أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: بيان نيتشه حول القراءة

لم يكتب نيتشه لذوي الأذهان المشتتة او المتسرعين او المستريحين. هو اعتقد ان الكتاب يتطلب جهداً، يحرّض على المقاومة، ويترك بصمة له. في السنوات الأخيرة، كان هناك انتشارا هادئا للمقالات والكتب والكتيّبات تدعو القرّاء ليتجهوا للنصوص، وخاصة النصوص من غير الروايات، بعناية كبيرة واهتمام وبشك. من تقنيات القراءة السريعة الى بيانات في مدح التباطؤ، اصبح السؤال عن الكيفية التي يجب ان نقرأ بها هو الشغل الشاغل في عصر التشتت العالمي.

من الملائم اذن ان أي تفكير حول القراءة اليوم يجب ان يبدأ بفعل القراءة ذاته. وقبل وقت طويل من هذا الإنتعاش المعاصر، كان فردريك نيتشة (1844-1900) سلفا جعل فعل القراءة مركزيا في تفكيره.

قيل عادة، ان الفلاسفة مالوا لتجاهل عمل نيتشة الفلسفي، بينما الاكاديميون الكلاسيكيون من جهتهم نادرا ما اعتبروه كواحد منهم. وفي العقود التي تلت وفاته، بقيت هذه المظاهر لنتاجاته الاكثر انسجاما مع الدراسات الاكاديمية الكلاسيكية متجاهلة. على سبيل المثال، عندما سعى والتر كوفمان لإعادة تأهيل سمعة نيتشة في العالم الناطق بالانجليزية في الخمسينات من القرن الماضي، وفك الاشتباك بين تفكيره وظلال الاشتراكية القومية، لم تنل كتاباته الاكاديمية المبكرة اهتماما كبيرا.

وفي العقود الاخيرة، تمت استعادة نيتشة العالم اللغوي philoglogist بشكل تدريجي نتيجة التقدير الكبير للأعمال المطبوعة لأثنين من المختصين الايطاليين وهما ورجيو كولي ومازينو مونتيناري الذين أنتجا طبعات موثوقة لكتاباته بما في ذلك مراسلاته ومقاطع ما بعد الوفاة. اليوم، يقف الكلاسيكي نيتشه على أرض صلبة بجانب شخصيته الاخرى ذات التوجهات الفلسفية الواسعة.

بدأت انطلاقة نيتشه في الدراسة الاكاديمية الكلاسيكية في شولبفورتا، وهي مدرسة داخلية انسانية قرب ناومبورغ في ساكسونيا، تأسست المدرسة في القرن السادس عشر كأكاديمية رهبانية. أنتجت المدرسة جيلا بارزا من الخريجين، من ضمنهم الشاعر نوفاليس وفيشته والاخوين شليغل (فردريك واوغست). سيتبع نيتشه من هناك ويلاموفيتز، ناقده المستقبلي. ومن شولبفورتا، تقدّم نيتشة الى جامعة بون حيث كان يدرس تحت اشراف اوتو جان وفردريك ريتشل. الاخير وهو الممثل الصارم للتقاليد اللغوية لريتشارد بنتلي، أثّر بعمق على اتجاه نيتشه في التحليلات اللغوية والنقد النصي. وعندما انتقل ريتشل الى لايبزيغ، تبعه نيتشه ممضيا أربع سنوات مفصلية بين عامي 1865 و1869.

ضمن هذا التقليد، بدأ نيتشه عمله المهني كعالِم لغوي تقليدي: منهجي، دقيق، متمسك بشدة بالأساليب العلمية التخصصية لأساتذته. في عام 1869، اُعتبر نيتشه على نطاق واسع كمعجزة تسنده مرجعية ريتشل المتوهجة.  هو عُيّن في كرسي علم اللغة الكلاسيكية في جامعة باسيل دون ان يكمل اطروحة الدكتوراه.

كانت التحولات قد حدثت سلفا قبل تولّي نيتشه لمنصبه الرسمي. هذه كانت سنوات من الاضطراب العلمي والفلسفي السريع الذي شهد نشر نظرية دارون في التطور وكتاب تاريخ المادية (1866) لفردريك البرت لانغ. وفي نفس الوقت تقريبا، التقى نيتشه بـ واغنر واكتشف شوبنهاور. هذه التأثيرات مجتمعة أعادت تشكيل الافق الفكري لنيتشه وبدأت بسحبه بعيدا عن الارثودكسية اللغوية التي تشكّل فيها. وفي عام 1875، تخلّى نيتشه كليا عن علم اللغويات. ليس من المستغرب اذن ان نفس الرجل الذي أعلن في (شفق الاصنام) عن عدم ثقته في الأنظمة لم يسع أبدا الى صياغة تفكيره في علم اللغة. مع ذلك، تكشف القراءة الدقيقة لرسائله، ومقاطعه وتأملاته المتناثرة عن إنشغاله الدائم بفن القراءة.

