قراءات نقدية

عبد الرضا عليّ: نصوصُ عليٍّ الزاغينيِّ الوامضةِ في: أنثى البنفسج

abdulreda aliمعظمُ كتّابِ العقدِ الأوّلِ من هذا القرنِ ـ الحادي والعشرين ـ وكاتباتِهِ قد تأثّروا بكتَّاباتِ القابضينَ (باقتدارٍ) على جمرةِ النصوصِ الإبداعيَّةِ المفتوحةِ، ومالوا إلى الاشتغالِ على وفقِ صياغاتِهم لها في تكثيفِ الجملةِ، والتركيزِ على اللمحةِ الدالّةِ في الأداءِ، مع اهتمامِهم اللامحدود بشعريّةِ الفقراتِ، وصلةِ الفقرةِ بالأخرى لتكوينِ النسيجِ العام.

965-zaginiوقد كان لقصائدِ اللمحةِ الشعريّةِ القصيرةِ أوضحُ الأثرِ في هذه الموجةِ، ومن يستقري نصوصَ المجاميعِ التي ظهرت في هذا العقدِ من القرنِ الذي ألمعنا إليهِ يظنُّ كلَّ الظنِّ أنَّ للتحوّلاتِ السياسيّةِ تأثيراً واضحاً في هذا الميل، فلم يعد المتلقّي (في هذا الزّمنِ المُتعِبِ) قادراً على تحمُّلِ القصائدِ الطوال، والاشتغال على تفاصيلِها، وكشف المسكوتِ عنهُ في خفاياها ـ باستثناءِ قصائدِ المناسباتِ ـ وهو يُعاني من قلقٍ وجوديٍّ تُثيرُهُ التابوات العديدةُ في يومهِ المعيش بالقلق.

ولعلَّ عليَّاً الزاغينيَّ في مجموعتهِ البكرِ (أُنثى البنفسج) كان واحداً ممّن اشتغلَ، وانشغلَ بهذا الأسلوبِ التكثيفيِّ ، فعمدَ إلى كتابةِ هذهِ النصوصِ الوامضةِ على وفقِ تركيزٍ شديدٍ في تسعين ومضةً من مجموعِ ومضاتِها البالغة إحدى وتسعين على الرغم من تنوّعِ فلسفاتٍ تلك الومضاتِ، واختلافِ مضامينِها، حتى أنَّ القارىء الكريمَ لا يعدمُ أن يقرأ ومضاتٍ من سطرينِ اثنينِ ليس غير، كما في (تبخّر) التي يقولُ فيها:

عندَما التقينا

تبخَّرتْ سنواتُ الانتظار

وكما في (إدراك):

أدركتُ سرَّ غيابِكِ

فقرَّرتُ النسيان

*****

ومع أنَّ معظمَ هذهِ الومضاتِ تُعنى بوجعِ الذاتِ الذي يسبّبهُ الولهُ المكتومُ، إلا أنَّها اهتمَّت أيضاً بموضوعاتٍ أخرى، كان منها (الحزنُ) الذي يعيشُ في أعماقِ الذاتِ الشاعرةِ، ويطبقُ عليها، كما في (أجنحة):

الفراقُ يقتلُ مساءَ الأمنيات

وهناكَ

دموعٌ مخيفةٌ تحتَ أجنحةِ الظلام.

وكما في (نحيب):

دموع السماءِ كفى نحيباً

ما عادَ في القلبِ

مكانٌ للحزن.

وكما في (بحر):

سأكتُبُ ما أشاءُ من الذكريات

فإنَّ بحرَ الألمِ

لا يتوقّف.

وهي ومضاتٌ الأعماقِ التي تُعاني ألماً محرقاً مُمِضّاً دائمَ الوجع.

وإذا كانت تلك الومضاتُ التي مرَّتْ قد عنيَتْ بوجعِ الذاتِ ، فإنَّ ومضاتٍ مركّزة أخرى حملت (مفارقات) اليومي والمعيش التي تتكرّر في حياة المحبّين، كما في (هروب) التي أوضحت أنّ الهروبَ من الولهِ هو هروبٌ منه إليه:

أهربُ منكِ

فأجدُ نفسي

بين ذراعيك.

