فطرة البكاء باعثة على خلاف ما قد ينطبع في ذهنية التلقي ليفيد القناع اللوجيستي إذ يعاضد نضال امرأة ضد راهن مذبذب بين الانفتاح على الصوت الأنثوي والتشكيك في فعاليته كمعادل لصدى حضور الجنس الخشن.

"قد كنت أخشى الليل حولك والبروق وعاصفات الريح تزأر

والمطر

عش للمساء وللنسائم والسحر

عش للعشيات المبللة الثياب من المطر

عش للقصيد يزور بيتك رائعا..مثل القمر

ودع الّرحل في دروب الشوق..

درب الشوق يا قلبي وعر"

وكأنما الليل الآخر والزئبقي ــ إبداعيا ــ و الواشية حلميته بما يمهد لحياة ثانية في حضرة القصيد وتنفسه ملء رئة إدانة مجتمع الذكران في دونية وقصور مقاربة المرأة وفق موجبات النبش في ذاكرة الوأد كشاهد على جبن وخبث ودوغمائية تاريخ الأخطاء، لكن بلغة وأدوات وأسلوبية مغرقة في فرادة البصمة ومعسول البوح.

وحده استقباله الآني،كذاكرة للإلهام للفقد للغياب ، يجبّ الماضوية الطافحة بحمولة الأحاسيس السلبية تجاه ثالوث الذات فالآخر فالكون.

 

أحمد الشيخاوي

 

في المثقف اليوم