يكتب نيتشة في كتابه (الفجر)،"لتكون لغويا ان تكون مدرسا في القراءة البطيئة. في النهاية انا ايضا تعلمت ان أكتب ببطء. انا طورت اسلوبي فقط من هذا". في هذه الرؤية، يأتي علم اللغة للاشارة الى القراءة اليقظة والقصدية. انه يقدم للقارئ مقياسا للمسافة من النص، فضاءً للجهد، تأملا، وعودة. احيانا، يتطلب الامر صمتا، مثل ذلك الصمت الذي تميز به رهبان القرون الوسطى لتعزيز بطء الروح. يستمر نيتشه ليطرح تشبيها حيا : "هذا الفن في الكتابة، مثل فن القراءة، هو فن غولدسمث (الخبير في الصناعات الذهبية)، فن يتطلب الكثير من الدقة والصبر، ومراقبة التفاصيل".

مما تقدم يبرز المبدأ الثاني: القراءة الصحيحة وبتحدّ هادئ تستبدل الروح السائدة للعمل الحديث والثقافة، التي تمجد السرعة والفاعلية والفهم السطحي. جوهر علم اللغة لا يكمن فقط في مقاومة الأزمان، وانما في السعي لتشكيلها، والإصرار على قيمة التأمل والدقة لأجل عصر لم يأت بعد. هذا الطموح هو الذي وصفه ويلاموفتيز بـ "فلسفة نيتشه للمستقبل": الايمان، قبل كل شيء، بانك لكي تقرأ بشكل صحيح هو ان تقرأ ببطء.

مع ذلك، البطء وحده لايكفي. نيتشه أصر ايضا على نوعية الانخراط. لكي يقرأ جيدا، يجب على المرء ان يكون نشطا بدلا من ان يكون سلبيا: القراءة ليست استهلاكا وانما مواجهة. هو يطرح اتفاقا ملزما بين اولئك الذين يتذوقون النص ويصارعون معه، واولئك الذين يسخر منهم ويصفهم بـ "المتسكعين": ناهبون يسلبون الأعمال من أجل الشعارات، ويتركون الباقي في حيرة. في كتابه انسان انساني جدا: كتاب الارواح الحرة ( Human, all too human)(1)، هو يشبّه هؤلاء القرّاء بجنود النهب. بالمقابل، القارئ المنضبط يشبه صائغ الروح، يصقل رؤاه بصبر في وعاء صهر الصعوبة.

في هذا الشأن، كان نيتشه يكتب للقلة. هو أعلن بوضوح مرات ومرات ان كتبه ليست موجهة لكل قارئ وانما لـ "القارئ المثالي": الذي يجمع بين الفضول والشجاعة والصبر. في كتابه شخص فريد (Ecce Homo) (2)هو يسمي مثل هذا الشخص بـ "وحش الشجاعة والفضول". هذه ليست مُثل ديمقراطية للقراءة، وانما هي ارستقراطية، كاستدعاء لاولئك الذين يرغبون ليس فقط بالاتفاق مع نيتشة ولكن للصراع معه وربما ليتم تغييرهم اثناء العملية. في كتابه (انسان انساني جدا ..) يعود نيتشة الى موضوع القراءة كحرفة، ويتعقب ظهورها كإنجاز بطيء وشاق.  هو يكتب "انتاج وحفظ النصوص، الى جانب تفسيراتها، بقيت لقرون عمل حرفي، قادت فقط  تدريجيا الى اكتشاف طرق ملائمة. كل القرون الوسطى كانت غير قادرة على تأسيس اتجاه علم لغة سليم، والذي هو، رغبة أساسية لفهم ما يعنيه المؤلف". الحكم تميّز بالجدل. نعم، سيكون تقصيرا اذا تجاهلنا حقيقة ان تعليم القرون الوسطى على الرغم من كل القيود الظاهرة، حفظ ونقل العديد من النصوص التي غذت لاحقا النهضة والعلم الحديث المبكر. نيتشه عاد باستمرار للفعل، والى فن القراءة طوال حياته.

في كتابه (المسيح الدجال)(3)، هو يصف القارئ المثالي " كونه يميز الحقائق الواقعية بدون تشويه من خلال عدسة التفسير، بدون التضحية بالتفكير النقدي والصبر او البراعة، في محاولة الفهم". هذه تشكل مبدأ نيتشه الثالث: علم اللغة، صدى للتحقيق وضبط النفس اليوناني، وهو يقف في تضاد مع دافع التفسير المتعجل. انه يقاوم الاغواء لفرض معنى قبل الأوان سواء كان في قراءة الكتب او استهلاك الاخبار، او الحكم على الأحداث المعاصرة.

