قراءة في كتاب

عبد السلام فاروق: سحابة أفكار.. بين جبلين

صدق القائل أن الأفكار لها أجنحة، إنها تتحرك حركة ذاتية أو قد تحركها رياح التغيير فتتجاوز المكان والزمان. وبين علَمين من أعلام النقد تحركت فكرة أو كتلة فكرية لها دورها فى إمطارنا بالمعاني والإلهامات. إنها فكرة كالعدوي أو كنبات يعاد استزراعه مرة بعد مرة. فأما الفكرة فقد اشتهرت أولاً عن الفيلسوف الفرنسي "جوليان بيندا" المتوفي عام 1956. ثم تلقفها منه الناقد الفلسطيني الأمريكي "إدوارد سعيد" المتوفي عام 2003. وبين عصرين بقيت الفكرة، ونبت لها واقع جديد أعاد لها الحياة، وأبقي للنقد أنفاساً تتردد فى صدر الدنيا لتوقظ الأعين المسدلة وتنبه العقول المقفلة عن واقع يراد نسيانه والتنكر له.

إنها مقالة: "خيانة المثقفين" التي تناولها جوليان بيندا؛ فهزَّ بها ضمائر أماتتها الغفلة. ثم رأي إدوارد سعيد فى أوخر حياته ضرورة استدعاء ذلك الأثر المحرك للمثقفين الناقد لهم والناقم عليهم؛ فكتب كتابه الشهير: "خيانة المثقفين. النصوص الأخيرة". وهي محصلة عدد من المقالات واللقاءات الحوارية والمناقشات التي طالما طافت محاضراته حولها منذ بدأ يستحوذ على انتباه المجتمع المثقف فى أمريكا وهنا فى المشرق العربي، بنقده الجريء الموضوعي حول مانشيتات محورية كالاستشراق والقضية الفلسطينية والكولينالية وعلاقة الإمبريالية بالصهيونية العالمية والمعايير المزدوجة لأمريكا تجاه قضايا المشرق العربي. وفي المجمل حمل سعيد همَّ المثقف العربي والغربي، ووضع يده على الجرح النازف هنا وهناك. منطلقاً من شعوره العميق بضرورة توحده مع قضاياه وأن يكون له مع هموم وطنه موقف. لقد انبهر نعوم تشوميسكي بأحد كتبه فقال مادحاً إياه: (.. يتميز بالأصالة البالغة والابتكار والاستبصار والدراسة البارعة..).

هل يخون المثقف ذاته؟

عبارة أكدها طه حسين سابقاً: "أن المثقفين لا يخلقون التاريخ، وإنما يفسرونه ويوجهونه" فإذا بنا نجد أصداءها في كتاب إدوارد سعيد عن خيانة المثقفين. نصوص جمعها المفكر الفلسطيني الأمريكي فى أواخر حياته، بين عام 1993 وعام 2003 متأثراً برسالة جوليان بيندا ، عام 1927م، التي حملت نفس العنوان.

طاف الكتاب المهم حول فكرة رئيسية مفادها أن الثقافة ليست كياناً متراصاً أو متجانساً، وهي ليست كلية ولا فردية وإنما نتاج المهيمن. ولهذا انتهى إلى "عداء تام لما يسمى بالنظرية، من أورباخ إلى فوكو" داعياً إلى التخلص من الآراء والميول السياسية المتطرفة . هذا الموقف النقدي الجذري يمثل ذروة تطور فكره الذي بدأه في "الاستشراق" و"الثقافة والإمبريالية". ثم توجَّه إلى المثقف والثقافة ليفضح كل مواقف الصمت والتخاذل والسلبية.

الكتاب ضم 39 نصاً بين مقال ومقابلة، تناولت مواضيع متشعبة تراوحت بين السياسة والثقافة والأدب، كالصهيونية الأمريكية كاشفاً دور اللوبيات الصهيونية على القرار الأمريكي. وكتب عن: "صدام الجهل"، وهو مقال كتبه بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، كشف فيه اللثام عن الوضع العربي المأزوم. ثم انتقل لموضوعه الأساسي: "خيانة المثقفين" الذي استلهم فيه أفكار جوليان بندا وطبقها على الواقع العربي وقتذاك. وهي أفكار تنسحب علينا الآن كما انسحبت على واقعنا بالأمس. إذ لا شئ تغير إلا إلى أسوأ.

