قراءات نقدية

مَن يأبهُ؟!.. قراءة نقدية لنص الشاعر جواد الحطاب

abdulreda ali(من يأبه؟!) .. نصٌّ فنيٌّ من النصوصِ المغايرةِ المفتوحةِ التي تحتاجُ إلى قارئ جادٍ ـ بكلِّ معنى الجدِّيةِ ـ، فهو ترميزيٌّ شفّافٌ غيرُ مستغلقٍ، صارخٌ مبطّنٌ بالمسكوتِ عنه، لكنَّ هذا المسكوت عنهُ يُراوغُ القارئ بين الحينِ والآخرِ فيشي ببعضِ ما في باطنِهِ من غليانٍ، وسنشيرُ إليهِ بعد قليل.

في هذا النصِّ عتماتٌ كابوسيّةٍ (لمستيقظينَ مصابينَ بوهنِ الاضطراب النفسي) تقومُ على تكرارِ جملة عبثيّةٍ واحدةٍ هي (من يأبه؟!)، وهذه الجملةُ المكرّرةُ قد أغنتِ النصَّ، ومنحته ظلالاً من إيماءاتِ المسكوتِ عنه، علماً أنَّ التكرار يسلِّطُ الضوءَ على نقطةٍ حسّاسةٍ في العبارةِ، ويجعل منها نوعاً من التوازن الدقيق الخفيِّ الذي ينبغي أن يحافظ عليه الشاعر في الحالات كلِّها، لكونها مركز الثقَلِ في القصد. ¹

تقومُ بنيةُ هذا النصِّ على تقنيةِ (الراوي العليم)، وهذا الراوي هو في الوقتِ نفسهِ بطلُ النصِّ، ومحورُ الحبكة الدراميّة فيه، أمّا فلسفةُ النصِّ، أو فكرتُهُ، فإنّها تتلخّصُ في مجيء الشرطةِ لإلقاءِ القبضِ على البطلِ الذي لا يعرفُ له سبباً، وحين يسألُ الضابط عن السبب يُجابهُ بجملة (ومن يأبه؟) دليلاً على أنَّ الضابط نفسه لا يعرفُ السبب، وكأنّ هذه الجملةَ تفصحُ عن قدريّة مفروضة ترفضُ النقاشَ، أو الاستفسار، وحينَ يدقّقُ الراوي بأمرِ القبضِ لا يجدُهُ يحملُ تأريخاً، فيستفسرُ عن غياب التاريخ، فيهمسُ الضابطُ في أذنه (إنهُ أشبه ما يكونُ بيومٍ كهذا) فيرتضي المتهم بقدريّةِ الأمرِ، ويقنعُ نفسهُ بأنه أيضاً لا يأبه بالأيام، لكنّه حين يجدُ أنَّ أمرَ القبضِ هزيلُ الديباجةِ، ودون ضوابط لغويّةٍ من فوارزَ، وتنقيطٍ يشاورهُ الضابطُ أيضاً بجملة (ومن يأبه؟)، ومع تكرارِ هذهِ الجملةِ الكابوسيّةِ، وإذعانهِ لمنطقها اللامنطقِ، فإنّه يستغربُ من أنَّ أمرَ إلقاءِ القبضِ كان خلواً أيضاً من اسم المطلوب، فيشاورهُ الضابط مستهجناً ( من يأبه بخواءٍ بشريٍّ؟ أتظنُّ الأسماء ستعترضُ الشرطة؟!! الأسماءُ بلا معنى) وهكذا يستمرُّ النصُّ بتقديمِ إجاباتِ الضابطِ العبثيّةِ، فيكتشفُ المتلقّي أنَّ هذا النصَّ يريدُ الوصولَ إلى شأوٍ مفادُهُ أنَّ الإنسانَ أضحى بلا معنى، والأمرُ نفسُهُ ينسحبُ على أسماءِ الناسِ بالمحصّلةِ النهائيّةِ، لكنَّ النصَّ يتصاعد في توتّرهِ إلى الذروةِ حينَ يهمسُ الضابط بأذنِ المقبوضِ عليه: (نحنُ بلا معنى).

إنَّ هلوسةِ الأداءِ الحواريّ (الديالوج) في هذا النصِّ تذكّرُنا بهلوسةِ بطل رواية (المسخ) لـ (فرانز كافكا) الذي انتهى إلى عالمٍ لا يمكنُ الخلاص منه إلا بالاستسلام للموت في بالوعةِ الحياة بعد أن تخلّى عنه الجميع، وهي نتيجة مشابهة لعالم هذا المقبوضِ عليه، فهو يخضع لقوانين لا علاقةَ لها بالأخلاقِ، و محكومٌ عليهِ بالموتِ لأنه لا يتلاءمُ مع عالمها المفروض قسراً، وعبثاً كانَ مذهبه في الحياة، لذلك يصلُ إلى نتيجةٍ صادمةٍ تقول: (الخارجُ والداخلُ زنزانةٌ، ومن يأبهُ؟، فالإنسانُ بخدمةِ زنزانتهِ) وتلك هي صرخةُ الأعماق العالية التي يؤصّلُها نصُّ جواد الحطّاب الذكيّ، غير أنَّ المفارقة التي يثيرها الراوي تكمن في تساؤله الذي لم يجرؤْ على البوح به للشرطة (وكدت أسأل: هل ستضعون على شاهدتي رقما؟!! . .. ومن يأبه،سيقولُ الضابط).

لقد أرادَ بطل النصِّ أن يكونَ أبيقوريّاً كـ(زوربا اليوناني) يُحبُّ الحياة، ويسعى إلى ذكر الفرح في أشد حالات حزنه، ففكّر بالهجرةِ إلى اليونانِ، لكنَّ إلقاءِ القبضِ عليهِ حال دونها، وهو هنا يُشيرُ بإيماءةٍ ذكيّة إلى ما كان قد حصل للمهاجرين حين ابتلعهم بحر إيجة قائلاً: (قلت لنفسي: حسنا فعلتُ فأنا يقلقني دوارُ البحر وانتوني كوين، لم يتعرّ في ساحل إيجة ) وهي إيماءة ذكيّة أخرى إلى أنَّ المهاجرين الذين يموتون عرايا في بحر إيجة ليسوا أميركيين، أو مكسيكيين ² .

 

أ.د. عبد الرضا عليّ

..................

إحـــــالات

(1) ينظر : نازك الملائكة، قضايا الشعر المعاصر ص: 275 ـ 276.

(2) لأنَّ (أنتوني كوين) كان أميركيّاً مكسيكيّاً.

 

للاطلاع على النص

http://almothaqaf.com/index.php/nesos2016/902443.html

 

في المثقف اليوم