في هذا، يتوقع نيتشه مشكلة ستشغل لاحقا اللسانيات الحديثة: الانزلاق في المعنى. مثل فرديناند سوسر، هو اعترف بان الكلمات لاتحمل قيمة ثابتة، وانما توجد علائقيا ضمن انظمة من الاختلاف. لذلك فان القراءة تتطلب حساسية حادة ليست فقط لما يقال وانما لكيفية القول وسببه.

القراءة، طبقا لنيتشه، لا تمنح بطبيعتها وبلا شروط  بعض الكتب مكانة راقية، هو اعتقد  انها يمكن ان تسمّم بسهولة كما يمكنها ان تقوّي: "هناك كتب لها قيمة هائلة للروح وللصحة". القارئ يجب ان يجلب التمحيص بالاضافة الى الصبر. الكتب ليست علاجا عالميا، ربما هي عامل للتآكل النشط . هي تقوّض الأصالة، تميل الى الخمول، او تغرق الذات في شعارات. قارئ نيتشه الحقيقي يقترب من الكتب ليس للفرار منها وانما لينمو من خلالها واحيانا ليفكر بخطورة اكبر.

من وجهة نظر نيتشه، القراءة المتأنية والقصدية تعمل كترياق للحداثة وللروح القلقة للعصر الصناعي. لكي نقرأ جيدا ذلك يتطلب عددا من الفضائل الفكرية: تركيز دائم، انفتاح ذهني، معايير نقدية، حساسية، وحكم تأملي. قبل كل هذا يجب على المرء ان يتعلم القراءة قبل الاندفاع للتحليل او التفسير. هذا التأكيد يعكس التزام نيتشه الفلسفي الواسع بالمنظورية، وهو المبدأ الذي بث الحياة بجميع أعماله. في عالمنا المحكوم دائما بالسرعة الخوارزمية والحافز للحكم، دعوة نيتشه للقراءة البطيئة ليست مجرد عادة اكاديمية وانما فعل فلسفي للمقاومة.

الدرس الأخير في رؤية نيتشه للقراءة هو درس صارخ: القراءة الحقيقية ينبغي ان تجرحنا. أحسن الكتب هي ليست تلك التي تهدئ او تؤكد وانما تلك التي تتطلب شيئا منا."في كل ما كُتب" هو قال، "انا أحب فقط ماكتبه شخص ما بدمه". مثل هذه الكتابة لا يتم التخلص منها، وانما يتم تحمّلها. حسب نيتشه، القارئ الحقيقي هو مغامر: يرغب ان يتميز بالمعنى وربما يتحول به.

حين نقرأ بهذه الروح لا نهرب من العالم وانما لكي نعد أنفسنا لمواجهته بحذر ودقة كبيرتين وربما بصدق أكبر.

***

حاتم حميد محسن

........................

Nietzsche’s manifesto for reading, Engelsberg Ideas.July2, 2025

الهوامش

(1) كتاب نيتشه (الانسان،انساني جدا:كتاب الارواح الحرة) نُشر لأول مرة عام 1878، يستدل فيه نيتشه على ان معتقداتنا الدينية وحوافزنا نحو تفسيرات ميتافيزيقية للعالم تتأسس على الخوف والجهل. بالنسبة له، نحن نتعامل مع اللغز ورعب الوجود عبر خلق آلهة ودوغمائيات لكي نريح أنفسنا. يشير الكتاب الى الفكرة بان الناس بطبيعتهم معيبون ومحدودون، غالبا بطرق يمكن التنبؤ بها وحتى عادية. انه يسلط الضوء على القاعدة الحيوانية والمظاهر المعيبة لطبيعة الانسان، بما يشير الى ان تبريراتنا وتصوراتنا عن أنفسنا انما تخفي عنا حقيقتنا التي عادة ما تكون متواضعة.

(2) يشير معنى الكتاب Ecce Homo الى شخص هام جدا، لكن عنوان نيتشه يقدم تباينا ساخرا لهذه الرمزية. شخص هام وفريد، مثال للرجل وفق اعتباراتك وليس كنموذج للاخلاق، ليس رجلا للتقليد او للعبادة.

(3) في كتاب نيتشه (المسيح الدجال) الذي نُشر عام 1895 اعتقد ان الحداثة كانت مرضا احتاج الناس للتحرر منه. من أجل استعادة الغريزة الطبيعية للانسان، يرى نيتشه ان كل الاديان وأولها المسيحية يجب رفضها. كل الفضائل والحوافز يجب ان تأتي من الفرد وليس من دين او دوغما خارجية.  

 

في المثقف اليوم