حول معاني الخيانة

قدَّم سعيد في كتابه تشريحاً دقيقاً لأشكال الخيانة التي يمارسها المثقفون المعاصرون؛ وأولها الصمت، حين يصمت المثقف عن قول الحقيقة خوفاً أو طمعاً. وأن "الصمت أصبح سلعة ثمينة في سوق المثقفين" عندما يتبنى كثيرون خطاب السلطة بدلاً من تحليله ونقده. ثم تحدث سعيد عن خيانة التبعية: وهي أخطر أنواع الخيانة في نظر سعيد، وفيها يتحول المثقف إلى "ببغاء" يردد أفكاراً جاهزة دون تمحيص. يسخر سعيد من أولئك الذين "يستوردون النظريات كما تُستورد السلع الاستهلاكية المستعملة" دون مناقشة أو مساءلة أو إسقاط على الواقع زماناً ومكاناً. ثم هناك نوع ثالث هو خيانة التزييف؛ يتحول معها المثقفون لأداة تجميل للواقع القبيح. وصفهم سعيد بأنهم: "يبيعون كلماتهم لتبييض صفحات الأنظمة المستبدة". كلها أشكال قديمة ومتكررة من أشكال الخيانة التي يمارسها المثقفون على الرغم من علمهم وإدراكهم لحقائق الأمور.

يقول إدوارد: "إن المثقف الحقيقي هو ذلك الذي لا يجد له وطناً إلا في الأسئلة" عبارة تصلح كمدخل لفهم الإشكالية المركزية في كتاب "خيانة المثقفين: النصوص الأخيرة". فالمثقف في رؤية سعيد ليس مجرد ناقل للمعرفة، بل هو "شاهد على العصر" الذي يعيش فيه، شاهد لا يكتفي بالتسجيل بل يمارس النقد والمساءلة.

وإذا كان جوليان بيندا قد وجه سهام نقده إلى المثقفين الأوروبيين الذين خانوا رسالتهم الأخلاقية بانحيازهم للقوميات المتطرفة في عشرينيات القرن الماضي، فإن إدوارد سعيد قد وسَّع نطاق هذه الرؤية لتنطبق على المثقف العربي الذي يقف صامتاً أمام "الانتهاكات المروعة لأي سلطة ضد الشعوب المقهورة".

الفرق الجوهري بين الرؤيتين يكمن في أن بندا كان يدعو إلى مثالية مجردة، بينما يربط سعيد دور المثقف بالسياق التاريخي والسياسي الملموس. فـ"الثقافة والسياسة هما نفس الشيء" في نظر سعيد. والسبب في موقفه هذا أن سعيداً نفسه عايش هذه الإشكالية بشكل مأساوي، فهو الفلسطيني المولود في القدس، المثقف الأمريكي المتخرج من جامعات النخبة، الأكاديمي الذي يتحدث بلغة المستعمر لكنه يرفض منطق الاستعمار. هذه الازدواجية لم تكن عنده نقصاً بل مصدر قوة، إذ يقول: "لقد منحني موقعي الهامشي رؤية أكثر وضوحاً لما يحدث في المركز".

المثقف موقف وكلمة

لم ينشأ موقف "إدوارد سعيد" ضد الغرب من فراغ.. إنه ابن لرجل فلسطيني بروتستانتي إنجيلي، هو "وديع وليام إبراهيم سعيد"، خدم فى الحرب العالمية الأولي فى فرنسا ضمن القوات الأمريكية، ثم انتقل قبل ولادة ابنه "إدوارد" بعشر سنوات إلى القاهرة ضمن هجرة الشوام للعاصمة المصرية التي كانت مركز إشعاع ثقافي. وعاش إدوارد سعيد حتي عمر الثانية عشرة متنقلاً بين القاهرة والقدس، ثم صودرت أملاك عائلته فى القدس وضحت العائلة من اللاجئين، فالتحق إدوارد بكلية فكتوريا بالاسكندرية، ثم أرسله والده للدراسة فى أمريكا بإحدي المدارس الداخلية وهو ابن 15 سنة ليتمكن من الحصول على الجنسية الأمريكية. وهناك تفوق إدوارد حتي نال الماجستير والدكتوراه من جامعة هارفارد برسالة عن الروائي البولوني الإنجليزي جوزيف كونراد، وهي أول مؤلفات سعيد، التي ضم لها دراسة عن السيرة الذاتية وأصدر الكتاب عام 1966م.

بقي إدوارد مخلصاً لأفكاره ومبادئه، ولم يفقد شعوره بالمسئولية نحو وطنه الأم فلسطين. ولهذا جاءت أكثر مؤلفاته عنها بشكل مباشر أو غير مباشر. فكتب: "مسألة فلسطين"، و"ما بعد السماء الأخيرة- حياة الفلسطينيين"، و"سياسة التجريد، كفاح شعب فلسطين". وحتي كتبه عن الإمبريالية والاستعمار والقومية تصب فى هذا المعين والمعني.

كان من الممكن أن يتنكر إدوارد لقضاياه، وأن ينفصل عن واقعه ويدير ظهره لضميره كما يفعل كثير من المتثاقفين والأفاقين، لكنه لم يفعل، بل كان لساناً قوي الحجة والتأثير، ظل على الدوام متمسكاً بمواقفه الثابتة، موجهاً رسالته للمثقفين باعتبارهم ضمير الأمة الحي.

إنها قوة الاحتجاج

ليس صحيحاً أن صاحب الكلمة ضعيف لأنه لا يملك فى يده عناصر القوة وأدواتها..