وكما في (إهداء) التي حملت مفارقتُها توريةً إيروتيكيّة:

أهديتُها قلماً

أعادتْهُ لي

بعد أن نفدَ حبرُه.

وكما في (استفسار) التي حملت مفارقتُها إيثارَ الولهانِ أمام إثرةِ المحبوب:

سألتْهُ يوماً لماذا أرى الابتسامةَ على محيّاك؟

يتمهّلُ قليلاً قبل أنْ يُجيب

وهو يرسمُ ابتسامتَهُ بهدوءٍ

لكي تكوني سعيدةً وأنا أكتُمُ

أحزاني.

أمّا في (مفارقة) فإنَّ ومضتها جنحت إلى التهويمِ المعنويِّ من خللِ تلاعبها في الصياغة:

لم يكنْ بالحسبانِ أنْ نلتقي !

ولكن

شاءتِ الأقدارُ

أنْ نفترق.

وإذا كانت ومضاتُ عليّ الزاغيني في المفارقاتٍ عديدةً، فإنَّ ومضاتِهِ في موضوعة (الهزيمة) التي تسبّبُ للذاتِ الشاعرةِ الانكسارَ، والإخفاقَ قد لا تقلُّ عنها إن لم تكن أكثر منها، كما في (غرباء) التي يعلنُ بطلُ ومضتِها عن اعترافهِ بخسرانِ تجربتِهِ:

سأرتِّبُ كلَّ حقائبِكِ

وأنتظرُ

الغرباء.

وكما في (سراب) التي تعلنُ ومضتُها عن احتقارِ المستقبلِ الذي بُنيَ على سرابٍ الرؤيا:

خطواتُكِ سراب

والقادمُ من الأيّامِ

يحتضرُ.

وكما في (توبيخ) التي تُعلنُ صرخةُ الأعماقِ فيها عن غضبها من لعبةِ الأقدارِ، ولعنتها للخيانةِ والخائنين عشّاقاً ومعشوقين:

تبّاً لكلِّ امرأةٍ

ولكلِّ عاشقٍ

ولكلِّ لحظةِ خيانةٍ

ولكلِّ

لعبةِ قدر.

لقد تعدّدتْ موضوعاتُ هذه الومضاتِ المركَّزة على نحوٍ غيرِ مقيّدٍ، لذلك لا يعدمُ المتلقّي الكريم أنْ يجدَ في بعضِها ما يجنحُ إلى جعلِ الذاتِ الشاعرةِ تصدرُ ما يُشبِهُ الأقوالَ المأثورةَ، كما في (محطّة) التي ركّزت على قبول القدر، والإقرار بحتميّةِ وقوعه:

للزمنِ محطّاتٌ لا تتوقّفُ متى نشاءُ

لكنَّها ترغمُنا على الترجّلِ

متى تشاءُ.

وكما في (حجاب) التي تقرّرُ الذاتُ الشاعرةُ فيها المضيَّ قُدماً لتحقيقِ هدفها باعتدادٍ لا يخلو من نرجسيّةِ القرار:

الغيومُ البيضاء

لا تحجبُ الشمس

والمسافاتُ

لا تُبعِدُ العاشقين.

وكما في (ترجمة) التي تحملُ ومضتُها قطعيّةً في القرار:

للهذيانِ لغةٌ

لا نحتاجُ لترجَمَتِها.

إنَّ هذهِ الومضاتِ المكثَّفةَ التي اشتغلَ عليها (عليٌّ الزاغينيُّ) دلَّتْ على كونِهِ جريئاً في تعاملِهِ مع بعضِ أسئلةِ الذاتِ الشاعرةِ المأزومةِ للوصولِ إلى خُلاصاتٍ يمكنُ لها أن تُجيبَ عن بعضِ ما كانَ يعتري الأعماقَ من اضطرابٍ في الموقفِ من الحياةِ، والمجتمع، والحبِّ الذي تحوَّلَ إلى ما يُشبِهُ الوجعَ اليوميّ المعيش . وعلى وفقِ ما مرَّ فإنَّ هذه الومضات قمينَةٌ بالقراءةِ الذكيّةِ لسبرِ أغوارِها، واكتشافِ هيكليّةِ إدراكِ صانعِ نصوصِها فنيّاً ولعلَّها (بالتأكيد) ستكشفُ ما في هذه الومضات من جديدٍ

 

في المثقف اليوم