وفي كتابه "خيانة المثقفين" يمارس سعيد نوعاً من النقد الذاتي لنفسه وللمثقفين عموماً؛ فيطرح أسئلة محرجة عن موقع المثقف بين السلطة والمعارضة. وهو يسجل بمرارة كيف أن "الصورة المكبّرة والخيالية" له في نيويورك تايمز كانت كافية لمنعه من إلقاء محاضرة أكاديمية. حدث هذا عندما تم منع سعيد من إلقاء محاضرة في معهد فرويد بفيينا بسبب صورة نشرتها نيويورك تايمز له وهو يرمي حجارة رمزية نحو فلسطين المحتلة.

هذه الحادثة أظهرت المفارقة التي عاشها سعيد: مثقف غربي التعليم واللغة، لكنه مرفوض من المؤسسة الغربية بسبب مواقفه من القضية الفلسطينية. إنها "خيانة مزدوجة" كما يمكن أن نسميها: خيانة المثقفين العرب لشعوبهم، وخيانة المثقفين الغربيين لقيم الحرية التي يدعون الدفاع عنها. في ختام كتابه دعا سعيد إلى استخدام "قوة الاحتجاج" كوسيلة وحيدة لمواجهة "الخزي الذي يعيشه العالم العربي" . هذه الدعوة لا تعني الانخراط في السياسة الحزبية الضيقة، بل تبني موقف نقدي جذري من كل أشكال الهيمنة. فالمثقف الحقيقي، في نظر سعيد، ليس من يعيش في برج عاجي، بل من يخوض المعركة من موقع معرفي رصين، مدركاً أن "الثقافة تعني طريقة مميزة في العيش" وليست مجرد تنظيرات مجردة.

لقد كان لإدوارد سعيد نظرة ثاقبة بعيدة المدي، ظهرت فى كلمات قالها فى مقابلة له مع جريدة الأهرام فى إبريل 2003، قبيل موته بقليل؛ إذ قال: (اعتقادي الراسخ، على الرغم من عدم وجود دليل بالمعني التقليدي للكلمة، بأنهم يريدون تغيير الشرق الأوسط برمته والعالم العربي. ربما يتم تقسيم بعض الدول وتدمير ما يسمي مجموعات الإرهاب، وتنصيب أنظمة صديقة للولايات المتحدة. لكنني أعتقد أن هذا الحلم لا يوجد له سوي أساسات قليلة على أرض الواقع، فالمعلومات التي يملكونها عن الشرق الأوسط يمكن القول إنها خارج التاريخ ومتضاربة بشكل كبير..).

تقرير واقع. ونموذج بديل

خصص سعيد جزءاً كبيراً من كتابه لتحليل وضع المثقف العربي الذي يعيش، في نظره، "أزمة وجودية حقيقية". وأهم تجلياتها: "الانفصام بين الخطاب والممارسة"  فالمثقف العربي يدعو للديمقراطية لكنه لا يطبقها كمبدأ داخل المؤسسات الثقافية والأكاديمية. وأنه مثقف منكفئ على ذاته؛ بدلاً من الانفتاح على العالم، يردد ذات السردية الغربية كتابع مقلد.

ثم يضع إدوارد سعيد تصوراً لمثقف عربي بديل يتميز بالاستقلالية الفكرية، يقف وحيداً إذا لزم الأمر، ولا يتبع القطيع ولا يخضع لضغوط السلطة. وهو مثقف يمارس نقداً ذاتياً؛ يحاسب نفسه قبل مجتمعه. وهو منخرط مع واقعه يضع يده على جراح المجتمع ويعيش هموم الناس العاديين ولا ينفصل عن واقعهم.

هكذا يختم سعيد كتابه بتأكيد أن "المهمة الأساسية للمثقف هي أن يكون مقلقاً غير مريح، أن يزعج الساكن، أن يطرح الأسئلة المحرجة". أو على حد تعبير طه حسين: "المثقف الحقيقي هو الذي يوقظ الأمة من سباتها، حتى لو كرهته الأمة نفسها"، أو كما يقول بيت الشعر الشهير: (لقد أسمعت لو ناديت حياً. ولكن لا حياة لمن تنادي).

في زمن العولمة والاستلاب الثقافي، يظل كتاب "خيانة المثقفين" لإدوارد سعيد مرجعاً أساسياً لفهم الدور الحقيقي للمثقف في مواجهة التحديات المعاصرة. إنه ليس كتاباً نقدياً فحسب، بل هو كتاب تحفيزي للمثقف وللحراك الثقافي المثمر. وفي هذا الإطار كتب إدوارد سعيد يقول: "المثقف ليس من يملك الإجابات الجاهزة، بل من يملك الشجاعة لطرح الأسئلة الصعبة".

ربما كان هذا هو الدرس الأهم الذي يقدمه هذا الكتاب، وتظل الفكرة على تألقها وتوهجها صالحة لأيامنا هذه وما يدور فيها من أحداث تستنهض الهمم والضمائر والألسنة.

***

د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم